ـ بصراحة شديدة لم أكن أتصور يوما أن نظام الطاغية المخلوع مبارك قد أجرم في حق مصر العروبة والإسلام، شعبا ووطنا مثل هذا الإجرام والفساد الذي فاق كل تصور، وتجاوز كل خيال، حتى أن المرء يشعر أننا نموذج فريد في الإجرام والإساءة غير مسبوق ؛ من طاغية بحق شعبه ومواطنيه، بل كنت أشعر أن ثمة مبالغات وشطحات في التناول الإعلامي لمفاسد الحكم البائد، وتحميل مبارك ونظامه كل مصيبة ونكبة وجريرة وقعت على أرض مصر، حتى أصبحت موضة لدي كل من فقد مالا أو مكانة أو سمعة أن يلقي باللائمة على مبارك وزوجته ونظامه وحاشيته، حتى بلغ الأمر لاتهام العديد من الفنانين والفنانات الذين طوتهم السنون ولفظهم الناس وخفتت الأضواء عنهم، لنظام مبارك بأنه كان السبب في ابتعادهم عن الأضواء، كأن مبارك هو المضطهد الأول لكل مصري على أرض مصر وخارجها، ولكن بعد أن تكشفت الأسرار، وفتحت الملفات، وظهرت الحقائق، اتضح أن فساد وإجرام وطغيان مبارك قد فاق كل التصورات، وتجاوز خيالات أشد الناس عداوة لمبارك وآله ونظامه وحاشيته .
مصر مبارك ـ انهيار داخلي وضياع خارجي ـ !
ــ مبارك حاول خلال سنوات حكمه العجاف، وأيام استبداده النحسات، أن يفهم الشعب المصري، أن السبب الوحيد للتدهور الاقتصادي، والفساد الاجتماعي، هو الشعب نفسه بملايينه الثمانين!، مبارك قد أدخل في أذهان المصريين عبر ثلاثين سنة، من الدعايات الكاذبة والدجل الإعلامي؛ أنهم يأكلون ولا ينتجون، ينامون ولا يعملون، وأن القنبلة السكانية لا يمكن علاجها إلا بالرضا بالفتات وأقل القليل، والفساد وشظف العيش، ـ حسب بروتوكولات حكماء مبارك ـ وأنه لا يحق للمصريين بالمطالبة بأدنى حقوقهم، وقد جعل مبارك نشيدا خاصا بالمصريين، تهتف به قلوبهم :
يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرم
ودعوا التفهم جانبا فالخير ألا تفهموا
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النُوّم
إن قيل نهاركم ليل فقالوا مظلم
وإن قيل شهدكم مر فقالوا علقم
ذاك لمن أراد عيشه مكرم
أر
ــ وعلى شماعة الانفجار السكاني والكثافة الضخمة للشعب المصري، ارتكب مبارك وحاشيته ألوانا من المفاسد والسرقات والنهب المنظم لخيرات البلاد، وأداروا البلاد بمنطق الإقطاع الخاص، والوسية التي يتحكموا في أهلها قبل أرضها، وتكريسا لهذا المفهوم، تم تعطيل المشاريع الخلاقة التي تحقق اكتفاء ذاتيا للشعب من متطلباته الأساسية من غذاء ودواء وكساء، فمشروع ممر التنمية الذي كان سيضيف 4 ملايين فدان للرقعة الزراعية تم رفضه، وبدلا من ذلك أقدم مبارك على مشروع توشكي الفاشل الذي أهدر فيه الطاغية 20 مليار دولار على مغامراته ومصالحه الشخصية، ومشروع طمي بحيرة ناصر الذي كان سيرفع درجة خصوبة الأراضي المصرية لأعلى المستويات القياسية، ويستخرج منه المعادن الثمينة مثل الذهب والبلوتنيم بكميات ضخمة، يرفضه مبارك، حتى أنه رفض عرض الرئيس السوداني البشير بزراعة قمح للمصريين في أراضي السودان، وكان حجته ( حتى لا تغضب مني أمريكا ) وكما هو معروف مصر هي أكبر مستورد للقمح الأمريكي .
ـ وعلى شماعة الشعب الأكول البطين الذي يأكل ولا ينتج تم بيع مئات الشركات والمصانع الرابحة بدعوى أنها خاسرة وترهق ميزانية الدولة، فبيعت بأبخس الأثمان وسرح عمالها بعشرات الألوف، وخربت بيوتهم وتشتت أسرهم، تم مسمى " الخصخصة " واتضح أنها بيعت مقابل رشاوى بمئات الملايين ذهبت لجيب اللص المجرم مبارك وأسرته وحاشيته .
ـ وعلى شماعة القنبلة السكانية تدهورت خدمات التعليم والصحة والزراعة، وانهارت مصر داخليا في شتى المجالات، وازداد العجز في الموازنة حتى بلغ إجمالي الدين الداخلى فقط 1050 مليار جنيه وهو رقم خرافي لا يوجد له نظير في دول العالم باستثناء أمريكا المعروفة بضخامة دينها الداخلى تبعا للخدمات الكبيرة والواسعة التي تقدمها للمواطنين الأمريكان، ولكن هذا الدين الداخلي في عهد مبارك لم يكن له ما يقابله من خدمات، إنما تضخم وتوحش بهذا الحجم المهول بسبب الفساد والرشاوي والمحسوبية والمظهرية والنهب والسلب من مال الدولة السايب في عهد مبارك وأسرته، حتى انتهى الحال بالشعب المصري لأن أصبح أكثر من نصفه يعيش تحت خط الفقر الدولي، ومنهم 30% في فقر مدقع، وحفل سجل "مصر مبارك " بالكثير من الإنجازات المخجلة التي تكشف عن تدهور الداخل المصري، فمصر الأولي عالميا في معدلات الإصابة بالأورام السرطانية ـ بفضل فساد وزارة الزراعة منذ أيام يوسف والي واستيراد البذور والأغذية المسرطنة من الصهاينة ـ والثالثة عالميا في الإصابة بأمراض الكلى والفيروس الكبدي الوبائي ـ بسبب تهالك شبكات الصرف الصحي وعد توافر مياه شرب نظيفة ـ ومصر في المركز ال 160 في ترتيب المنظمة الدولية للشفافية ـ بسبب انتشار الرشاوى والمحسوبية والفساد والصفقات المشبوهة ــ والإنجازات كثيرة واجترارها يثير الكثير من الأحزان والآلام والذكريات المريرة .
ــ هذا على المستوى الداخلي أما على الصعيد الخارجي فكانت المصيبة أكبر والجريمة أفدح، فمبارك منذ ان تولى الحكم عن دون استحقاق أو أهلية منه لهذا المنصب الخطير، قرر و منذ اليوم الأول لرئاسته المريرة أن يحتفظ بكرسيه للأبد مهما كانت التضحيات والتنازلات، وقد وعى الدرس جيدا من أسلافه، وعرف أن كلفة بقائه في كرسي السلطة تدفع فاتورتها عبر البيت الأبيض والكنيست الإسرائيلي ؛ حيث التنازلات المهينة، والإجراءات الأليمة، لذلك حرص مبارك على استرضاء الأمريكان والصهاينة بكل السبل، وتحولت مصر من أكبر وأهم بلد عربي وإسلامي، وقلب العروبة والإسلام النابض، وقبلة العرب والمسلمين، تحولت في عهد مبارك إلي قزم مذعور، جل دوره الخارجي حراسة البوابة الغربية للكيان الصهيوني، والحفاظ على أمن واستقرار المواطن الإسرائيلي، بإبقاء الفلسطينيين محاصرين باسم السيادة المصرية على أراضيها.
وأيضا تمثل دور دبلوماسيتها الخارجية في تبرير وتحليل العربدة الأمريكية في المنطقة، وفي سبيل تحقيق الحلم الأمريكي والإسرائيلي، وباسم التمسك بعملية السلام ارتكبت الكثير من الجرائم الدبلوماسية، وأصبح ارتهان الخارجية المصرية بالقرار الأمريكي والمصالح الإسرائيلية سببا لقطع وتوتر العلاقات مع الكثير من دول المنطقة، حتى بدا للعيان أن جميع العرب يكرهون مصر، وأثيرت النعرات العصبية والعرقية والطائفية، وأصبحت أدوات يلعب على أوتارها النظام المصري البائد، وفي الوقت نفسه انشغلت الخارجية المصرية عن حل العديد من الملفات العالقة والصعبة في الشأن المصري وأصعبها ملف مياه نهر النيل الخطير، وذلك بسبب تقزم وانهيار الدبلوماسية المصرية في عهد مبارك الفاسد، والعجيب أن مبارك كان يدير السياسة الخارجية بنفس المفهوم الأمني العقيم الذي كان يدير به الشأن الداخلي، فتولي عمر سليمان مدير المخابرات العامة العديد من الملفات الخارجية مثل ملف المصالحة الفلسطينية والحدود المصرية ومياه النيل، وهذا المنظور المخابراتي والأمني كان سببا مباشرا في تصعيب وتعقيد هذه الملفات، وقد كشف الرئيس الأثيوبي ( زيناوي ) لوفد الدبلوماسية الشعبية المصرية : أن عمر سليمان كان السبب وراء توتر العلاقات بين مصر وأثيوبيا، ولو صحت التقارير التي تتحدث عن دور كبير لعمر سليمان في شن الحرب على غزة أواخر سنة 2008، لإجبار حماس على قبول الشروط المصرية في المصالحة، فستكون هذه من أكبر الجرائم السياسية لنظام مبارك الفاسد البائد .
دبلوماسية الثورة وتصفير الملفات
ـ واليوم وبعد سقوط هذا النظام الفاسد المجرم، وبعد ثلاثين يوما من دبلوماسية الثورة المباركة، التي انشغلت لفترة في مواجهة فلول النظام البائد، وخطواته لإجهاض نجاح الثورة، بدأت الثورة في علاج آثار الماضي وحل المشكلات التي تسبب فيها نظام مبارك الفاسد، وإذا بالملفات التي بدت أنها معقدة وغير قابلة للحل واستعصت لسنوات طويلة على جهابذة الدبلوماسية المصرية، إذا بها تنحل بكل يسر وسهولة وفي أيام معدودات، وفي اجتماع أو اجتماعين على الأكثر .
ــ فملف المصالحة بين فتح وحماس والذي ظل يراوح بين أقدامه لعدة سنوات، بسبب رغبة مبارك في عدم إزعاج تل أبيب، إذا به ينحل بكل يسر وسهولة في أقل من أسبوعين، والأجواء التي سيطرت على لقاء المصالحة كانت تعبر عن تخلص الطرفين من قيود النظام البائد وضغوطه، وإحساسهم بالحرية والشفافية من مصر الجديدة، وإذا بملف الحدود وغلق المعابر، يحسم بقرار واحد من المجلس العسكري، بفتحها دون قيد أو شرط مع التنويه بأن السياسة القديمة كانت أمرا شائنا ترفضه القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، وملف مياه النيل والتهديدات الأثيوبية ببناء السدود، وهو الملف الأشد صعوبة، إذ به يتلحلح بسرعة، وتوقف أثيوبيا توقيعها على الاتفاق الإطاري في خطوة جادة على طريق الحل .
ــ وعلى صعيد العلاقات الدولية والإقليمية، قامت دبلوماسية الثورة بترميم العلاقات المتداعية مع العديد من الأشقاء العرب مثل قطر والسودان والجزائر، كما قام عصام شرف رئيس الوزراء المصري بجولة ناجحة في دول الخليج استعادت كثيرا من الود والحميمية مع هذه الدول، وتوجهت مصر ناحية القارة الأفريقية بعد سنوات طوال من الهجر والابتعاد عن الامتداد الاستراتيجي لمصر، وذلك كله من أجل إرضاء السيد الأمريكي الذي كان لا يريد أن يري مصر إلا في صورة خفير بوابة إسرائيل الجنوبية .
ــ هذا كان حصاد دبلوماسية الثورة في ثلاثين يوما، حلت معظم المشاكل والملفات العالقة التي تسبب فيها النظام البائد في ثلاثين سنة، مما يكشف لنا عن حجم الإساءة والإجرام الذي تسبب فيه مبارك ونظامه، وهذا الكلام نهديه واضحا صريحا بلا أدني مقبلات كتابية، لمن يدعي أن القانون المصري ليس فيه ما يعاقب على الفساد السياسي الذي كان عليه مبارك ونظامه البائد، فحقيقة الأمر أن فساد مبارك السياسي فاق ضررا وخطرا وإجراما وفسادا ؛ فساده وإجرامه المالي والاقتصادي والاجتماعي، و لابد من محاسبته ومحاكمته هو ونظامه على هذه الجرائم السياسية كلها .
وأخيرا لي همسة رقيقة في أذن السيد المدعو " لورانس العرب " وهو ضيف دائم على صفحة التعليقات على مقالاتي في المفكرة وغيرها، وأنا أشكر له حسن متابعته لما أكتب، قد كتب معلقا على إحدى مقالاتي الأخيرة بقوله ( ذهب مبارك الذي كنت تعلقون عليه كل مشكلات مصر الداخلية والخارجية، فانتظروا هل ستتم المصالحة أو مياه النيل .....)
أقول له : لقد ثبت باليقين الذي لا يقبل الشك أن مبارك ونظامه كان وراء كل أزمات مصر الداخلية والخارجية، وقد خابت توقعاتك، وطاش رأيك، فهلا تركت دفاعك المستميت عن مبارك وأيامه، وإلا فباب الظنون بك وبرأيك وتوجهاتك سيبقى مفتوحا علي مصراعيه لكل الاحتمالات، ما يسرك منها، وما لا يسرك