الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له ولا ولد ، الحاكم الملك المتعال عن الأضداد والأنداد ، المتفرد في ملكه بالحكم والأمر ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ولا غالب لأمره ، آمنا بذلك كله ، وأيقنا أن كلا من عنده ، وأن محمداً عبده المصطفى ، ونبيه المجتبى ، ورسوله المرتضى ، وأنه خاتم الأنبياء ، وإمام الأتقياء ، أعدل من حكم ، وأوفى من قسم ، وأجزل من أعطى وشكر ، سيد المرسلين حبيب رب العالمين ، وأصلي على آل بيته الطاهرين ، وصحابته المخيرين عن سائر الخلق أجمعين ، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعــــــــــــــد
إن هذه الرسالة من أخٍ لك أيها القاضي الرحيم ومن حبيب لك أيها المحامي الكريم ، يحبكما في الله وناصح لكما أمين. لكم في عنقه وصية ، ونصح على روية من كتاب رب البرية ، معطرة بالسنة الزكية . أبعث إليكم هذه الرسالة ، ممزوجة بالحب ، مقرونة بالود ، مكللة بالصدق ، مجللة بالوفاء ، فافتحوا أيها الأحبة مغاليق القلوب وأعيروني سمعكم ، حتى أهمس في أذنكم..
نصيحة من أحبكم في الله وعلى قدر طاعتكم لله ، ويخشى عليكم كخشيته على نفسه من عذاب الله ، يوم ينصب الملك الكرسي والميزان يوم الحسرة والندامة ، ليفصل بين العباد .
أخي الحبيب : اعلم أنك تحمل قلباً بتوحيد الله ناطقاً ، ومن ناره خائفاً ، وفي جنته راغبا على الرغم من تفريطك ، فها أنا ذا أمد يدي إليك حتى نضع أيدنا على حقيقة لعلها عنك غائبة ، فتعال معي نسير على طريق الحق والهدى لعلنا نفوز بمحبة الله ورضوانه والفوز بجنانه. والنظر إلى وجه الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
أولا: تأصيل في الحكم والتشريع
إلوهية الحاكمية :
أخي الحبيب : لنتفق جميعاً أن الله هو الحاكم العادل ، وأن من أسمائه الحسنى وصفاته العلى بأنه الحكم ، الذي يحكم بين العباد في الدنيا والآخرة ، ولنعلم أن الحاكمية يجب أن تكون لله سبحانه وتعالى مطلقة لا ينازعه فيها أحد من خلقه ، ولا يشاركه فيها أحد من عباده ، وأن توحيد الحاكمية فرع ومقتضى من مقتضيات توحيد الإلوهية.
الحاكمية في اللغة:
مشتقة من الحُكْمِ : وهو القضاء ، وأصله المنع ، يقال : حَكَمْتُ عليه بكذا ، إذا منعته من خلافه ، فلم يقدر على الخروج من ذلك؛ وحَكَمْتُ بين القوم: إذا فَصَلْتُ بينهم ، فأنا حاكم وحَكَمٌ ، والجمع : حُكَّام ؛ وحَكَمْتُ :بمعنى منعت ورددت ، ولهذا قيل للحاكم بين الناس حاكم؛ لأنه يمنع الظالم عن الظلم
والحُكْمُ : العلم ، والفقه ، قال الله تعالى عن سيدنا يحيى (وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً) أي علماً وفقهاً ، وهو مصدر حكم يحكم ، وجمعه أحكام.
ومادة الحُكْمِ : من الإتقان ، يقال : أحكمت الشيء ، إذا أتقنته ، فاستحكم هو: صار كذلك
الحاكمية في الاصطلاح:
تعني : " أن مُصدر الأحكام في الشريعة الإسلامية هو الله تعالى وحده "
" وأن الحاكم لا خلاف في أنه الله ربُّ العالمين ".
ويقول الشاطبي : " فالشريعة هي الحاكمة على الإطلاق ، وعلى العموم ، أي على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى جميع المكلفين ، والكتاب هو الهادي ، والوحي المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدى ، والخلق مهتدون بالجميع".يظهر جلياً أن اعتبار الحاكم هو الله تعالى أمر لا ينكره أحد.
يقول الأنصاري في شرح مسلَّم الثبوت في أصول الفقه : " إن اعتبار الحاكم هو الله ، أمر متفق عليه بين أهل السنة والمعتزلة "
الحاكمية في القرآن الكريم:
تضافرت آيات القرآن الكريم في تقرير : أن كل ما في السماوات والأرض مخلوقات انفرد الله سبحانه وتعالى بخلقها ، لا ينازعه فيها أحد ، فهو الخالق المالك ، له مقاليد السماوات والأرض ، وبيده ملكوت كل شيء.
قال تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض) المائدة : 40
وهو الله المحيي المميت الرزاق
قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ) الروم : 40
وهو الله الواحد الذي لا يشاركه في ملكه أحد.
قال تعالى : (وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ) الإسراء : 111
وبمنطق الفطرة والعقل السليم ، فإن خالق الشيء هو الذي يقدر خلقه ، وأن مالكه هو الذي يتصرف في ملكه كيف شاء ، وعلى هذا فإن الله الخالق المالك الرازق هو المتصرف فيما خلق بالموت والحياة ، وبتدبير شؤونهم ، وتسيير أحوالهم ؛ وبذلك تقررت الحاكمية لله تعالى .
قال تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) البقرة : 213
وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) النساء : 44
وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) النساء : 60 – 61
وقال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) النساء : 65
وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) النساء : 105
وقال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) الأنعام: 114
وقال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) المائدة :44
وقال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المائدة :45
وقال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) المائدة :47
وقال تعالى : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ } المائدة : 48
حدثنا هناد ، قال : ثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال: ثنا أبي ، عن سفيان ، عن معمر بن راشد ، عن ابن طاوس ، عن أبيه، عن ابن عباس : {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك همالكافرون} قال : هي به كفر، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله حدثني الحسن ، قال: ثنا أبو أسامة ، عن سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال: قال رجل لابن عباسفي هذه الآيات: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} فمن فعل هذا فقد كفر؟ قال ابن عباس: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وبكذا وكذاالحسن بن يحيى،قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سئل ابن عباس عن قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله و فأولئك هم الكافرون} قال: هي به كفر. قال ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله حدثنا الحسن بن يحيى، قال:أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن رجل، عن طاوس : (فأولئك هم الكافرون) قال :كفر لا ينقل عن الملة. قال: وقال عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق وقال آخرون:بل نزلت هذه الآيات في أهل الكتاب ، وهى مراد بها جميع الناس مسلموهموكفارهم
وقال تعالى : (إِنِ الحُكْمُ إِلا للهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُواْ إِلا إِيَّاهُ) يوسف : 40
وجه الدلالة : قرر الله تعالى اختصاصه وتفرده بالحكم ، فبين أن لا حكم لسواه من الخلق ، وليس لأحد أن ينازعه في الحكم والتشريع.
وقال تعالى : (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء : 65
وجه الدلالة : يقسم الله تعالى بنفسه المقدسة ، أنهم لا يدخلون في الإيمان حتى يُحَكِّموا رسوله صلى الله عليه وسلم في أقضيتهم ، ثم يطيعوا حكمه ، وينفذوا قضاءه ، طاعة الرضى ، الذي هو التسليم ، وهذه القضية كانت في قليل من الماء ، فكيف بمن يحكم غير شرع الله في كل شيء ؟!!
ولذلك تجد بأن القرآن الكريم قد اعتنى عناية فائقة بقضية الحاكمية ، ويرجع هذا الاهتمام إلى أن مصير الأمة متعلق بهذه القضية ، فإن كانت الحاكمية لله عز وجل في جميع نواحي الحياة وجزئياتها سعد الناس، فاطمأنت أنفسهم ؛ لأن النظام الرباني الذي شرعه الله تعالى، والذي ينظم حياتهم قد جاء موافقاً لفطرتهم ، ولن يكون هناك ظلم ولا جور.
الحاكمية في السنة النبوية:
عَنْعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (يَامَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْالْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلا مُنِعُواالْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْغَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) رواه ابن ماجة والحاكم وأبو نعيم.
وجه الدلالة : في قوله: (وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ).
يفيد هذا الحديث أن تنحية ولاة الأمور شرع الله تعالى عن الحكم ، يعد ابتلاء عظيماً ، نتيجته البأس والفرقة ، والعداوة بينهم.
وللحديث بقية
إن قدر الله اللقاء
والبقاء
مع خالص تحياتي