نجحت الثورات العربية في تونس ومصر، وهي في طريقها للنجاح في بلدان عربيَّة أخرى, ومن الممكن أن تكون الحركة الإسلاميَّة هي القوة السياسيَّة الأولى المستفيدة من هذه الثورات، ومن الممكن أيضًا أن تكون الحركة الإسلاميَّة هي الخاسر الأول والأكبر, ويأتي الخوف من الخسارة بسبب التفكير المتسرِّع لدى البعض منا والذي بدأ يثير مشاكل عديدة.
لدينا العديد من القادة الذين أصبحوا يمتلكون رؤية وتفكيرًا استراتيجيًّا جيدًا بفعل خبرتهم الطويلة في العمل الإسلامي، حيث مرّوا في مراحل متعددة من عمرهم بكل الحالات من قبل، بما فيها حالات الحماس والتسرع، واكتسبوا خبرات استراتيجية جرَّاء اشتغالهم بالعمل السياسي الإسلامي جنبًا إلى جنب مع متابعتهم للأحداث السياسيَّة بشكلٍ معمَّق لعشرات السنين دون انقطاع, كما لدينا العديد من الباحثين السياسيين الذين اكتسبوا ملكات التفكير الاستراتيجي بفعل دراستهم للسياسة والتاريخ، مما أكسبهم وعيًا تاريخيًّا واستراتيجيًّا عميقًا, لكن مع ذلك يصر عدد من المتحمسين على التسرع النزق في حصد ما يظنون أنه ثمار الثورة.. تلك الثورة التي عارضها كثيرٌ منهم لسنوات طويلة وظلوا على موقفهم منها حتى معظم ساعاتها الأخيرة, وهو أمرٌ يشير بوضوح إلى أن نجاح الثورة هو أوضح دليل على الخلل في رؤيتهم السياسيَّة والقصور في تفكيرهم الاستراتيجي, ورغم هذا فإن الثقة الزائدة في النفس بشكل كبير جدًّا تميز المتسرعين، وذلك بنفس درجة انعدام ملكة التفكير الاستراتيجي لديهم وبنفس درجة رغبتهم الشديدة في العمل المنعزل عن التيارات والشخصيات الأخرى الأخبر منهم بطبيعة المعترك السياسي والاستراتيجي الراهن.
وإزاء هذه الحالة فإنه من المهمّ تنوير الرأي العام بالرؤية الاستراتيجيَّة المناسبة التي من شأنها أن تمكن الحركة الإسلاميَّة من حصد ثمار الثورات العربيَّة.
ونظرًا لمحدودية المساحة المتاحة هنا فسوف نقتصر على رسم الاتجاهات الاستراتيجيَّة اللازمة لتحقيق ذلك؛ كي يناقشها ويطورها ويتتبع خطواتها المقتنعون بالتفكير الاستراتيجي والمهتمون بالاستماع لرؤى غيرهم؛ لأن الأمر عندهم كما قال الإمام علي (رضي الله عنه): "من شاور الرجال شاركهم عقولهم", أما المتحمسون بغير رويَّة والمتسرعون بغير رصانة الرؤية والمستغنون عن آراء غيرهم وعن خبرات من سواهم فلهم حديثٌ آخر في مناسبات أخرى إن شاء الله تعالى.
إن أول وأهم محور استراتيجي ينبغي ترسيخه الآن هو إدراك أن أفضل حالة للحركة الإسلاميَّة الآن هي استقرار الأوضاع العامَّة في الدولة بشرط سيرها حثيثًا في اتجاه ترسيخ الحريات العامة والخاصة وإجراء انتخابات حرَّة ونزيهة يُسمح فيها للجميع بالمشاركة لتأتي بنوَّاب الشعب ومن سيتولَّوْن صياغة الدستور الجديد وتحديد شكلِ النظام السياسي القادم, ليس فقط لأن الحركة الإسلاميَّة من المنتظر لها أن تحصد حصةً كبيرة في أي انتخابات قادمة، ولكن لأن درس التاريخ يشير إلى أن حالة الحرية العامَّة هي أفضل حالة تتحرَّك فيها الحركة الإسلاميَّة للدعوة والتثقيف والتربية والتعبئة والتجنيد والعمل العام السياسي والاجتماعي والثقافي, ومن هنا فمصلحتنا الاستقرار على هذه الحالة لئلا تتحوَّل لحالة أخرى غير مناسبة لنا, علمًا بأن كثيرًا من القوى السياسيَّة المحلية والإقليميَّة والدوليَّة المنافسة والمعادية قد تدفع لحالة تتضمَّن نوعًا ما من الديكتاتورية التي يضمنها العسكر بهدف إبعاد الإسلاميين عن الحكم والتأثير السياسي العام.
وهناك حزمة من الخطوات تتفرع عن هذا الاتجاه الاستراتيجي وهي:
-عدم اللجوء للعنف بأي شكل من الأشكال.
-عدم اللجوء لتغيير المنكرات بالقوَّة.
-عدم اللجوء لفرض حكم الإسلام بالإرغام.
وثاني المحاور الاستراتيجيَّة للعمل الإسلامي الحالي هو تقديم خطاب إسلامي ملتزم ومنضبط بالشرْع الحنيف، بشرط أن يكون بلغة معاصرة, واللغة المعاصرة تعني أن يكون الخطاب سهلا دون ابتذال ومرتبطًا بهموم ومتطلبات وتطلُّعات الناس، وأن يكون أسلوب هذا الخطاب جاذبًا ومشوقًا ويسير بالأسلوب والسياق الذي يفهمه ويتقبَّله المخاطبون في زمان ومكان الخطاب.
ويتفرَّع عن هذا المحور خطوتان هامتان هما:
-امتلاك وسائل إعلاميَّة حديثة كثيفة, ففي مصر الآن (على سبيل المثال) عشرات المطبوعات اليوميَّة والأسبوعيَّة كلها تقريبًا توجِّه سهام النقد لتعاليم إسلامية بشكل أو بآخر في معظم الأوقات، كما أنها لا تكاد تخلو من مادة أو أكثر تحرِّض على أحد فصائل الحركة الإسلاميَّة, والمطلوب أن نمتلك على الأقل 50% من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة كي نتمكَّن من القيام برسالتنا بنجاح.
-وسائل الاتصال التي نستعملها هي وسائل الإعلام الحديثة مضافًا لها وسائل الاتصال التقليدية مثل خطبة الجمعة ودروس المسجد, والمطلوب في كل هذا أن نستخدم وسائل الاتصال هذه بشكلٍ ناضج ومتطور, وذلك بأن نستهدف عامة الجماهير, لأن هناك فرقًا بين النشرة الداخليَّة ووسيلة الاتصال العامَّة, فالنشرة الداخلية خطابها موجه للأتباع والمتعاطفين، ولا يصلح أن يوجَّه لغيرهم لأنه لن يفهمه غيرهم, أما وسيلة الاتصال العامة فهي موجَّهة لقطاع واسع من الجماهير بهدف التأثير في اتجاهاتهم, والواقع أنه حتى وسائل الاتصال القليلة التي نمتلكها كلها تعمل كأنها نشرة داخليَّة لا تجتذب غير الأتباع والمتعاطفين، ومن ثم فهي لا تحدث اختراقًا في الواقع العام, فضلا عن التخلف التكنيكي في أداءها, وبالتالي فمن المؤسف جدًّا أن قطاعًا كبيرًا من الشعب يعتبر بعيدًا عن الإيمان بالطرح الإسلامي، فضلا عن قسم كبير من النخبة والقلة الناشطة رغم النجاح التنظيمي النسبي للإسلاميين.
ويأتي المحور الاستراتيجي الثالث ذا صلة بالمحور السابق، حيث يلزمنا العمل على كسب قطاع لا بأس به من نُشطاء النخب العلمانيَّة وأيضًا من غير المسلمين الوطنيين بشكلٍ ما, فإما أن يصيروا في خندق المدافعين عن الحركة الإسلاميَّة وأطروحاتها أو على الأقل يقفون على الحياد ويكفون عن صبّ أذاهم على الحركة الإسلاميَّة وأطروحاتها, وذلك يحقق مزيدًا من التأثير الإعلامي والسياسي الإسلامي؛ لأن هذه النخب ذات صوت عالٍ ورأيها مسموع في الداخل والخارج كما أنها تمثل قطاعًا من قطاعات المجتمع الذي نعمل فيه.
أما آخر المحاور الاستراتيجيَّة المطروحة بإلحاح في هذه المرحلة فهو إدارة حوار مفتوح مع القوى الكبرى على المستويين الإقليمي والدولي لتحقيق قدرٍ من الفهم المتبادل بيننا وبينهم، وكذلك لإقناعهم بأن وجود الحركة على رأس الحكم لن يؤديَ لحدوث أي عدوان على الحقوق المشروعة لهذه القوى، بل قد توجد مساحاتٌ لا بأس بها من الممكن التعاون من خلالها, وهذا الحوار لا بدَّ أن يشمل القوى الحكوميَّة وغير الحكوميَّة على حدٍّ سواء, والهدف منه أن يؤدي إلى تخفيف الفيتو الإقليمي والدولي ضدّ الحركة الإسلاميَّة, ونقول تخفيف لأن إلغاءَه بالكليَّة هو أمرٌ مستحيل.