منذ الخامس والعشرين من يناير الماضي تنتاب الكيان الصهيوني حالة ارتباك شديدة ممزوجة بالرعب والترقب حيال مستقبل وجوده في منطقة الشرق الأوسط، تلك الحالة المتزايدة ليس السبب فيها سقوط أكثر الأنظمة العربية تعاوناً ومساندة له، وهو نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، بل المخاوف من التداعيات التي ستعقبه على المدى البعيد بعد الصحوة الشعبية الحالية التي يشهدها عالمنا العربي.
ونظراً للدور المحوري الذي لعبته الثورة المصرية في إعادة إحياء الكرامة لدى الشعوب العربية المقهورة تحت وطأة أنظمة استبدادية، ظلت قابعة على كراسي الحكم سنوات وعقود طويلة فإن الكيان الصهيوني لا يدخر جهداً في محاولاته لوأد تلك الثورة وتحجيمها، لكي لا تتجاوز تداعياتها النطاق الداخلي.
لقد أدركت حكومة تل أبيب حقاً مدى قوة مصر وثقلها الشعبي والسياسي وأن استعادتها لمكانتها الإقليمية سيؤثر عليها بلا محالة، وانعكس ذلك من خلال عدد من تصريحات ومواقف المسئولين "الإسرائيليين" حيال الثورة المصرية والذين سعوا إلى التقليل من أهميتها على المستويين الإقليمي والدولي.
ومن بين تلك التصريحات، ما قاله رئيس الموساد السابق، مائير دجان، خلال محاضرة ألقاها أمام جمعية كبار المسئولين الحكوميين في الجامعة العبرية ونقلتها صحيفة 'يديعوت أحرونوت' أن ما دفع الجماهير الغفيرة من المصريين للخروج إلى الشارع لم ينبع من ثورة الإنترنت، مع الأخذ بعين الاعتبار أن غالبية المصريين ليس لديهم حواسيب، مدعياً أن ما حدث في مصر ليس ثورة وإنما استبدال زعماء, وأنه لا يوجد خطر في وصول الإخوان المسلمون إلى السلطة.
وبحسب دجان فإن الإخوان المسلمين يخشون حصول ضربة شديدة للاقتصاد المصري، بسبب اعتماده على السياحة والمساعدات الأمريكية, فيما أكد مسئول صهيوني رفيع المستوى أن مصر أصبحت خطراً كبيراً على أمن الدولة العبرية الإستراتيجي، خاصة بعد التغيير الأخير في سياستها الخارجية، وفتح معبر رفح مطالباً بتحجيم تلك السياسة الجديدة، التي من شأنها إدخال العلاقات المصرية الإسرائيلية إلى أزمة حقيقيّة، والوصول بها إلى حالة سيئة للغاية.
ونقلت القناة الثانيّة في التلفزيون "الإسرائيلي" عن المسئول الصهيوني قوله "أن تلك التغييرات جعلت أمريكا تشعر بنوع من القلق، خاصة التقارب الحالي بين مصر وحماس، وتدعيم العلاقات مع طهران".
هذه النماذج من التصريحات الصهيونية تعكس مدى إصرار "إسرائيل" على ضرورة تصفية الثورة المصرية، أو على أقل تقدير تحييدها وجعلها على النطاق الداخلي فقط، لذا سعى كبار المحللين والخبراء الاستراتيجيين "الإسرائيليين" إلى وضع المخططات والمؤامرات التي تحقق هذا الغرض على المدى القريب، وقد كشفت عن ملامحها عدد من الدراسات والمقالات التي تنشرها المراكز البحثية الصهيونية كان أبرزها ورقة بحثية نشرها الخبير الصهيوني المعروف، شاؤول منشا، نشرتها مجلة "مرآة" المتخصصة في الشئون الاستراتيجية تناول فيها ضرورة استغلال "إسرائيل" للوضع الحالي لدول الخليج العربي التي تعيش في حالة استنفار قصوى حيال إيران بعد محاولات تدخلها السافر في شئون مملكة البحرين من جهة، وموقفها غير المعلن والمحدد من ثورة 25 يناير المصرية من جهة أخرى في محاولة إسرائيلية مفضوحة للوقيعة بين مصر ودول الخليج العربي.
دعا الخبير الصهيوني في سياق ورقته البحثية التي حملت عنوان" دول الخليج العربي- خط الدفاع الأول للشرق الأوسط" إلى ضرورة استئناف "إسرائيل" لعلاقاتها السرية مع عدد من دول الخليج بهدف التعاون ضد الخطر الذي تمثله إيران خاصة بعد تراجع الدور المصري في هذا الصدد عقب ثورة25 يناير.
وقال أن ثراء دول الخليج العربي يتيح لها إنشاء محطات فضائية وشبكات اجتماعية ذات تأثير كبير على الساحتين العربية والدولية، لذا فإن قوة التأثير الثقافي والسياسي ينتقل تدريجياً من مصر إلى دول الخليج العربي, ومن مظاهر ذلك إننا نجد عدد كبير من الكتاب والصحفيين المصريين ينشرون أعمالهم في وسائل الإعلام الخليجية بسبب المقابل المادي الكبير الذي يحصلون عليه.
واستعرض الخبير الصهيوني في ورقته البحثية سعي دول الخليج العربي طوال العقدين الماضيين إلى إثبات تطلعها لحل النزاع الفلسطيني "الإسرائيلي"، حيث شجعت الحل السلمي للنزاع، مدعياً بأنها أصبحت أكثر انفتاحاً للتطبيع مع "إسرائيل"، وعلى الرغم من عدم التوصل إلى السلام بعد قامت "إسرائيل" بفتح مكاتب تمثيل لها في عدد من دول الخليج وتم عزف النشيد الوطني "الإسرائيلي" في كل من عمّان وقطر.
على ضوء ذلك ربما نشهد خلال الفترة القادمة سعي "إسرائيلي" وبدعم أمريكي علني لتجنيد دول الخليج العربي للدخول في عملية المفاوضات بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" على حساب الدور المصري انتقاما من القاهرة بعد نجاحها في عقد المصالحة بين حركتي فتح وحماس، والذي كان أول إنجاز سياسي لمصر بعد ثورة 25 يناير.
وفي محاولة صهيونية مفضوحة لتشويه صورة دول الخليج، بهدف جذبها نحو تل أبيب، مستغلة حالة عدم الاستقرار التي يعيشها عالمان العربي في الوقت الراهن، زعم الخبير صهيوني في ورقته البحثية قائلاً :"إن مخاوف دول الخليج العربي من التوسع الإيراني هو أيضاً الذي حرك معظمها لحث "إسرائيل" على تقويض حزب الله في حرب لبنان الثانية؛ حتى أن وزير خارجية البحرين الشيخ خالد آل خليفة دعا دول الخليج في إحدى المؤتمرات إلى ضرورة إبرام تحالف دفاعي مع "إسرائيل" ضد إيران، على الرغم من عدم التوصل إلى اتفاق سلام مع "إسرائيل".
وفي إطار السعي للوقيعة بين مصر بعد الثورة ودول الخليج العربي استعرض الخبير "الإسرائيلي" زيارة رئيس الوزراء المصري عصام شرف لعدد من دول الخليج والتي وصفها بأنها كانت زيارة باردة. وقال أن الزيارة كانت تهدف إلى :
- تصحيح الانطباع السلبي الذي تركه تصريح وزير الخارجية المصري نبيل العربي بشأن استئناف العلاقات بين القاهرة وطهران، وهو ما اعتبرته دول الخليج مساساً بأمنها. وفى محاولة لتهدئة الأجواء أعلن شرف أن مصر ترى أن أمن الخليج خط أحمر. وعلى ما يبدو فقد باءت محاولة شرف بالفشل وأن دول الخليج لم تعجب به، وأنها تريد أن ترى الحكومة المصرية الجديدة تتخذ خطوات عملية .
وتابع أن دول الخليج العربي تعمل من منطلق موقف القوة ، كون أن مصر في حاجة إلى مساعدتها ، لذا فإن الحديث عن عودة مصر لمكانتها الإقليمية الرائدة في العالم العربي هو مجرد كلام فارغ.
أما الهدف الثاني، فكان اقتصادياً ، حيث تسببت الثورة المصرية في أزمة اقتصادية عميقة، نتيجة لتوقف حركة السياحة التي تمثل مصدر الدخل الأول لمصر (13 مليار دولار في 2010) بالإضافة إلى عدم الاستقرار في مصر تسبب في هروب المستثمرين الذين بدأوا فى سحب ودائعهم من حسابات البنوك المصرية.
وطبقاً للأنباء المنشورة فقد طلب شرف من دول الخليج مساعدات بنحو 11مليار دولار، لكي تستطيع مصر اجتياز العام الجاري، في تلك الأثناء ليس هناك رد سخي على طلب مصر، والضيف الكبير تم استقباله ببرود في دول الخليج التي زارها.
وهنا تتضح أبعاد ملامح المخطط الصهيوني الجديد، فـ"إسرائيل" لا تهمها علاقات قوية مع بعض دول الخليج العربي بقدر اهتمامها بالوقيعة بينها وبين مصر ما بعد الثورة، على اعتبارها أنها تمثل عمقاً اقتصادياً وتجارياً لمصر في المرحلة الصعبة الحالية التي تمر فيها وهى في أشد الحاجة لمد جسور التواصل مع دول الخليج.
لذا يتعين على الجميع توخي الحذر خلال الفترة القادمة من أبعاد المخططات الصهيونية التي تهدف إلى الفرقة والوقيعة بين الدول العربية وعلى الزعماء العرب إدراك هذا المخطط وعدم الانجرار خلف استفزازات تصدر من هنا وهناك تحقق في نهاية المطاف المخطط الصهيونية ضد الأمة العربية.