عادت مؤشرات الاضطهاد العلماني والأمني للإسلام في تونس إلى الظهور مجددا وبقوة، خلال الشهور التي تلت فوز حزب نداء تونس ورئيسه الباجه قايد السبسي بأغلبية البرلمان ورئاسة البلاد، وهو ما ينذر بخطورة العودة إلى ما قبل ثورة الياسمين التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع "ابن على"، وهو النظام الذي ظن الكثيرون أنه آخر نظام يضطهد الإسلام في تونس، وأنه قد بدأ عصر جديد، للإسلام فيه مكانة عظيمة.
اضطهاد الإسلام في تونس:
شهد تاريخ تونس الحديث اضطهادا كبيرا للإسلام والإسلاميين وصعودا مرعبا للتيار العلماني والشيوعي، وشهد الإسلام في عهد حكامه المسلمين ما لم يشهده طوال فترة الاحتلال الفرنسي ( 1881 / 1956 )، حيث قام الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، بشن حرب لا هوادة فيها على الإسلام والمسلمين، وقام بإغلاق جامع الزيتونة وهو أحد أهم وأكبر الجامعات الإسلامية في العالم، وفيه تخرج آلاف العلماء الذي نشروا الإسلام في بلاد الله المختلفة، كما شن بورقية هجوما شرسا على الحجاب التقليدي، والمعروف في تونس بـ"السفساري" وهو غطاء تتلحف به المرأة عند الخروج ويغطي رأسها حتى كعبيها، ولم تكن النساء التونسيات يخرجن بدونه، وقام بنفسه بنزع الحجاب من على رأس إحدى النساء، في حادثة اعتبرها الكثيرون مسرحية معدة سلفا لإهانة الحجاب.
كما قام بورقيبة بإغلاق الكتاتيب، وسمح بتعدد الخليلات والعلاقات غير الشرعية ومنع تعدد الزوجات، وأصدر قانونا يمنع استخدام التاريخ الهجري، وقام بتأميم أكثر من 200 مسجد، ومن ثم بيعها، لتتحول إلى مساكن، وحول مسجدا في مدينة بنزرت إلى مرقص، وحول آخر إلى خمارة، وثالثا إلى متحف روماني.
بل تجاوز بورقيبة في عداونه على الإسلام وشعائره، إلى الحد الذي جعله يمنع صيام شهر رمضان، وذلك في عام 1962 وقام بعزل المفتي الفاضل بن عاشور الذي عارض هذه الدعوة الشيطانية، وأمر بتنظيم حملات لإجبار الموظفين والعمال وقوات الجيش وجميع أطياف الشعب التونسي على الإفطار في رمضان، كما ألغى الأوقاف والمحاكم الشرعية.
وقد تفاخر بورقيبة بحربه ضد الإسلام، وقال في حوار مع صحيفة "لوموند الفرنسية" الصادرة بتاريخ 21 مارس 1976: "أعتز بثلاث قضايا، أغلقت جامع الزيتونة، وحررت المرأة، وأصدرت قانون الأحوال الشخصية الذي يقطع علاقة الأسرة بالإسلام".
صعد الرئيس المخلوع "ابن علي" إلى رئاسة تونس –بعد انقلاب على بورقيبة- بشعارات براقة وعبارات لامعة، ففتح المجال لحرية الصحافة، وتكوين الأحزاب، وسمح للحركة الإسلامية بالعمل السياسي وإصدار صحيفة ناطقة بلسانها، لكنه لم يسمح لها بإنشاء حزب سياسي، حيث شاركت في الانتخابات البرلمانية التي أجريت سنة 1989 م باسم جديد هو "النهضة" كطرف مستقل، لكنه قام بتزوير الانتخابات وحصل حزبه على جميع مقاعد البرلمان، فيما أشارت الأرقام المحايدة إلى فوز الحركة بنحو 20 في المائة من الأصوات.
وكانت تلك الانتخابات مرحلة فارقة في علاقة حركة النهضة بنظام بن علي، توالت بعدها المضايقات والاضطهاد بحجج وأسباب مختلفة، بعدما تبين للنظام قوة وشعبية الحركة، وما لها من آثار سلبية عليه، فاضطر الشيخ راشد الغنوشي إلى مغادرة البلاد، ليخلفه على رأس الحركة الدكتور الصادق شورو، الذي كان أحد أكبر ضحايا نظام بن علي، حيث قضى أكثر من 20 سنة متواصة داخل السجن منها 14 سنة في زنزانة انفرادية.
وفي عام 1990 شن نظام بن علي حربا قذرة واستئصالية ضد حركة النهضة، حيث بلغ عدد المعتقلين سنة 1991 أكثر من 10 آلاف معتقل، وصدرت ضد الآلاف منهم أحكاما قاسية وظالمة من بينها الحكم بالاشغال الشاقة مدى الحياة، فيما تمكن آلاف آخرون من الفرار من تونس والعيش بالمهجر لمدة وصلت إلى 20 عاما، حتى قامت ثورة الياسمين.
ثورة الياسمين وصعود الإسلاميين:
قامت ثورة تونس ضد نظام ابن علي في نهاية عام 2010 وانتهت بهروب رئيس النظام وإعادة تشكيل مؤسسات الدولة، وفاز الإسلاميون –حركة النهضة على وجه الخصوص- بنسبة تخطت 40% في أول انتخابات برلمانية بعد الثورة، وشكلوا تحالفا مع حزبين سياسيين آخرين لإدارة شؤون البلاد، ولكن هذا لم يعجب العلمانيين في البلاد، فسعوا جاهدين على مدار عامين وأكثر إلى الإطاحة بالتحالف الحاكم من أجل إسقاط الإسلاميين، حتى آثرت حركة النهضة أن تنسحب من الحكم وتقدم تنازلات مؤلمة، حتى لا تجرفها موجة الإطاحة بالإسلاميين مثلما حدث في مصر ودول الربيع العربي.
وعندما أجريت الانتخابات البرلمانية والرئاسية مجددا في تونس، تراجعت حركة النهضة بشكل كبير على كافة المستويات السياسية، وفاز حزب نداء تونس وهو الحزب الذي يضم عددا كبيرا من مسؤولي وقياديي نظام الرئيس المخلوع ابن علي، ومع ظهور المؤشرات الأولى لفوز هذا الحزب، حتى انبرت تصريحات قياداته التي تحتقر الإسلاميين وتسخر منهم وترفض التحالف معهم في أي ائتلاف حكومي، وبالفعل شكلت أول حكومة بعد تلك الانتخابات خالية تماما من أي من أعضاء حركة النهضة.
إغلاق المساجد وتحريف القرآن:
شهدت تونس خلال الشهور الماضية كغيرها من الدول العربية، عدة عمليات مسلحة، تبنتها جماعات مصنفة على أنها منظمات إرهابية، وسقط خلال تلك العمليات والتفجيرات العشرات من التونسيين والأجانب، لكن النظام الجديد في تونس، والذي ظهرت الكثير من التقارير التي تشير إلى وجود خلل أمني كبير، ألقى كعادته التهمة على الإسلام والإسلاميين، بدلا من معالجة مواطن الضعف والقصور الأمنية التي تعتريه.
أعلنت الحكومة حالة الطوارئ في البلاد، وقامت بإغلاق نحو ثمانين مسجدا في أنحاء البلاد المختلفة، بحجة انتهت المهلة التي وضعتها لإغلاق المساجد التي تعتبر خارجة عن الدولة، في محاولة مستميتة لتحميل الإسلام وشعائره ومساجد المسلمين، مسؤولية الفشل الأمني الكبير، وهو القرار الذي قوبل باعتراض كبير من أئمة تونس، ودفعهم للتظاهر رفضا له.
إن قرار إغلاق بيوت الله، لا يمكن اعتباره إجراء احترازيا أو تدبيرا أمنيا، لحماية أمن البلاد مهما قيل في ذلك من أقاويل، ولكنه استمرار لسياسة نظامي بورقيبة وابن علي في التضييق على الإسلام وشعائره والنيل منه ومن مؤسساته ورموزه، ولو أنها كانت صادقة في دعواها، لكانت اتخذت إجراءات أخرى أقل حدة تجاه بيوت الله، مثل ضمها للأوقاف والشؤون الدينية، أو غير ذلك من الإجراءات التي لا تصل حد غلقها ومنع الصلاة فيها.
ولم تمض على قرار إغلاق المساجد أياما قليلة حتى أصدرت الحكومة التونسية قرارا آخر يكشف استهدافها للإسلام بشكل واضح، وذلك حينما أعلنت إقالة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في البلاد "عبد الله الوصيف"، وذلك بعد اتهامه أحد الرموز العلمانية "يوسف الصديق" بـ"تحريف معاني القرآن والسنة" في برنامجه الإذاعي.
وخالفت الحكومة في القرار المشار إليه، كافة الادعاءات التي يرددها العلمانيون بضرورة مواجهة الفكر بالفكر، فقد اعترض "الوصيف" على افتراءات "الصديق" على القرآن والسنة، ووصف ما يتفوه به تجاههما بأنه تحريف لهما، وذلك في بيان واضح لرئيس هيئة الإذاعة التونسية، حيث قال في هذا البيان إن "الصديق يمارس تحريفا متعدما لمعاني القرآن الكريم والسنة النبوية" مضيفا ان هذا "النوع من الدس والتحريف لمعاني القرآن الكريم يذكر بممارسات سابقة سلكها آخرون مثل سلمان رشدي الايراني ومحمد أركون الجزائري وأعتبر ان مثل هذه البرامج هدمية للامن الثقافي والعقدي".
ويتبين مما جاء في هذا البيان أنه لم يحمل أي تكفير أو تفسيق، ولكنه بين رأيه وموقفه تجاه ما قيل في البرنامج الإذاعي، وكان ينبغي على الحكومة أن تنظر في صحة هذه الاتهامات التي ساقها الوصيف، وأن تعرض القضية على علماء البلاد ليحكموا فيها، ولكنها انحازت إلى الافتراء على كتاب الله وسنة رسوله وتحريفهما، وأصدرت قرارا تعسفيا بإقالة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، بحجة أن مراسلته للإذاعة تمت دون إعلام مسبق للحكومة وبشكل فردي وأنها "تحتوي على استنتاجات واتهامات خطرة يمكن أن تكون لها عواقب وخيمة".
إن ما شهدته تونس من تحول ثقافي خطير ضد الإسلام خلال العقود الماضية، لا يزال يلقي بآثاره السلبية على ما تشهده البلاد، وسيبقى هذا التحول الخطير تحديا كبيرا أمام العلماء والأئمة، وسيكون سيفا مسلطا بيد العلمانيين والمستبدين ضد أي دعوة التزام وتدين وضد أي دعوة إخلاقية وشرعية.