إلهي لا تعذبنـي فإنـي مقـــــــــــــــــــــــــــــرٌ بالـذي قـد كـان مني فمالي حيلة إلا رجائـي لعفوك إن عفوت وحسن ظني وكم من زلَّة لي في الخطايا وأنت عليَّ ذو فضل ومنِّ الله.. غفور رحيم، عزيز حكيم، جواد كريم، محسن ودود، صبور شكور، يُطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله عز وجل، يدعون له ولدًا وهو يعافيهم ويرزقهم" ، "ولا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك أثنى على نفسه ولا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحبُّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين". الغفور والغفار وغافر الذنب من أسماء الله تعالى، وأصل الغفر : الستر والتغطية. يقال: غفر الله ذنوبه أي سترها. والغفران والمغفرة من الله تعالى للعبد أن يصونه من أن يمسه العذاب، أو يستره؛ فالمغفرة هي إظهار الجميل وستر القبيح. والذنوب من جملة القبائح التي سترها الله بإسبال الستر عليها في الدنيا، والتجاوز عن عقوبتها في الآخرة، والغفار صيغة مبالغة، وهي تدل على كثرة الفعل، فهو تعالى يغفر ذنوب عباده مرة بعد مرة كلما تكررت التوبة من الذنب تكررت المغفرة من الغفار، وإليك حديثًا أمتع وأعجب وأعظم ما تقرأ. يقول فيما يحكي عن ربه عز وجل : (أذنب عبدُ ذنبًا. فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب. فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا. فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا. فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك). ومن أرجى الآيات للمستغفرين قوله تعالى : ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ الأنفال: 33 . غالبًا ما يرد الحديث عن الغفران مقرونًا بالرحمة، فهو الغفور الرحيم، فمغفرته جل وعلا لعباده ثمرة من ثمرات رحمته التي وسعت كل شيء؛ ولأن رحمته سبقت غضبه فإنه يغفر الذنب، ويقبل التوب، ويعفو عن السيئات، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ﴾ الكهف: 58 ، وقد وردت آيات عظيمة وأحاديث كثيرة تجلِّي هذه الصفة الربانية، وتنبئ عن هذه العظمة الإلهية. قال جل وعلا: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ النساء: 110 . وقال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ الحجر: 49 . بل إنه جل وعلا ينادي عباده نداء المتلطف، ويدعوهم دعاء المشفق بأن لا يقنطوا من رحمته أو ييأسوا من مغفرته، فنزل تلك الكلمات على القلوب بردًا وسلامًا وكأنها الماء البارد على الظمأ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ الزمر: 53 . بل إنه جل وعلا ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ، نزولا يليق بجلاله ، وذلك حين يبقى الثلث الأخير من الليل فيقول: (من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له). تفيـض نفوس بأوصابها .... وتكتم عوّادها ما بهـا وما أنصفت مهجة تشتكي هواها إلى غير أحبابها ولقد هيأ الله جل وعلا لعباده مواسم عظيمة، وفرصًا عديدة، يغفر بها ذنوبهم، ويكفر بها خطاياهم. ولقد أخبر في عدد من الأحاديث البديعة بكلمات جامعة وعبارات ماتعة تغفر بها الذنوب، وتمحى بها الخطايا، ومن أعظم ذلك قوله : (من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه (ثلاثًا) غفر له وإن كان فر من الزحف). وقوله : (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سُبحانك اللهم و وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك). ولقد أهدى لأمته كنزًا من كنوز الاستغفار جعله تاجًا على الأحاديث، وملكًا على آثار الاستغفار، فهو سيدها جميعًا، فقال: (سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). قال: (من قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها وهو موقن بها فمات قبل أن يُصبح فهو من أهل الجنة). وفي هذا الحديث من بديع المعاني، وحسن الألفاظ ما يحق له أن يُسمى سيد الاستغفار؛ لأنه جامع لمعاني التوبة كلها، وفيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه الله عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجدها جل جلاله، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو جل وعلا. إن الذنب مصاحب لبني آدم إلا من عصمه الله تعالى، فالمرء يجهل، والإنسان يخطئ، والعبد يهفو، والرب جل جلاله يغفر، ولكن خير الخطَّائين التوابون. سبحان من نهفو ويعفو دائمًا ولم يزل مهما هفا العبد عفا يقول : (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم). ويقول في الحديث القدسي عن الله تعالى: (يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم) . ويقول جل وعلا: (يا ابن آدم، إنكم ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة). والنبي وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يقول لأصحابه : (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة). إن المؤمن الحق مراقب لربه، متعهد لقلبه، مطهر لنفسه، يعظم الجبار وينطرح للقهار، ويكثر الاستغفار، وإن الاستغفار ليس كلمات تقال، وعبارات تطلق ليس لها شاهد من الواقع أو دليل من العمل، أو تصديق من الفعل، أو تغير في الحال، يقول ابن عباس رضي الله عنه : "المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه" . رُؤي رجل متعلق بأستار الكعبة يناجي ربه قائلا: "اللهم إني استغفاري مع إصراري لؤم، وإن تركي الاستغفار مع علمي بسعة عفوك لعجز، فكم تتحبب إلي بالنعم مع غناك عني، وأتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك، يا من إذا وعد وفَّى، وإذا توعد تجاوز وعفا، أدخل عظيم جُرمي في عظيم عفوك يا أرحم الراحمين" . الاستغفـار والتـوحيـد والعجيب أن كثيرًا من نصوص الحث على الاستغفار في الكتاب والسنة تكون مصحوبة بالدعوة إلى توحيد الخالق والاعتراف بألوهيته والإذعان لربوبيته، وهي بذلك إشارة بديعة إلى أن أعظم سبب بل أول سبب لحصول المغفرة هو التوحيد الخالص، وأن جميع الأسباب الأخرى لا تغني شيئًا إذا فقد هذا الأصل العظيم، فهو أساس الدين، وأصل العبادة، وعنوان الملة، وإذا رسخ في قلب العبد وانغرس في وجدانه فقد أهَّل نفسه لنيل مغفرة المولى جل وعلا: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ النساء: 48 . فتأمل معي عددًا من النصوص الآمرة بالاستغفار لترى ذلك المعنى الذي أشرت لك إليه، وذكّرت نفسي وإياك بما يعنيه: قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ محمد: 19 . وتأمل قوله : (من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف). وتأمل سيد الاستغفار وكيف بدأ بإعلان التوحيد الخالص لله تعالى: (اللهم إني أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت. أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإن لا يغفر الذنوب إلا أنت). وتأمل كفارة المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك). وهكذا يتجلى هذا المزج الرائع، والربط الماتع بين الإقرار بالألوهية والاعتراف بالوحدانية، وبين طلب المغفرة من الغفور الرحيم. إن الذنب سمة العبد وإن العفو صفة الرب عز وجل، وقد بين تعالى أن المتقين قد منهم الذنب، ويحدث منهم الزلل ولكنهم لا يصرون على الخطأ، ولا يقيمون على المعصية، وقد امتدحهم جل وعلا بذلك فقال: ﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴿133﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿134﴾ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿135﴾ أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴿136﴾ آل عمران.