من البلايا والمصائب التي ابتليت بها أمتنا الحبيبة مصيبة الخلاف والفرقة التي نشبت أظفارها في كل بقعة من جسدها لتزيده وهنًا على وهن، وتزرع العداوة والبغضاء بين المسلمين شعوبًا وحكامًا، أفرادًا وجماعات.
ومن ثم كان لقاؤنا في هذه السلسلة من المقالات الشرعية المنهجية حول هذا الموضوع الشائك الذي يمس واقعنا المعاصر في الصميم، محاولين أن نجد حلًا لهذه المشكلة التي تعاني منها الأمة هذه الأيام، خاصة وأن هذا التفرق بين المسلمين يقابله أعداء الإسلام بالوحدة في مواجهة الإسلام في كل مكان، فإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله
ورحم الله ابن المبارك حيث قال:
إن الجماعة حبـل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا
تطاوعا ولا تختلفا
والتوافق في الآراء والسعي إلى ذلك قيمة كبيرة في الإسلام ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم ومسلمة ومرد ذلك إلى الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أرسل معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري إلى اليمن أوصاهما قائلا: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)
وسبب الحديث كما يقول صاحب الرحيق المختوه أنه (بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك قدم كتاب ملوك حِمْيَر، ورسولهم إليه صلى الله عليه وسلم مالك بن مرة الرَّهَاوي، بعثوه بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله، وكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بَيَّنَ فيه ما للمؤمنين وما عليهم، وأعطي فيه المعاهدين ذمة اللّه وذمة رسوله إذا أعطوا ما عليهم من الجزية وبعث إليهم رجالًا من أصحابه أميرهم معاذ بن جبل، وجعله على الكورة العلياء من جهة عَدَن، وكان قاضيًا وحاكمًا في الحروب، وعاملًا على أخذ الصدقة والجزية، ويصلي بهم الصلوات الخمس، وبعث أبا موسي الأشعري رضي الله عنه على الكورة السفلى) [الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري].
قال ابن حجر رحمه الله في ذكر مكان كل من معاذ وأبي موسى رضي الله عنهما في اليمن: (وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن ... وكانت جهة أبي موسى السفلى) [فتح الباري، ابن حجر].
وقال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: (إنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأنه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على من يسر مرة أو مرات، وعسر في معظم الحالات، فإذا قال (ولا تعسروا) انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في (يسرا ولا تنفرا)، (وتطاوعا ولا تختلفا)، لأنهما قد يتطاوعا في وقت ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء) [شرح النووي على مسلم].
توافق لا تطابق
التوافق لا يعني التطابق في وجهات النظر وإنما يعني أن يلين طرف للآخر وأن ينقاد الطرفان للحق عند معرفته وإلا فالخلاف في وجهات النظر بين الناس أمر لا بد منه كما قال ابن القيم رحمه الله: (ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية ولكن إذا كان الأصل واحدًا والغاية المطلوبة واحدة والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافًا لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة، فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنة رسوله، والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله، والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة، وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة)[الصواعق المرسلة، ابن القيم].
وقد اختلف صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في العديد من المسائل ولكن لم ينتقل هذا الاختلاف إلى اختلاف في القلوب والعياذ بالله؛ ولكنه كان دائمًا خلاف في وجهات النظر لا يؤثر على علاقة الأخوة الوطيدة بينهم.
يقول ابن القيم رحمه الله: (فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع، كالجد مع الإخوة، وعتق أم الولد بموت سيدها، ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وفي بعض مسائل الربا، وفي بعض نواقص الوضوء، وموجبات الغسل، وبعض مسائل الفرائض وغيرها؛ فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة ولا قطع بينه وبينه عصمة؛ بل كانوا كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغنًا ولا ينطوي له على معتبة ولا ذم، بل يدل المستفتي عليه مع مخالفته له، ويشهد له بأنه خير منه وأعلم منه.
فهذا الاختلاف أصحابه بين الأجرين والأجر وكل منهم مطيع لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق) [الصواعق المرسلة، ابن القيم].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بني قريظة: (لا يصلين أحدٌ العصر إلا فى بني قريظة) فأدرك بعضهم العصر فى الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدًا منهم[رواه البخاري]
قال شيخ الإسلام: (وهذا وإن كان في الأحكام، فما لم يكن من الأصول المهمة فهو ملحق بالأحكام)[مجموع الفتاوى، ابن تيمية].
وكان ابن مسعود وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما على كثرة التشابه بين منهجهما الفقهي فقد أوصل ابن القيم المسائل التي اختلفوا فيها إلى مائة مسألة منها:
(أن ابن مسعود كان ينهى عن وضع اليدين على الركب في الركوع ويأمر بالإطباق وعكسه عمر، واختلفا في الرجل زنا بامرأة ثم تزوجها فيرى ابن مسعود أنهما لا زالا يزنيان حتى ينفصلا، ويخالفه عمر) [إعلام الموقعين، ابن القيم].
ومع ذلك انظر ثناءها على بعضهما، يقول عمر عن ابن مسعود: (كنيف ملئ فقهًا أو علمًا، آثرت به أهل القادسية) [سير أعلام النبلاء، الذهبي].
وعن أنس قال: (إنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر، فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر)
ومن بعد الصحابة كان الخلاف موجودًا ولكن اختلاف القلوب لم يحدث أيضًا، فقد ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يونس الصدفي أنه قال: (ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا ولقيته فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟
قال الذهبي: هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون) [سير أعلام النبلاء، الذهبي].
ويقول الإمام أحمد بن حنبل: (لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا) [سير أعلام النبلاء، الذهبي].
ويقول: (ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له قمنا عليه، وبدعناه، وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة) [سير أعلام النبلاء، الذهبي].
وهذا كان هدي السلف ومنهجهم وليس ما صار إليه حالنا للأسف الشديد، كما عبر عنه الشاعر حين قال:
حرموا هداية دينهم وعقولهـم هذا وربك غاية الخـسـران
تركوا هداية ربهم، فإذا بهــم غرقى من الآراء في طوفـان
وتفرقوا شــيعًا بها نهجهـم من أجلها صاروا إلى شنـآن [المنتخب من الشعر والبيان، أمير بن محمد المدري]