الحمد لله القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)البقرة: 183
والصلاة والسلام على من قال: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه “، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعــــد
هذه رسالة أذكر بها نفسي وإياكم بعظيم فضله علينا بأن ندرك خير الشهور وأفضل الأيام شهر رمضان المبارك، فلنسجد لله الآن شكراً على أن منحنا فرصة وأمد لنا في أعمارنا لنغتنم في الشهر الكريم الصالحات، فكم حبيب لنا كان بيننا بالأمس وهو تحت الثرى وحرم من هذا المن والفضل والخير. ولا ندري هل سوف يأتي علينا رمضان قادم ونحن بين الأحياء أم بين الأموات. فلنشمر جميعاً عن سواعدنا ونرفع الهمم ونعقد النية والطوية بالصلح مع رب البرية ونسطر صفحة جديدة في كتابنا وصحيفة أعمالنا: أولها الاستغفار عما كان وأوسطها التوبة وأخرها الأوبة والإنابة والعزم على ألا نعصى الله عز وجل ما حيينا إلى أن نلقاه وهو عنا راض.
استقبال شهر رمضان الكريم:
إنه ضيف عزيز، فيه الخير والبركة والرحمة، فيه القيام والصيام ونزل فيه القرآن على خير الأنام، فمرحباً بهذا الضيف الكريم، والناس في استقباله فريقين، فريق عود نفسه على الصيام ووطنها على تحمله بصيام النوافل طوال العام، وفريق لا يصوم إلا في رمضان فإذا نزل به فهو كالضيف الثقيل يَعد ساعاته وأيامه وينتظر رحيله ليعود للملذات والشهوات، بل منهم من يحافظ على الشهوات والملذات حتى في رمضان. وحديثي هذا للصنف الأول المحافظ على هذه العبادة الجليلة.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أفضل الصيام صيام داود: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) رواه البخاري ومسلم
برنامج الطاعة في شهر رمضان الكريم:
لا شك أن الوقت هو عمرك في الأرض وكلما مر عليك اقتربت من القبر واللحد واقتربت الآجال من الانتهاء، وعمرك هو رأس مالك والعبد الكيس من استثمر رأس ماله في طاعة الله عز وجل.
فعن ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ)رواه الترمذي
وقال الشافعي: رافقت الصوفية لم أستفد منهم إلا بقولين: الأول:الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، والثاني:إن لم تشغل نفسك بالطاعة شغلتك بالمعصية.
أولا: التوبة الصادقة والنية الصالحة:
التوبة يجب أن تكون في كل وقت وهي واجبة على الفور ولا يجوز تأخيرها ولا التسويف بها لأن الله أمر بها قال تعالى:(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) النور:31. فالتوبة هي الرجوع من معصية الله عز وجل إلى طاعته؛ لأنه سبحانه هو المعبود حقاً، مع إخلاص النية لأنها أساس قبول أي عمل. مع العزم على أن يكون هذا الشهر دائم لك في باقي العمر، فرب شهر رمضان رب لباقي شهور العام. فلا تكون من عُباد رمضان الذين ينتكسون بعده على أعقابهم. فقاطع الأفلام والمسلسلات إن كنت قد ابتليت بتضييع الأوقات أمام التلفاز، وتب عن الجلوس في الطرقات والمقاهي وقيل وقال، وأماكن اللهو التي لا فائدة لها وتضيع عمرك هباء مع جلساء السوء، وتب عن النميمة وقطيعة الرحم والكذب وقول الزور والظلم وأكل المال الحرام. وكل ما يبعدك عن الرحيم الرحمن
ثانيا: المحافظة على تكبيرة الإحرام:
كم فرطنا في تكبيرة الإحرام، فلنجعل هذا الشهر معين في المحافظة على تكبيرة الإحرام والصف الأول، وهذا لا يكون إلا بأن تجيب المؤذن في كل صلاة فور الأذان.
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق) رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني. وكذلك المحافظة على السنن الراتبة والمستحبة.
ثالثا:المحافظة على أذكار الصباح والمساء:
وطن نفسك على المحافظة على أذكار الصباح والمساء ولا تتركها أبدا، فهي حفظ لك من كل شر وسوء، واجعل معها ورد من التسبيح والتهليل والاستغفار والصلاة والسلام على خير الأنام.
قال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) طه: 130
رابعاً: المحافظة على تلاوة كتاب الله تعالى:
ينبغي على العبد: مسلم ومسلمة ألا ينقطع عن كلام ربنا عز وجل ويكون في صلة معه في جميع الأوقات، ويزيد في شهر القرآن الكريم، فهو خير معين على استثمار الوقت وفضل التلاوة. فإن كان وردك من القرآن جزء في كل يوم في غير رمضان، فﻻ بد أن يكون في رمضان أزيد وتبذل الجهد ؛فهو شهر المثابرة والجهاد ويكون لك العديد من الختمات لكتاب الله عز وجل في هذا الشهر الكريم.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَنْ قَرَأَحَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌوَمِيمٌ حَرْفٌ) أخرجه البخاري والترمذي
وَهُوَ أَقَلُّ التَّضَاعُفِ الْمَوْعُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} {وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}.
وعن ابن عباس قال:(كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بالخير وأجود مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاه ُفِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) رواه البخاري.
خامساً: المحافظة على صلاة التراويح:
لقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحض على قيام رمضان ورغب فيه ولم يعزم، وما فتئ السلف الصالح يحافظون عليها، فعلى جميع المسلمين أن يحيوا سنة نبيهم وألا يتهاونوا فيها ولا يتشاغلوا عنها بما لا فائدة منه، فقد قرن صلى الله عليه وسلم بين الصيام والقيام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قـال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرمضان من قامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".وفي رواية في الصحيح كذلك عنه: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". وزاد النسائي في رواية له: "وما تأخر" كما قال الحافظ في الفتح.
قال الحافظ ابن حجر: (ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر. وقال النووي: المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين وعزاه عياض لأهل السنة، قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة.
سادسا: المحافظة على المكوث في المسجد:
بعد الانتهاء من عملك وقضاء حاجات أهلك، فرغ نفسك بأن تخلو بربك في بيت من بيوت الله ومع كلامه سبحانه وتعالى، وتسكب الحسرات والعبرات على ما فرطت في جنب الله وضيعت من وقت وأنت بعيد عن جنابه وبابه، فخذها فرصة وتمتع بمناجاته، واسأله ألا يسلبك هذه النعمة، وإن لم تستطع أن تمكث الكثير من الوقت، يكفيك من بعد صلاة العصر إلى الغروب ومن بعد صلاة الفجر إلى الشروق.
قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} النور: 30
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} التوبة: 18
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ) إلى أن قال: ((وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ...) رواه البخاري ومسلم
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من صلى الغداة في جماعه ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجه وعمره تامة، تامة، تامة) رواه الترمذي وحسنه الألباني.وفيه خلاف
سابعاً: عمرة شهر رمضان
وإن كنت مستطيع للسفر والعمرة فلا تحرم نفسك من هذا الأجرالعظيم وذلك الخير الكثير.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من حجة الوداع قال لامرأة من الأنصار تُدعى أم سنان: "ما منعك أن تحجي معنا"؟ قالت: أبو فلان تقصد زوجها له ناضحان حج على أحدهما، والآخر نستقي عليه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرة فيه تعدل حجة معي". رواه البخاري ومسلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". رواه البخاري
الثامن: الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان:
قال تعالى:(وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة: 125
وقال تعالى:( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) البقرة: 187
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده) رواه البخاري ومسلم
تاسعاً: الصدقات وزكاة الفطر:
أكثر من الصدقات في هذا الشهر الكريم ، وساعد الفقراء والمساكين عن كعب بن عُجْرةَ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:(يا كعب بن عجرة: الناسُ غاديان: ففادٍ في فكاك نفسه فمعتقها، وغاد فموبقها.يا كعب بن عُجْرةَ: الصلاةُ قربان، والصوم جُنَّة، والصدقة تطفئُ الخطيئة كما يذهبُ الجليدُ على الصفا)رواه ابن حبان .
أما عن زكاة الفطر فهي تجب على كل مسلم يكون لديه ما يزيد عن قوته وقوت عياله وعن حاجاته الأصلية في يوم العيد وليلته. ويلزم المسلم أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه وزوجته وعن كل من تلزمه نفقته.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ». رواه أبو داود
الواجب في زكاة الفطر صاع من أرز أو قمح أو شعير ونحو ذلك مما يعتبر قوت يتقوت به. وهذه هي السنة المحفوظة عن رسولنا صلى الله عليه وسلم والصحابة أجمعين.
وعن ابن عمر قال :(فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد الحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
وأخيراً اختم وأقول:
اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والعافية المجللة ودفاع الأسقام والعون على الصلاة والصيام وتلاوة القرآن اللهم سلمنا لرمضان وسلمه لنا وسلمه منا حتى يخرج رمضان وقد غفرت لنا ورحمتنا وعفوت عنا يا أرحم الراحمين
تقبل الله منا ومنكم ولا تنسونا من صالح دعائكم
واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين