إنً هذه المسألة ما ظهر الكلام فيها والخلاف إلا منذ سنتين حين أفتى أحد العلماء بزيارة المسجد الأقصى للمسلمين من باب شد يد العون للفلسطينيين وبدأ الخلاف بين مؤيد ومعارض ولك الأقوال والحجج لكل فريق، وسوف يتم الرد عليها بالبرهان والبيان ومناقشة تلك الأقوال :
1 ـ قول المؤيدين :
ذهب أهل العلم الذين يؤيدون شد الرحال إلى المسجد الأسير بأنه من باب عدم عزل المسجد عن المسلمين وشد الأزر للفلسطينيين وأنه من المساجد الثلاثة التي أمر المسلمون بشد الرحال إليها بمتن حديث الصادق الأمين وأنه لا يجوز المضي بقول من قال بالتحريم للزيارة في ظل الاحتلال وكان مما استدلوا به هو اعتمار النبي بمكة وهي تحت حكم كفار مكة من قريش وغيرهم ووجود الشرك والأصنام بها !
2ـ قول المعارضين :
وذهب الفريق الآخر وجل أهل العلم بحرمة زيارة المسجد الأسير لغير الفلسطينيين من المسلمين لأن المسجد تحت حكم الاحتلال اليهودي والذهاب إليه لا يكون إلا بالاستئذان منهم والتعامل معهم و هذا يعتبر تطبيع سياسي واقتصادي معهم ورضى بالأمر الواقع ،والتطبيع معهم بأي شكل من الأشكال محرم . بل إن الواجب اتجاه المسجد ليس الزيارة بل أن يتم تحريره من أيد اليهود عليهم لعنة الله . وقد استدلوا بآيات الجهاد الكثيرة الموجودة في القرآن الكريم .
مقدمة ومناقشة القول الأول
مما لا شك فيه ولا ريب أن المسجد الأقصى الشريف له خاصية في الشرع وفي نفوس المسلمين جميعاً وهو أول القبلتين وهو نهاية الإسراء و بداية المعراج. قال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من ءايتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء . وكذلك له فضيلة الصلاة فيه قال رسول الله "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة مما سواه، وصلاة في مسجدي هذا بألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة". وأيضا شد الرحال إليه لحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى" انتهى
الرد على شبهة الدليل :
أما الشبهة التى أوردها أصحاب القول الأول وهي زيارة الصادق المصدوق للبيت الحرام وفيه الشرك فهي شبهة مردودة عليهم لأن قياسهم فاسد لا عبرة له ، لأن المعروف عند أهل علم الأصول في قاعدة القياس بالآتي :
معنى القياس اصطلاحا : تسوية فرع بأصل في حكم لعلَّة جامعة بينهما.
فالفرع: المقيس.
والأصل: المقيس عليه.
والحكم: ما اقتضاه الدليل الشرعي من وجوب، أو تحريم، أو صحة، أو فساد، أو غيرها.
والعلة: المعنى الذي ثبت بسببه حكم الأصل، وهذه الأربعة أركان القياس، والقياس أحد الأدلة التي تثبت بها الأحكام الشرعية. وقد دل على اعتباره دليلاً شرعيًّا الكتاب والسنة وأقوال الصحابة.
فمن أدلة الكتاب:
قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان)الشورى:17. والميزان ما توزن به الأمور ويقايس به بينها.
وقوله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُه)الأنبياء104.:
وقوله تعالى:( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) فاطر:9. فشبّه الله تعالى إعادة الخلق بابتدائه، وشبه إحياء الأموات بإحياء الأرض، وهذا هو القياس.
ومن أدلة السنة:
1 - قوله صلّى الله عليه وسلّم لمن سألته عن الصيام عن أمها بعد موتها: "أرأيتِ لو كان على أمك دين فقضيته؛ أكان يؤدي ذلك عنها" ؟ قالت: نعم. قال: "فصومي عن أمك" .
2 - أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! ولد لي غلام أسود! فقال: "هل لك من إبل"؟ قال: نعم، قال: "ما ألوانها"؟ قال: حمر، قال: "هل فيها من أورق"؟ قال: نعم، قال: "فأنى ذلك"؟ قال: لعله نزعة عرق، قال: "فلعل ابنك هذا نزعة عرق".
وهكذا جميع الأمثال الواردة في الكتاب والسنة دليل على القياس لما فيها من اعتبار الشيء بنظيره.
ومن أقوال الصحابة: ما جاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري في القضاء قال: ثم الفهم الفهم فيما أدلى عليك، مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عندك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق.
الاستنباط من القاعدة والرد على قياسهم الفاسد
1ـ من القياس الفاسد قياس مكة وأهلها بقياس الأقصى واليهود
وهذا لا يجوز لأن الأصل أن أهل مكة بمن فيهم قريش وباقي القبائل المكية هم أصحاب الأرض ولكنهم أهل شرك وكفر والدخول إليهم وزيارة البيت الحرام ليس من باب إقرار بأنهم أصحاب أرض أو غير ذلك لأنهم ليسوا مغتصبين لأرض ليس أرضهم مثل اليهود .
2ـ من القياس الفاسد قياس فعل النبي وزيارة العمرة بزيارة المسجد الأقصى:
المعروف أن النبي لن يفعل هذا إلا بوحي من الله وهذا أمر مجمع عليه فكيف يقاس فعل بوحي بفعل بدون وحي بل هو اجتهاد من بشر يصيبون ويخطئون.
3ـ من القياس الفاسد قياس فعل النبي للعمرة والمسجد تحت حكم المشركين :
من المعروف أن النبي لم يركن ولم يتهاون من أجل إقامة دولة وإعداد العدة لتطهير مكة من الشرك والمشركين ودخوله لمكة من أجل العمرة ليس فيه رضى بالأمر الواقع كحال المسلمين الآن . غير أنه بموعود الله عز وجل يعلم أنه سوف يدخل مكة بعد ذلك فاتحا لها قال تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا )) الفتح . وقال تعالى: ( لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين محلقين رءوسكم ومقصرين لاتخافون فعلم مالم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ) الفتح . إذن الخلاصة أن قياسكم لا يصح بأي حال من الأحوال
الـــــــــرد على باقي الشبهات :
1ـ أما قولكم بأن الزيارة فيها عون للفلسطينيين فهو قول باطل بحكم الواقع الذي أنتم عنه غائبون لأن المعروف بأن اليهود عليهم لعنه الله يقومون على قدم وساق بتهويد القدس وهدم البيوت ونزع الملكيات وتشريد السكان وطرد الدعاة وقتل الأبرياء فهل سوف يسمحون لغير المقدسيين بالدخول للزيارة.
2ـ وقولكم بأن النبي أمر بشد الرحال إلى المسجد الأقصي ، فهذا إذا كان في يد المسلمين أما في يد أعداء الإسلام فالواجب أن نُهب حكاماً ومحكومين لإنقاذ مقدسات المسلمين والجهاد في سبيل الله من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وياليتكم قلتم بهذا ،والقرآن والسنة حجة عليكم إلى يوم الدين قال تعالى: (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالاخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل او يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ، ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم اهلها وأجعل لنا من لدنك وليا واجهل لنا من لدنك نصيرا ، الذين ءامنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ، فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) النساء . والآيات كثيرة في هذا الباب ولكنكم عنها غائبون. أقول أليس هذا أمر من الله بقتال أهل الكفر والمشركين المحتلين لبلاد المسلمين ومقدساتهم ورفع علم الجهاد ضد اليهود الغاشمين . ولكنه الذل والمسكنة التي ضُربت على المسلمين وفرضُت عليهم بضعفهم والركون إلى الذين ظلموا . والله المستعان .
3ـ أليس من الزيارة كما قال أصحاب القول بالتحريم فيها تطبيع سياسي وديني واقتصادى لليهود الملعونين وهم أهل حرب ولهم أحكام مبسوطة في كتب الفقه ياليتكم ترجعوا إليها حتى تعلموا ما تقولون .
4ـ أليس من قام بالزيارة من غير أهل فلسطين ولو سُمح له بذلك ثم عاد لبلده، يأثم لأن المسجد الشريف والبقعة الطاهرة المقدسة مغتصبة ومدنسة بأيدي أنجس أهل الأرض وألعنهم ومن غضب الله عليهم الذين سبوا الله وقتلوا الأنبياء، ويسعون في الأرض فساداً ثم بعد ذلك يتركه ولم يرابط فيه من أجل تطهيره ولو كلفه ذلك نفسه بالشهادة في سبيل الله.
الخلاصــــــــة والترجيح :
وبعد هذا التفصيل والنقاش في أدلة الطرف الأول ومقابلته بأدلة الطرف الثاني نجد والله أعلم أن أصحاب القول الثاني الذين قالوا بتحريم شد الرحال إلى المسجد الأقصى الأسير هو أقرب الأقوال إلى الحق المبين . ومن أراد أن يأخذ بالقول الأول وهو السفر، يشترط الرباط هناك وعدم العودة للدفاع عن الأقصى.
ونسأل الله أن يلهمنا وإياك الصواب وأن يحرر المسجد الأسير من يدى الغاشمين المجرمين المعتدين المفسدين وأن يرزقنا صلاة هناك وهو في أيدي المسلمين . إنه ولي ذلك والقادر عليه .
هذا. والله أعلم