فقة التعامل بين الزوجين
(4)
المبحث الثالث : الحقوق الخاصة بالزوج
وفيه تمهيد وخمسة مطالب
تمهيد
إذا كانتْ تلك هي بعض حُقُوق المرأة على الرَّجل، فإنَّ حقَّ الرَّجل على المرأة أعظمُ وآكد، وواجبها تُجاهَه أكبر وأشد، بل ليس على المرأة بعد حقِّ الله تعالى وحقِّ رسوله أوجب من حقِّ الزَّوج ،
حتَّى لقد قال النبي : (لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يَسجُدَ لأحدٍ، لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها؛ مِن عِظَمِ حقِّه عليها، والذي نفسي بيده لا تُؤدِّي المرأةُ حقَّ ربِّها حتَّى تؤدِّيَ حقَّ زوجها) أخرجه الترمذي .
وزاد في روايةٍ عَنْ أَنَسٍ : (لَا يَصْلُحُ لِبَشَرِ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرِ وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرِ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ; مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةٌ تَجْرِي بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحِسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ) أبو داود .
وفي رواية أخرى لأحمد وابن ماجه: (لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ : لَكَانَ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ) .
وعن حُصين بن محصن قال : حدَّثتْني عمَّتي، قالت: أتيتُ رسولَ الله في بعض الحاجة فقال: (أي هذه، أذاتُ بَعْلٍ أنت؟)، قلتُ: نعمْ، قال: (كيف أنتِ له؟)، قلت: ما آلوه إلاَّ ما عجزتُ عنه، قال: (فانظري أينَ أنتِ منه، فإنَّما هو جنَّتُكِ وناركِ) صحيح الجامع .
فبيَّن أنَّ صدق المرأة في النُّصح لزوجها والقيام بحقوقه، وحُسن التبعُّل له، مِن أعظم أسباب دُخُول الجَنَّة، كما أنَّ تقصيرها في حقِّه من أعظم أسباب دخول النَّار.
ويدلُّ على عِظَم حقِّه عليها، قوله تعالى : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}.
قال القرطبي : "فدرجة، تقتضي التفضيل، وتُشعر بأنَّ حقَّ الزوج عليها أوجبُ مِن حقِّها عليه".
وقال تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} النساء / 34،
فجعل الرَّجلَ قيِّمًا على المرأة؛ لفضله وإفضاله عليها، فكان حقُّه عليها أكبرَ من حقِّها عليه .
المطلب الأول : طاعته بالمعروف
قال الله - تعالى :{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} النساء / 34.
وقد دلَّت الآيةُ الكريمة على وُجُوب طاعة المرأةِ لزوجها في غير معصية الله مِن ثلاثة أوجه :
الوجه الأوَّل : قوله تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}، والقِوامة تقتضي السَّمعَ والطاعة، وإلاَّ لم يكن لها معنى .
الوجه الثاني : قوله تعالى : {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ}، والقانتات: هنَّ المطيعات لله تعالى ولأزواجهنَّ .
قال ابن كثير : "قال ابن عباس، وغيرُ واحد: يعني مطيعات لأزواجهنَّ".
الوجه الثالث : قوله تعالى : {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} النساء / 34،
فهذا صريحٌ في وُجُوب طاعة المرأة لزوجها، وتحريم نُشوزها وتعاليها عليه بمخالفته، والخروج عن طاعته، وأنَّها إذا قامت بواجبه في الطاعة فلا يجوز له أنْ يظلمَها أو يبخسَها حقَّها، ثم حذَّر مَن يفعل ذلك بأنَّ الله تعالى أعلى منه وأكبر، وهو أقوى عليه منه عليها وأقدر، ولله دَرُّ القائل:
وَمَا مِنْ يَدٍ إلاَّ يَدُ اللهِ فَوْقَهَا ... وَمَا ظَالِمٌ إِلاَّ سَيُبْلَى بِأَظْلَمِ
ويدلُّ كذلك على أنَّ من حقِّ الرَّجل على زوجه أن تُطيعَه بالمعروف : قولُ النبي : (إذا صلَّتِ المرأةُ خمسَها وصامتْ شهرَها وحفظتْ فرجَها وأطاعتْ زوجَها دخلتِ الجَنَّة) صَحِيحِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ ،
وفي رواية: (قيل لها: ادخُلي مِن أيِّ أبواب الجَنَّة شئتِ) التِّرْمِذِيِّ .
والحديث دالٌّ على وُجُوب طاعة المرأة لزوجها من وجهين :
الوجه الأول: أنَّه قرن طاعة الزَّوج بالصلوات الخمسِ المفروضة، وصيام شهر رمضان، وحِفْظ الفَرْج، وكلُّها من أوجب الواجبات.
الوجه الثاني: أنَّه قرن بين حقِّ الله تعالى بإقامةِ الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحقِّ الزوج بطاعته، وحفْظ عِرضه، وجعل القيام بالحقَّين معًا شرطًا لدخولها الجَنَّة،
وهذا كقوله : (وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا ; وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ) سُنَنِ ابْنِ ماجه ،
فدلَّ ذلك على أنَّ طاعتها لزوجها حقٌّ واجب عليها.
ويدلُّ على ذلك - أيضًا - قوله : (لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ : لَكَانَ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ).
فإذا كان عليها أن تُطيعَه فيما لا منفعة فيه، وهو أن تنقل من جبلٍ إلى جبل، فكيف بطاعتها له فيما فيه مصلحةٌ ظاهرة، مِن القِيام بأمور معاشه، وتربية أولاده، ونحو ذلك؟
وبيَّن أنَّ طاعة المرأةِ لزوجها مِن أمارات صلاحِها، واغتباط زوجها بها، فقال: (مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ) ابن ماجة .
طاعة الزوج مقدَّمة على طاعة الوالدين
وطاعة الزَّوج مُقدَّمةٌ على طاعة الوالدَينِ مع عِظم حقِّهما، وسابق فضلهما، بل كلُّ طاعة كانت للوالدَين، فقدِ انتقلت إلى الزَّوج؛ وإذا أمرها والداها أو أحدُهما بشيءٍ يخالف أمرَ زوجها، كانت طاعة الزوج مقدَّمةً على طاعة الوالدين، ولا حرجَ عليها في معصيتهما؛ لأنَّه ليس من حقِّهما أن يأمراها بشيءٍ يتعارض مع ما يُريده الزَّوجُ، ويأمر به.
قال شيخ الإسلام ابنُ تيميَّة رحمه الله : "قوله تعالى : {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} ، يَقتضي وجوبَ طاعتها لزوجِها مطلقًا: مِن خدمة، وسفرٍ معه، وتمكينٍ له، وغير ذلك، كما دلَّت عليه سُنَّة رسول الله في حديث الجبل الأحمر، وفي السُّجود، وغير ذلك، كما تجب طاعة الأبوين، فإنَّ كلَّ طاعة كانت للوالدين انتقلتْ إلى الزَّوج، ولم يبقَ للأبوين عليها طاعة، تلك وجبتْ بالأرحام، وهذه وجبت بالعهود" .
وسُئل رحمه الله عنِ امرأةٍ تزوجتْ، وخرجت عن حكم والديها،
فأيُّهما أفضل : بِرُّها لوالديها، أو مطاوعةُ زوجها؟
فأجاب : "الحمدُ لله ربِّ العالمين، المرأة إذا تزوجتْ كان زوجها أملكَ بها من أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب".
ثم أورد نصوصًا كثيرة من الكتاب والسُّنة تدلُّ على عِظم حقِّ الزوج، ووجوب طاعته فيما لا إثْم فيه، إلى أنْ قال : "والأحاديثُ في ذلك كثيرةٌ عنِ النبي " ،
وقال: زيد بن ثابت: الزوج سيِّد في كتاب الله، وقرأ قوله تعالى : {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البَابِ} يوسف / 25؛
وقال عمر بن الخطَّاب: النِّكاح رِقٌّ، فلينظرْ أحدُكم عندَ مَن يُرِقُّ كريمته.
وفي التِّرمذي وغيره، عنِ النبي أنَّه قال: (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ) ،
فالمرأة عند زوجها تُشبه الرَّقيقَ والأسير، فليس لها أن تَخرجَ من منزله إلاَّ بإذنه؛ سواءٌ أَمَرَهَا أبوها أو أمُّها، أو غير أبويها باتِّفاق الأئمة، وإذا أراد الرَّجل أن ينتَقِل بها إلى مكان آخرَ مع قيامه بما يجب عليه، وحفظ حدود الله فيها، ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك، فعليها أن تُطيعَ زوجَها دون أبويها، فإنَّ الأبوين هنا ظالمان، ليس لهما أن ينهياها عن طاعة مثل هذا الزَّوج.
وليس لها أن تطيعَ أمَّها فيما تأمرها به مِن الاختلاع منه، أو مضاجرته حتَّى يطلقَها.
المطلب الثاني : عدم الخروج من بيته إلا بإذْنه
ليس للزَّوجة أن تخرجَ من بيتِ زوجها إلاَّ بإذنه ؛ لأنَّها محلُّ استمتاعه، والراعية لبيته وأولاده، وهو المكلَّف بالإنفاق عليها، وتأمين حاجاتها، وخروجها قد يُفوِّت عليه بعضَ مصالحه، كما أنَّ خروجها قد يكون مدعاةً لافتتانها، أو الفتنة بها؛
ولهذا قال الله تعالى : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} الأحزاب/33،
فكان من حقِّ الزوج منعُها من الخروج إلاَّ حيثُ يأمن عليها، ويكون لخروجها ما يدعو إليه؛ مِن قضاءِ مصلحة، أو زيارة قريب، أو عِيادة مريض، أو نحو ذلك.
ويدلُّ على تحريم خروجها بغير إذنه حديثُ عبدالله بن عمرَ رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: (لا تَمنعوا نِساءَكم المساجدَ إذا استأذنَّكم إليها) رواه أبو داود وأحمد ،
وفي رواية : (لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ) رواه أحمد وأبو داود.
ولو لم يكن للزَّوج منعُ زوجته من الخروج إلاَّ بإذنه لَمَا نُهوا عن منعهنَّ من الخروج للمساجد.
قال الإمام أحمد في امرأةٍ لها زوجٌ وأمٌّ مريضة: طاعة زوجها أوجبُ عليها من أُمِّها، إلاَّ أن يأذن لها ؛ ولكن لا ينبغي للزوجِ منعُها مِن عيادة والديها وزيارتهما وصِلة أرحامها؛ لأنَّ في ذلك قطيعةً للرَّحم التي أمر الله بوصلها، كما أنَّه يؤدِّي إلى نفور زوجته، ويَحمِلها على مخالفته، وقد أمر الله تعالى بالمعاشرة بالمعروف، وليس هذا من المعاشرة بالمعروف.
وليس له منعها من كلام أبويها، ولا منعهما من زيارتها؛ لأنَّ هذا من الصِّلة الواجبة، ولا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق؛ إلاَّ إذا كان يَخشى حصولَ ضررٍ بيِّن بسبب زيارتهما، فله منعُهما - إذًا - من زيارتها؛ دفعًا للضَّرر، ويجوز لها عندَ الضرورة أن تخرج من دون إذنه، كأن تضطر إلى طعام، أو شراب، أو علاج، أو نحوها مما ليس لها منه بدٌّ .
المطلب الثالث : عدم الإذن لأحدٍ بدخول بيته إلاَّ بإذْنه
الزوج هو صاحبُ الدَّار، وهو المسؤول عن رَعيته، وله حقُّ القِوامة على زوجته، ويهمُّه معرفة مَن يَلجُ بيتَه ويَطَّلع على ما فيه، ويحرص على العِلم بمن يدخل على زوجته ويخالطها، وربَّما يؤثِّر عليها في أخلاقها، أو تعاملها مع زوجها، كما أنَّ عندَه من الغَيرة عليها والحِرْص على صيانتها ما يجعله يهتمُّ بمن يدخل عليها، فكان واجبًا عليها أن تراعيَ مشاعره، وتريحَ خاطرَه، وأن تجتنبَ ما يكرهه أو يُثير حفيظتَه، فلا تفتات عليه، وتُدخِل في بيته مَن لا يُحبُّه، أو يكره اطلاعَه على أحواله، ومجالسته لأهله وعياله.
وهذا من المعاشرة بالمعروف التي دلَّت عليها نصوصٌ كثيرة في الكتاب والسُّنَّة، كما يدلُّ عليه حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه عن النبي أنَّه قال في حجَّة الوداع : (أَلَا إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا ، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا ; فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ ، فَلَا يُوَطِّئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهونَ ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ ، أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ) .
فجعل من حقِّ الرَّجل على زوجه ألاَّ توطئَ فراشَه أحدًا يكرهه، سواء كان قريبًا لهما أم لأحدهما، أو أجنبيًّا عنها أو عنهما، والمراد بالفراش: ما يُفرش في المنزل عادةً من بُسُط وسجَّاد ووسائد وغيرها.
أمَّا ما قد يتبادرُ إلى ذِهن بعض النَّاس من أنَّ الفراش يُقصد به فراش النَّوم، أو الخلوة المحرَّمة، فليس للزوجة أن تفعلَ ذلك، سواء رضي به الزَّوج أم كره، وإنَّما المقصودُ دخولُ البيت والزِّيارة المعتادَة المتعارَف عليها.
وفي ذلك يقول النووي: "معناه: ألاَّ يأذنَّ لأحدٍ تكرهونه في دخولِ بيوتكم، والجلوس في منازلكم، سواء كان المأذون له رجلاً أجنبيًّا، أم امرأةً، أم أحدًا من محارم الزوجة، فالنَّهي يتناول جميعَ ذلك.
وهذا حُكم المسألة عندَ الفقهاء: أنَّها لا يَحِلُّ لها أن تأذن لرَجل، أو امرأة، ولا محرم، ولا غيره في دخول منزل الزوج إلاَّ مَن عَلمتْ، أو ظنَّتْ أنَّ الزوج لا يكرهه؛ لأنَّ الأصلَ تحريمُ دخول منزل الإنسان، حتَّى يوجدَ الإذن في ذلك منه، أو ممَّن أذن له في الإذن في ذلك، أو عرف رِضاه باطراد العرف بذلك ونحوه، ومتى حَصَل الشكُّ في الرِّضا ولم يترجح شيءٌ، ولا وُجِدت قرينة، لا يحلُّ الدُّخول ولا الإذن، والله أعلم".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال : (لا يَحِلُّ للمرأة أن تصومَ وزوجُها شاهدٌ إلاَّ بإذنه، ولا تأذن في بيته إلاَّ بإذنه) .
فهذا صريحٌ في أنَّه لا يحل لها أن تفتاتَ على زوجها، فتأذنَ لأحدٍ بدخول بيته إلاَّ بإذنه، والنهي في الحديث محمولٌ على مَن يكره الزَّوجُ دخولَه في بيته، أو مَن لا تعلم المرأةُ رِضا الزوج به، فإنْ علمتْ رضاه به، إمَّا بلسان الحال أو المقال، جاز لها الإذن له، فلا بدَّ مِنَ اعتبار إذنه تفصيلاً أو إجمالاً .
المطلب الرابع : حِفظ زوجها في عرْضه وماله وأولاده
قال الله تعالى : {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} ؛ أي: حافظات في غيبة الأزواج ما يجب عليهنَّ حفظُه من فروجهنَّ، وأولاد أزواجهنَّ وأموالهم ،
ويقول النبي : (خيرُ نسائِكم مَن إذا نظر إليها زوجُها سرتْه، وإذا أَمَرَهَا أطاعتْه، وإذا غاب عنها حَفِظتْه في نفسها وماله) رواه أحمد ،
وفي روايةٍ لأبي داودَ والحاكم: (خيرُ ما يَكْنِز المرء: المرأةُ الصالحة، إذا نظر إليها سرتْه، وإذا أمرَها أطاعتْه، وإذا غاب عنها حفظتْه)،
وبعد، فهذه هي الحقوقُ الزوجيَّة، التي لو الْتزم بها الزوجانِ المسلمان لَتَحقَّق لهما الأُنس والسعادة، والسَّكن والراحة، وحَصَل بينهما الوِفاق والوِئام، وتهيَّأ الجوُّ الصالح للتربية، حيثُ تنشأ الناشئة في بيتٍ كريم، تعمره المودَّة والرحمة، ويسوده التعاون والتفاهُم، والاحترام المتبادَل، بعيدًا عن صخب المنازعات، وآلام الشِّقاق والمشاحنات، وتطاوُلِ كلٍّ من الزوجَين على الآخَر، وإنَّ الزواج لا يؤتي أُكلَه، ويحقِّق مقاصدَه إلاَّ إذا حَسُنتِ العِشْرة بين الزوجين، وقام كلُّ واحد منهما بحقِّ صاحبه عليه.
المبحث الرابع : نصائح أبوية غالية
وأختمُ هذا الموضوعَ المُهمّ بهذه الباقة العطرة من النصائح الأَبويَّة الصادقة، الصادرة مِن قلوب مُحبَّةٍ مخلصة، ونفوس كريمة مُجرِّبة، وعقول حصيفة موفَّقة:
قال أسماءُ بن خارجةَ لابنته عندَ الزفاف : "يا بُنية، إنَّكِ خرجتِ من العشِّ الذي دَرجتِ فيه، إلى فراشٍ لم تعرفيه، وقرينٍ لم تألْفيه، فكوني له أرضًا يكنْ لك سماء، وكوني له مِهادًا يكنْ لك عمادًا، وكوني له أَمةً يكنْ لك عبدًا، لا تلحفي به فيقلاك ، ولا تباعدي عنه فيَنساكِ، إنْ دنا منك فاقربي منه، واحفظي أنفَه وسمعَه وعينَه، فلا يَشَمُّ منكِ إلاَّ طَيِّبًا، ولا يسمع إلاَّ حسنًا، ولا ينظر إلا جميلاً، وكوني له كما قلتُ لأمِّكِ:
خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي وَلاَ تَنْطِقِي في سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ
وَلاَ تَنْقُرِينِي نُقْرَةَ الدُّفِّ مَرَّةً فَإِنَّكِ لاَ تَدْرِينَ كَيْفَ الْمُغَيَّبُ
فَإِنَّي رَأْيتُ الحُبَّ في الْقَلْبِ وَالأَذَى إِذَا اجْتَمَعَا لَمْ يَلْبَثِ الْحُبُّ يَذْهَبُ"
وقالتْ أُمامة بنت الحارث التَّغلبيَّة لابنتها - لَمَّا أرداتْ إهداءها لزوجها - : "أي بُنيَّتي ، إنَّ الوصية لو كانت تُترك لِفَضلِ أدبٍ، أو مكرمة حَسَبٍ، لتَركتُ ذلك معكِ، ولكنَّها تَذكرةٌ للعاقل، ومنبهةٌ للغافل.
أي بُنيَّة، لو استغنتِ ابنةٌ عن زوج لغِنى أبويها، لكنتِ أغنى النَّاس عنه، ولكنَّا خُلقْنا للرِّجال، كما خُلِق الرِّجال لنا.
أي بُنيَّة: إنَّكِ فارقتِ الوطنَ الذي منه خرجتِ، وخلَّفت العشَّ الذي فيه درجتِ، إلى وكرٍ لم تعرفيه، وقرينٍ لم تألفيه، أصبحَ بملكه إيَّاكِ مَلِكًا عليك؛ فكُوني له أَمَةً يكنْ لكِ عبدًا، واحفظي له خلالاً عشرًا.
أمَّا الأولى والثانية: فالصُّحبة بالقناعة، والمعاشرة بحُسن السَّمع والطاعة؛ فإنَّ في القناعة راحةَ القلب، وفي المعاشرة بحُسن السمع والطاعة رِضا الرَّب.
وأمَّا الثالثة والرابعة: فالتعهُّد لموقع عينه، والتفقُّد لموقع أنفِه، فلا تقع عينُه منكِ على قبيح، ولا يَشَمُّ أنفه منكِ إلاَّ أطيب رِيح؛ واعلمي أنَّ الكُحل أحسنُ الحُسْن الموجود، وأنَّ الماء أطيبُ الطيب المفقود.
وأمَّا الخامسة والسادسة: فالتعهُّد لوقت طعامِه، والهدوء عندَ منامه؛ فإنَّ حرارةَ الجوع مَلهبَة، وتنغيصَ النَّوم مَغضبَة.
وأمَّا السابعة والثامنة: فالاحتفاظ ببيته وماله، والرِّعاية لحشمه وعياله؛ فإنَّ أصلَ حِفظ المال مِن حُسن التقدير، والرِّعاية على العِيال والحشم من حُسْن التدبير.
وأمَّا التاسعة والعاشرة: فلا تفشينَ له سِرًّا، ولا تَعصين له أمرًا؛ فإنَّكِ إن أفشيت سرَّه لم تأْمني غدَره، وإن عصيتِ أمره أوغرتِ صدرَه، واتَّقي مع ذلك الفرحَ إذا كان ترحًا، والاكتئابَ إذا كان فرحًا؛ فإنَّ الخصلة الأُولى من التقصير، والثانية من التَّكدير، وأشد ما تكونين له إِعظامًا أشد ما يكون لكِ إكرامًا، وأكثر ما تكونين له موافقةً أحسن ما يكون لكِ مرافقةً.
واعلمي أنَّكِ لا تقدرين على ذلك حتَّى تُؤثري هواه على هواكِ، ورِضاه على رضاكِ فيما أحببتِ أو كرهتِ، ثم ودَّعتْها وانصرفت.
خاتمة البحث
وبعدَ هذا التَّطواف المبارك في جَنبات هذا البحث نَخلُص إلى النتائج التالية:
1 - أنَّ الله سبحانه وتعالى إنَّما خلق الخَلق لعبادته، وعبادتُه تعالى لا تتحقق وتظهر إلاَّ بالابتلاء بأنواع الخير والشر، كما قال تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} الإنسان / 2 ،
فدَّلتِ الآية الكريمة على أنَّ الإنسانَ إنَّما خُلق للابتلاء والامتحان، والابتلاءُ ليس مقصودًا لذاته، وإنَّما لِمَا يترتَّب عليه من حصول العبودية أو عدمها، وقوتها أو ضعفها، ولِيَتبينَ الصَّبُور الشكور من الجزوع الكفور، والمؤمن الصادق من الدَّعِي المنافق، والمؤمن القويُّ من المؤمن الضَّعيف.
2 - أنَّ مِن أعظم صُور الابتلاء، وأكثرها تَكْرارًا وملابسة للإنسان، ابتلاءَ الخَلق بعضهم ببعض، كما قال ربُّنا عزَّ وجل : {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} الفرقان / 20 ،
فكلُّ صِنف من البشر مبتلى بمَن يُقابله، وممتحَن بمَن يعامله ويلابسه، هل يقوم بحقوقه، ويؤدِّي واجباتِه، ويحسن معاملتَه، وينصح له، ويَكفُّ الأذى عنه، ويتقي الله تعالى فيه؟ أم يكون على الضدِّ من ذلك؟
3 - أنَّ مِن أعظم صُور امتحان الخَلق بعضهم ببعض: امتحان كلٍّ من الزوجين بالآخر؛ لأنَّ العَلاقة بينهما مِن أقوى العَلاقات، والصِّلة بينهما تُراد للدوام حتَّى الممات، وحق كلٍّ منهما على الآخر كبيرٌ وكثيرٌ.
4 - لَمَّا كثرت الخِلافات الزوجيَّة، والمشكلات الأسريَّة، وارتفعت نِسَبُ الطلاق والشِّقاق، بسبب ضعف الإيمان، ورِقَّة الدِّين، وقلة الفقه والبصيرة، واتباع الهوى، والانشغال بالدنيا، كان الحديث عن فقه التعامُل بين الزوجين، والتذكير بحقِّ كلٍّ منهما على الآخر، من الأمور المُلِحَّة، التي تَمسُّ الحاجة إلى معرفتها وبيانها، والتأكيد على أهميتها وعِظم شأنها، والترغيب في القِيام بها، والترهيب عن إهمالها والتنكُّر لها.
5 - الناظِر في أحوال كثيرٍ منَ المسلمين اليوم يجد تناقُضًا ظاهرًا بين ما أوصاهم به ربُّهم من رعاية حقوقِه وحقوق عباده ، وبين ما هُمْ عليه من تفريطٍ في جَنبِ الله، وعدم رعاية لحقوق عباد الله، بل كثيرٌ من النَّاس يظنُّون أنَّ التَّقْوى هي القيام بحقُوق الله تعالى دونَ حقوق عباده، وأنِّ الدِّين يقتصر على معامَلة الخالق دونَ المخلوق، فيُهملون حقوقَ العباد بالكلية، أو يُقصِّرون فيها، ويستهينون بظُلم النَّاس، وبخسهم حقوقَهم.
6 - المتأمِّل للنصوص الواردة في الحثِّ على حُسْن الخُلق لا ينقضي عجبُه مِن عِظم شأنه، وعلو مكانته، ويدهش لكثرة ما رُتِّب عليه من الأجْر والثواب، وما لصاحبِه منَ المدح والثناء، ورفعة المنزلة، وحُسن العاقِبة في الدُّنيا والآخرة، كما أنَّه يعجب مِن غفْلة كثيرٍ منَ النَّاس عن هذا الخير، وتفريطهم فيه، وحرْمانهم إيَّاه، مع أنَّه لا يُكلِّفهم شيئًا يُذكَر، وبه يحصلون خيري الدنيا والآخرة، ويفوزون بمحبَّة الله تعالى ومحبَّة النَّاس.
7- أنَّ أحقَّ الناس بالمعاملة الطيبة ، وأحوجهم إلى المخالقة بالحسنى، والمعاشرة بالمعروف هُمْ أهلُ الإنسان وقرابتُه،
كما قال رسول الله : (أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا، وخِيارُكم خِيارُكم لنسائهم)؛
فبيَّن فضل حُسنِ الخُلق مطلقًا، وأنَّ أكمل النَّاس إيمانًا أحسنُهم خُلقًا، ثم بيَّن أنَّ أعلى النَّاس رتبةً في الخير، وأحقَّهم بالاتِّصاف به هو مَن كان خير الناس لأهله، وإن كان على العكس من ذلك، فهو في الجانب الآخر من الشر.
8 - الحياةُ الزوجيَّة ليستْ لهوًا ولعبًا، ولا لذة عابرة، أو عَلاقة مؤقَّتة، أو مجرَّد شهوة واستمتاع، بل هي مسؤولية عظيمة، وتَبِعةٌ ثقيلة، تحتاج إلى صبر ومجاهدة، وحِكمة ورَوِيَّة، وتوطين للنفس على القيام بحقوق النِّكاح وتبعاته، والحرص على التوافق مع الطَّرَف الآخر، والغض عن هفواته.
9 - من أعظم ما يجب على الزوجين، وهو مِن الحقوق المشتركة بينهما: المعاشرة بالمعروف، وحُسن الصُّحبة، وأن يعرف كلٌّ منهما ما له وما عليه، ويقوم بواجبه تُجاهَ صاحبه، ويراقب الله فيه، فلا يظلمه ولا يمطل بحقِّه، ولا يحتقره ويُهينه، ولا يُكلِّفه شططًا، أو يُحمِّله ما لا يُطيق.
10 - القَناعة كَنزٌ لا يَفنى، والتطلُّع إلى استكمال جميع الصفات في الزوج أو الزوجة ضربٌ من الخيال، وأمرٌ بعيدُ المنال، ولله وحده الكمال، والإنسان مجبول على النقص والتقصير، وما مِن لذَّة في هذه الحياة إلاَّ وهي مَشُوبةٌ بشيء من التنغيص والتكدير، واللَّذةُ التامَّة إنما تكون للمؤمنين في جنَّات النَّعيم.
11 - ينبغي للزوجين أن يتطاوعَا ولا يختلفَا، ويُيسِّرَا ولا يُعسِّرَا، وأن يُحسن كلٌّ منهما صحبةَ الآخر، ويحرص على إسعادِه، وتحقيقِ رغباته فيما أذن الله تعالى فيه، وأن يتنازلَ عن شيء من مراداته ورغباته مِن أجل عَشيرِه وشريك حياته، وأن يُوطِّنَ نفسَه على قَبول بعض الهفوات، والتغاضي عن بعض المنغصات.
والرَّجل - وهو القَيِّمُ على الأُسْرة - مطالَبٌ بتصبير نفسِه أكثر من المرأة؛ لِمَا يعلم من ضعف خِلقتها، وغلبة عاطفتها على عقلها، ولأنَّها أسيرةٌ بين يديه، محتاجة أعظم الحاجة إليه، فالبحث عن زلاَّتها، وتتبُّع عثراتها، والمبالغة في تقويمها يؤدِّي إلى كسرها، وكسرُها طلاقُها.
12 - الواجب على الزوج إذا رأى من زوجته ما يكره، أن يتذكَّر جوانبَ الخير فيها، وألاَّ يجحدَ فضلها وتعبَها في القيام بحقوقه ورعاية مصالحه، وأن يجعلَ ما كَرِهَ منها في مقابلة ما رضي، وإنَّه - بإذن الله - لواجدٌ خيرًا كثيرًا.
13 - يخطئ كثيرٌ من الرجال حين يظنُّون أنَّ التبسُّط مع المرأة ، وحُسن معاشرتها، والتلطُّف معها، ومشاركتَها في بعض شؤون بيتها - يعتبر ضعفًا منه، وسيطرة لها عليه، فتراهم يُصِرُّون على أن تكون كلمتُهم هي الأولى والأخيرة، ورأيُهم هو النافذَ الذي لا يَقبل المراجعةَ أو المحاورة.
وهذا ليس مِن القُوة أو الرُّجولة في شيء، وليس من أخلاق الكرام، فإنَّ الكريمَ مَن غلبه أهلُه داخلَ بيته؛ لسماحته وحُسن معاشرته، وغلبَ الأعداءَ خارجَ بيته؛ لرجولته وقُوَّته.
14 - مِن حُسن المعاشرة : الاعتدالُ في الغَيْرة، والابتعاد عن الظُّنون السيِّئة، والأوهام الفاسدة، إلا بدليل بيِّن، وحُجَّة ظاهرة.
15 - لكلٍّ من الزوجين حقُّ الاستمتاع بصاحبه فيما أباحه الله ، وهذا أمرٌ تدعو إليه الفطرة، ويتوقَّف عليه التناسُل، ويحصل به المحبَّة والتآلُف، فعلى كلٍّ منهما أن يُلبِّيَ داعيَ الفطرة لَدَى صاحبه، ويجتهدَ في إشباع رغبته - ما لم يكنْ هناك مانعٌ يمنعه.
16 - يجب على المرأة أن تستجيبَ لرغبة زوجها ، وألاَّ تمتنعَ منه إذا أرادها لحاجته، إلاَّ لمانع شرعي؛ من صيام واجب، أو إحرام بحجٍّ أو عمرة، أو مانع حِسيٍّ؛ من مرض أو ضرر، أو حيض أو نفاس.
17 - لا يَحِلُّ للمرأة أن تصومَ تطوُّعًا وزوجها شاهدٌ إلاَّ بإذنه ، فإنْ فعلت صحَّ صومُها وأثمت لمخالفة النهي، وإن أراد الاستمتاعَ بها فله ذلك ويفسد صومها، وليس لها الامتناعُ منه؛ لأنَّ طاعةَ الزوج واجبة، وإتمام النَّفل مستحبٌ، وكذلك الحال في بقية التطوُّعات من صلاةٍ، وحَجٍّ، واعتكاف وغيرها؛ فإنَّ حقَّ الزوج - عند التعارض - آكدُ على المرأة من التطوع بالخير، فلا يجوز لها الشروع فيها إذا كان ذلك يمنعه حقَّه؛ لأنَّ حقَّه واجب، والقيام بالواجب مُقدَّم على القيام بالتطوُّع.
18 - يجب على الزَّوج كذلك أن يَقضيَ وَطرَ زوجته ، كلَّما رغبتْ بذلك، وكان قادرًا عليه، ما لم ينهك بدنه، أو يشغله ذلك عن عبادةٍ واجبة، أو طَلبِ معيشة يحتاجها.
وإذا كانتْ تتضرَّر بترك الوطء بسبب عجز الزَّوج، أو امتناعه عنه مع قدرته عليه، فلها الحقُّ في طلبِ الفسخ منه، كما لو امتنع من الإنفاقِ عليها، وكما لو حَلَف على ترْك وطئها؛ فإنَّه يُمهل أربعةَ أشهر، فإنْ فاء ووطئها فبها ونعمت، وإلاَّ أُمر بتطليقها - إن طلبت ذلك - فإنْ أبى تطليقَها طلَّق الحاكم عليه؛ رفعًا للضرر عنها.
19 - من الحقوق المشتركة بين الزوجين : التعاوُن على البِرِّ والخير، والتناهي عن الإثم والشر، والتآمُر بالمعروف، والتناهي عن المُنكر.
20 - إذا كان حقًّا على الزوجينِ أن يتعاونا على البرِّ والتقوى ، والفوز في الحياة الأخرى، فإنَّ حقًّا عليهما كذلك أن يتعاونا على ما يهمهما من أمور الحياة الدنيا، وأن يكون كلٌّ منهما عضدًا للآخر، ومساندًا له، ومعايشًا لآلامه وآماله، ومعاونًا له على القِيام بمصالحه وأعماله، وأنْ يتعاونا على تربية الأولاد، والقِيام عليهم بحُسْن التربية والإعداد.
21 - لمَّا كانت العَلاقة الزوجيَّة من أقوى العَلاقات الإنسانيَّة ، وفيها تميُّز وخصوصية، وكلٌّ من الزوجين أقرب إلى الآخر، وأكثر معاملةً له والتصاقًا به، ومعرفة بأحواله وأسراره، وحاجاته وخصوصياته، وآلامه وآماله، ممَّن عداه من سائر الناس، كما أنَّه يحصل بينهما من المعاشرة والمؤانسة، والمداعبة والاستمتاع، ما لا يرضى أحدٌ منهما بكشفه للآخرين، لمَّا كان الأمر كذلك كان حفظ كلٍّ منهما لعورة صاحبه، وستر عيوبه، وكَتْم أسراره، وخصوصياته، حقًّا واجبًا لكلٍّ منهما على الآخر.
22 - من أسباب التوارُث: عقْد الزوجيَّة، وهذا حقٌّ من الحقوق المشتركة بين الزوجين، فكلٌّ منهما يرث صاحبَه - إن لم يكن ثَمةَ مانعٌ يمنعه.
23 - المهر حقٌّ واجب للزوجة على زوجها، لا يجوز التواطؤ على ترْكه بالإجماع، بل لا يسقط، ولو أسقطتْه المرأة، ولو شرط عليها زوجها أنَّه لا مهر لها ورضيت بذلك، فالشرط باطل بالإجماع؛ لأنَّ التراضي لا يُسقط ما أوجبه الله، لكنَّها لو وهبتْه له، أو أبرأتْه منه بعد ثُبُوته لها، فلا حرج.
24 - وجوب المهر لا يستلزم تسميته عند العقْد ، فيصحُّ النِّكاح من غير تعيين المهر والاتِّفاق عليه، في قول عامَّة أهل العلم.
25 - لو دخل بها من دون تسمية المهر ، أو أنَّه لا مهر لها ورضيتْ بذلك الزوجة، فيجب لها مهر المثل، وكذلك لو ماتتِ المرأة قبلَ الدخول يؤخذ مهر المثل من الزوج، ولو مات الزوج قبلَ الدخول تستحقُّ مهرَ المثل من تركته.
26 - مهر المثل : هو مهر مثلها من قريباتها، كأُختها وعمَّتها وبنت عمها، ممَّن يماثلنها سنًّا، وجمالاً، ومالاً، ودِينًا، وعِلمًا، وعقلاً، وبكارةً أو ثيوبة، فإنْ لم يكن في نساء عصبتها مَن هو في مثل حالها،، فمِن نساء أرحامها كأُمِّها وخالاتها وبناتهن، فإن لم يكن في نسائها إلاَّ دونها زِيدت بقدر فضيلتها، وإن لم يوجد إلاَّ فوقها نُقصت بقدر نقصها.
27 - الأفضل تسمية المهر ، والاتِّفاق على قَدْرِه وجِنْسه، ووقت أدائه قبل الدخول.
28 - كلُّ ما جاز أن يكون ثَمَنًا وقيمةً لشيء ، أو أُجرةً جاز أن يكون صَداقًا، ولا حدَّ لأكثره بإجماع العلماء، كما لا حدَّ لأقلِّه على الصحيح، وقد دلَّت الأحاديث الصحيحة على أنَّ قبضة السويق، وخاتم الحديد، والنَّعلين، و تعليم القرآن وإسلام الزوج، يصحُّ تسميتها مهرًا، وتَحِلُّ بها الزوجة، كما دلَّت على أنَّ المغالاة في المهر مكروهة في النكاح، وأنَّها من قلَّة بركته وعُسره.
29 - الواجب أداء المهر بحسب العقد المتفق عليه بينهما، أو العرف السائد في بلدهما، إن لم يتفقا على خلافه؛ لأنَّ المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا؛ سواء كان الاتفاق أم العُرف بتعجيله كلِّه، أو تأجيله كلِّه، أو تقسيطه، أو تعجيل نصفه وتأجيل النِّصف الآخر.
30 - إنْ شَرَط تعجيل نصفه وتأجيل النِّصف الآخر ، فإنْ كان الأجَل محدَّدًا بوقت معين، فهو إلى أَجَلِه، وإن أطلق فلا يَحِلُّ النصف الآجل إلاَّ بموت أو فراق، وعلى ذلك جرتِ العادة في كثير من دِيار الإسلام.
31 - من حُقُوق الزَّوجة على زوجها : أن يُنفق عليها بقدْر كفايتها.
32 - لا تجب نفقةُ الزَّوجة على الزوج إلاَّ بشرطين:
الأول: أن تُسلِّمَ نفسها إليه، وتُمكِّنه من الاستمتاع بها على الوجه الواجب عليها، سواء حَصَل الدخول بها، أم لم يحصل، ما دامت باذلةً نفسَها له، وليس ثمة مانعٌ مِن قِبَلِها يمنعه حقَّه فيها.
والثاني: أن تكون كبيرةً يمكن وطؤها.
33 - إذا كان الزَّوج صغيرًا لا يتأتَّى منه الجماع ، وكانت زوجته كبيرةً يمكن وطؤها، ومكَّنته من نفسها، فيلزمه نفقتُها على الصحيح.
34 - اتَّفق العلماء على أنَّه يجب على الزَّوج نفقةُ الموسِرِين ، إذا كان الزوجان موسرَين، وإذا كانا معسرَين، فيجب عليه نفقة المعسرِين، وإذا كانا متوسطين، فيجب عليه نفقة المتوسطِين.
أمَّا إذا كان أحدهما موسرًا، والآخَرُ معسرًا، فالصحيح أنَّه يعتبر حالهما معًا.
35 - دلَّت النصوص الشرعيَّة، وإجماع العلماء على أنَّه يجب على الزوج تأمينُ الطعام لزوجته ، وما يتبع ذلك من ماء، وإدام، ودُهن للطَّعام، ووقود، ونحو ذلك.
36 - الصحيح أنَّ الواجب على الزَّوج من الطَّعام وتوابعه قدرُ ما يكفي زوجتَه ، والكفاية راجعةٌ إلى العُرف، وليستْ مقدَّرةً بالشَّرع، بل تختلف باختلاف الأزمان والبُلدان، والأحوال، والأشخاص.
37 - يجب على الزَّوج كسوةُ زوجته بقدر كفايتها.
38 - يجب على الزَّوج تأمينُ السَّكن لزوجته ، وله إسكانها في المملوك، والمستأجَر، والمستعار، بلا خلافٍ، ويجب أن يكون المسْكن على قدر يسارهما وإعسارهما وتوسطهما، كما هو الحال بالنسبة للنفقة والكسوة.
39 - إن كانتِ المرأة ممَّن لا تخدم نفسها ؛ لكونها من ذوي الأقدار، أو مريضة، وَجَبَ على الزَّوج إخدامُها، فيرجع في وجوب الإخدام وعدمه إلى عُرف البلد، وقدرة الزَّوج، وحالة الزوجة من حيثُ كونُها أهلاً للإخدام أو عدمه.
40 - يجب للزَّوجة على زوجها كلُّ ما تحتاج إليه من أدوات التنظيف ومتاع البيت، بحسب العادة، وحالة الزوجين.
41 - إذا امتنع الزَّوج من الإنفاق على زوجته ، رُفع أمرُه إلى الحاكم، فيأمره بالإنفاق ويجبره عليه، فإنْ أَبَى حَبَسه، وضربه، فإنْ لم يُجْدِ ذلك معه، أخذ الحاكم النفقةَ من ماله ودفعها لزوجته، وهذه قاعدةٌ عامَّة في كلِّ مَن امتنع مِن أداء حقٍّ واجب عليه، مع قدرته على أدائه.
42 - العدل بين الزَّوجات حقٌّ مِن آكد الحقوق الزوجيَّة، وهو مِن أهم أسباب صلاح الأُسرة واستقرارها، وحصول التوافُق والوِئام بين أفرادها؛ ولهذا جعل الله القدرةَ على العدل بين الزوجات شرطًا لجواز التعدُّد.
43 - العدلُ المطلَق بين الزوجات في كلِّ شيءٍ أمرٌ غير مقدور عليه، وإنما الواجب هو العدل بينهنَّ فيما يقدر عليه الإنسان، ويدخل تحتَ طاقته، من الأمور الفعليَّة الظاهرة، أمَّا الميل العاطفي، والمحبَّة القلبيَّة، وما يتبع ذلك من الجماع ونحوه، فهو أمرٌ خارج عن إرادة الإنسان، يفرض نفسَه عليه من غير اختيارٍ منه، فلا يجب فيه العدل.
44 - أجمع العلماء على وجوب التسوية بين الزَّوجات في القَسْم؛ فإذا بات عند إحداهنَّ ليلة أو ليلتين أو ثلاثًا، بات عند الأُخريات بقدر ذلك، ويجب عليه القَسْم بينهنَّ على كلِّ حال، صحيحًا كان أو مريضًا، أو كانت زوجتُه صحيحةً أو مريضة.
45 - كما يجب عليه العدل في القَسْم ، فيجب عليه - كذلك - العدل بينهنَّ في النفقة، والكسوة، والسكنى، على الصحيح من قولي العلماء.
46 - إذا كانتْ تلك هي بعض حقوق المرأة على الرَّجل ؛ فإنَّ حقَّ الرَّجل على المرأة أعظمُ وآكد، وواجبها تُجاهَه أكبر وأشدُّ، بل ليس على المرأة بعدَ حقِّ الله تعالى وحقِّ رسوله أوجب من حقِّ الزوج.
47 - يجب على المرأة طاعة زوجها ، وطاعتُه مقدَّمة على طاعة الوالدَين مع عِظم حقِّهما، وسابِقِ فضلهما، بل كلُّ طاعة كانت للوالدَين، فقدِ انتقلت إلى الزَّوج؛ وإذا أمرها والداها أو أحدهما بشيءٍ يخالف أمرَ زوجها، كانت طاعة الزوج مقدَّمةً على طاعة الوالدين.
48 - ليس للزَّوجة أن تخرج من بيت زوجها إلاَّ بإذنه ، ولكن لا ينبغي له منعُها من عيادة والديها وزيارتهما وصلة أرحامها.
49 - ليس له منعها من كلام أبويها ، ولا منعهما من زيارتها؛ لأنَّ هذا من الصِّلة الواجبة، ولا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق، إلاَّ إذا كان يخشى حصول ضرر بيِّن بسبب زيارتهما، فله منعهما إذًا من زيارتها؛ دفعًا للضرر.
50 - يجوز لها عندَ الضرورة أن تخرج من دون إذنه ، كأن تضطر إلى طعام، أو شراب، أو علاج، أو نحوها ممَّا ليس لها منه بُدٌّ.
51 - من حقِّ الزوج على زوجه ألا تفتات عليه ، فتأذن لأحد بدخول بيته إلا من علمت رضاه به، إما بلسان الحال أو المقال، أو عرف رضاه باطراد العرف بذلك.
52 - مِن حقِّ الزوج على زوجه: أن تحفظَه في عِرضه وماله وأولاده.
53 - ينبغي لكلٍّ من الزوجين أن يستفيدَ ممَّا حفل به تراثُنا المجيد من نصائحَ أبويَّةٍ صادقة، صادرة من قلوب محبَّة مخلصة، ونفوس كريمة مجرِّبة، وعقول حصيفة موفَّقة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.