قد يكون دونالد
ترمب قليل أو عديم الخبرة سياسيّا، وهو كذلك فعلا.
ومن المفارقات أنّ شخصا عديم الخبرة السياسية يصبح رئيسا لأميركا التي يصعب فيها
الحصول على أبسط الوظائف بدون سابق خبرة.
وقد يكون القانون الانتخابي -أو على الأقل لوائح
الأحزاب الرئيسيّة- بحاجة إلى تعديل يُدخل الخبرة السياسية شرطا للترشح لرئاسة
دولة بحجم أميركا، حتّى لا تتكرّر ظاهرة ترمب الذي أصبح رئيسا دون أن يتولّى أيّ
مسؤوليّة حكومية أو حتّى حزبيّة.
لكن ،
إنه يُتقن منطق الرّبح والخسارة، ويعرف كيف يلاعب الإعلام، كما يبدو أنّه يفهم
عقليّة ونفسيّة شريحة واسعة من الأميركان ويعرف كيف يخاطبهم. ولقد أثبت ذلك ليس
فقط بفوزه المفاجئ بالانتخابات، ولكن أيضا بإدارته لحملته الانتخابيّة.
ترمب ووسائل الإعلام
فقد ،
فقدّم نفسه على أنّه مرشّح التغيير والرئيس الذي سيعيد لأميركا مجدها وعظمتها،
بلغة غير مهذّبة فيها جرعة عالية من الجرأة والقوّة والعنجهيّة، تناسب العقليّة
الأميركية المتمرّدة.
طبعا كلّ ذلك لم يكن ليحسم الانتخابات لولا أنّ منافسته
أنهكتها، وحالت دون حصولها على ثقة النّاخب ودون تحمّس القواعد الديمقراطية لها؛
الفضائحُ أو على الأقل الشبهات القديمة والحديثة، وآخرها ملف بنغازي والبريد الإلكتروني، وشبهة استعمال طرق
ملتوية لهزيمة منافسها في الحزب
الديمقراطي برني
ساندرز.
"لا أحد يستطيع أن ينكر على ترمب خبراته الواسعة في مجالي
الأعمال والإعلام، إنه يُتقن منطق الرّبح والخسارة، ويعرف كيف يلاعب الإعلام، كما
يبدو أنّه يفهم عقليّة ونفسيّة شريحة واسعة من الأميركان ويعرف كيف يخاطبهم. ولقد
أثبت ذلك ليس فقط بفوزه المفاجئ بالانتخابات، ولكن أيضا بإدارته لحملته
الانتخابيّة"
وزاد خطؤُها الفادح بتقديم نفسها على أنّها مرشحة
الاستمرارية، وتصرّفها على أنّها منتصرة لا محالة، وعلى أنّ الرئاسة حقّ طبيعي لها
باعتبار خبرتها الواسعة وكون ترمب غير مؤهّل لرئاسة أميركا وغرورُها؛ كل ذلك زاد
نفور النّاخب الأميركي المتمرّد بطبعه على كلّ شيء.
كما كان ترمب ذكيا في استعماله لخطاب شعبي يخاطب
الإنسان العادي ويركّز على الاقتصاد، وهو الوتر الحسّاس لغالبيّة الشعب الأميركي،
خصوصا الذين تضرّروا من الأزمة الاقتصاديّة.
أمّا في تعامله مع الإعلام، فقد استطاع ترمب بخبرته
الواسعة في هذا المجال أن يفرض نفسه على إعلام لم يستطع أن يخفي انحيازه ضدّه، رغم
حرصه على المهنيّة.
لم يخف على ترمب أن الإعلام الأميركي وإن كانت ميولاته
ليبراليّة، فهو تجاري وحريص على رفع نسبة المشاهدة، ويتنافس على الأخبار المثيرة،
فظلّ طوال الحملة الانتخابيّة يزوّد الإعلام بتصريحات وشطحات مثيرة للجدل.
ذلك كان ترمب المرشّح ودوافعه ومقاربته في التعاطي مع
الإعلام. أمّا صدامه مع الإعلام ومع أجهزة الدولة بعد فوزه بالرّئاسة فبحاجة إلى
تفسير مختلف.
صحيح أنّ الإعلام والجهاز البيروقراطي -خاصة في وزارة
الخارجيّة- استقبلوا ترمب بكثير من البرودة وخيبة الأمل، لكن ذلك لا يكفي لتفسير
تعامله الفجّ مع وسائل الإعلام الذي تجلّى في إهانته لبعض الصحفيين ومنعهم من طرح
أسئلتهم، واتهام المؤسسات الإعلامية التي يمثلونها بفبركة الأخبار.
وذلك في ندوته الصحفيّة الأولى كرئيس منتخب وقبل
التنّصيب. ثم في سابقة أخرى أخطر استثنى البيت
الأبيض مراسلي بعض
وسائل الإعلام الكبرى من حضور
ندوة صحفيّة.
القاسم المشترك بين وسائل الإعلام التي هاجمها ترمب
ووكالة المخابرات المركزية ومكتب
التحقيقات الفدرالي اللذين
اصطدم بهما ترمب، هو لغز علاقته وإدارته بفلاديمير
بوتين وروسيا ودور موسكو في ترجيح كفّة ترمب في الانتخابات الرّئاسيّة.
فهنالك شبهات وقرائن حول هذه العلاقة استدعت فتح تحقيق،
ودفعت وسائل الإعلام لإثارة هذه القضيّة واستغلال أيّ فرصة لتوجيه الأسئلة حول هذا
الموضوع لترمب أو لأيّ مسؤول في إدارته. وهنا يبدو .
التفسير الوحيد الذي يجعل ترمب ؛
هو أن ترمب لديه ما يخفيه حول هذه المسألة، وأنّ الأجهزة قد تكون تملك معلومات
محرجة.
وقد تأكّد ذلك عندما كشف اللّثام عن مكالمات سابقة
مشبوهة أجراها مع الروس من اختاره ترمب ليكون مستشاره للأمن القومي (مايكل فلين)،
ممّا اضطرّه للاستقالة بعد أقلّ من شهر من تنصيبه، وهي سابقة خطيرة خاصّة إذا
اعتبرنا حساسيّة هذا المنصب.
ويبدو أنّ ترمب وجد أنّ المخرج الوحيد من مأزقه -ولو
مؤقّتا- هو تحويل الجهات المعنيّة بموضوع بوتين وروسيا إلى أطراف في صراع معه،
ممّا يطعن ولو قليلا في مصداقيتهم وحيادهم ونزاهتهم، على الأقل لدى أنصاره.