وأنزل شريعته الغراء ، وجعل بنيانها القواعد العامة ، وأرشد عباده إلى مصادرها ومواردها ، وحثهم على ولوج سبلها ، وفضل العلماء على عباده العابدين ، وأصفيائه الزاهدين ، فقال وهو أصدق القائلين : (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) المجادلة : 11
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الأولين والآخرين ، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم القائل : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " أخرجه البخاري .
والقائل لحبر الأمة ابن عباس ك " اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل " ، وعلى آله الطبين الطاهرين ، وصحابته أولى العلم والعرفان ، الهادين المهديين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الباب الأول
مراحل نشأة علم الأصول :
أولا : لم يكن الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى الاجتهاد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بينهم يرجعون إليه فيما يعرض من حوادث ، أو يشكل عليهم فهمه من القرآن الكريم.
ثانيا : انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى فأخذ الصحابة رضي الله عنهم من بعده يستبطون الأحكام من مصادرها المعروفة لهم ، وهي : الكتاب والسنة ، والقياس عند الحاجة ، وكانوا يشددون النكير على من خالفهم فنشأ مصدر رابع وهو الاجماع ، ولم يكن الصحابة رضوان الله عليه ، بحاجة إلى قواعد يرجعون إليها في ذلك ، وذلك لإحاطتهم وتمنكهم من اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم . كما أن مصاحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، جعلتهم لا حاجة لهم في البحث عن طرق الحديث الصحيح والعدالة وغير ذلك ، وكذلك معرفتهم بأسباب النزول ، أكسبتهم معرفة بأسرار التشريع .
ثالثا : مضى التابعون بعد الصحابة على نهجهم ومنوالهم ، وكانت القواعد الأصولية التي يحتاج إليها المجتهد في استنباط الأحكام الفقهية حاضرة في أذهانهم ، فأغناهم ذلك عن الاشتغال بتدوينها .
رابعاً : بدء تدوين الأصول في أواخر القرن الثاني الهجري حيث أصبحت الحاجة ماسة إلى تدوين تلك القواعد حث اتسعت رفعة الدولة الإسلامية واختلط العرب بالعجم ، ففسد اللسان العربي ، كما بعد العهد بالرواة .
أول من دون علم الأصول :
قيل إن أول من دون في الأصول هو أبو يوسف صاحب أبوحنيفة ولكن لم يصلنا شيء ، وعليه فكان أول من وضع كتاب في الأصول هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله المتوفى بمصر سنة 204 هـ وسمى كتابه ( الرسالة ) حيث تكلم فيه عن القرآن ، وبيان السنة للقرآن ومنزلتها منه ، وعن الناسخ والمنسوخ ، وعن الاحتجاج بخبر الواحد ، والاجماع ، والقياس ، والاستحسان ، والاجتهاد ، وعلل الأحاديث .
طرق تدوين علم الأصول:
يوجد طريقتان للعلماء في تأليف وتدوين علم الأصول وهما :
الاولى : طريقة المتكلمين : وهؤلاء اهتموا بتقرير القواعد أولاً ، وإقامة الأدلة عليها مع الإكثار من الجدل فيها ، شأنهم في ذلك شأن علماء الكلام . مثل : كتاب البرهان للجويني ـ والمستصفي للغزاليَّ ـ والعمد لابن عبد الجبار ــ الحاصل للرازي ــ والإحكام في أصول الأحكام للآمدي.
الثانية : طرية الحنفية : يعتمد أصحاب هذه الطريقة على الفروع الفقهية المنقولة عن أئمتهم في استنباط القاعدة الأصولية ، كما عنوا بتحقيقي الفروع الفقهية وتطبيقها على تلك القواعد ، ولذلك تجدهم إذا وجدوا القاعدة التي قرروها تتعارض مع بعض الفروع المقرة في المهب عمدوا إلى تعديلها بما لا يتعارض مع الفرع الفقهي . مثل : كتاب أصول الجصاص ــ أصول الفقة للدبوسي ــ كشف الأسرار علي اصول الامام فخر الاسلام علي بن محمد البزدوي ــ وكشف الأسرار لعبد العزيز البخاري ــ وكتاب المنار للنسفي.
الثالثة : الجمع بين الطريقتين :
وهؤلاء جمعوا ما بين طريقة المتكلمين والحنفية ، مثل : كتاب التنقيح لصدر الشريعة ــ وجمع الجوامع لتاج الدين السبكي ــ مسلم الثبوت لمحب الدين بن عبد الشكور.
من فوائد تعلم علم الأصول :
أولا: القدرة على استنباط الأحكام الفقهية من أدلتها التفصيلية .
ثانيا : القدرة على المقارنة بين أدلة الأئمة المجتهدين حتى يطمئن المقلد إلى ما قلد من أحكام عن هؤلاء الأئمة.
ثالثا : العلم بقواعد الأصول التي بها يمكن استنباط الأحكام الفقهية للحوادث المتجددة التي لم يتعرض لها الأئمة السابقون ، وبذا تكون الشريعة الإسلامية غير جامدة أمام الأحداث.
تعريف أصول الفقه
لكلمة أصول الفقه اعتباران عند العلماء:
الاعتبار الأول: قبل أن تكون علماً على ذلك الفن المخصوص، وهي حينئذ مركب إضافي تتوقف معرفته على معرفة جزئية الذين هما (أصول ــ وفقه ).
الاعتبار الثاني: بعد جعله علماً على ذلك الفن المخصوص فأصبح لفظاً واحدأً
( مركب إضافي) وصار كل جزء منها بمنزلة الحرف من الكلمة المفردة.
الاعتبار الأول في التعريف:
معنى الأصل لغة:
الأصل مفرد أصول وهو في اللغة يطلق على معان متعددة. أقربها ما يبنى عليه غيره سواء كان البناء:
(أ) حسياً كبناء الحائط على الأساس.
(ب) أوعرفياً كبناء المجاز على الحقيقة.
(ج) أوعقلياً كبناء الحكم على الدليل.
فكل من الأساس، والحقيقة، والدليل أصل لأنه بنى عليه غيره، من الحائط والمجاز والحكم.
معنى الأصل اصطلاحاً:
الأصل في الاصطلاح له أربعة معان
(أ) الصورة المقيس عليها : كقول الخمر أصل لنبيذ ، على معنى أن الخمر مقيس عليها النبيذ في الحرمة ، وكقول التأفيف للوالدين أصل لضربهما يعنى في الحرمة
(ب) القاعدة المستمرة : كقول إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل أي على خلاف (القاعدة المستمرة)، وقول الأصل في المبتدأ الرفع.
(ج) الراجح : كقول الكتاب أصل بالنسبة للقياس أي (الرجح) . وقول الأصل في الكلام الحقيقة، أي (الراجح) لدى السامع الحقيقة لا المجاز عند عدم القرينة الصارفة إليه.
(د) الدليل : كقول الأصل في وجوب الزكاة قوله تعالى:(آتوا الزكاة)، أي (الدليل) على وجوبها.
معنى الفقة لغةً:
ورد في تعريف الفقه لغةً ثلاثة أقوال: