الحمد لله عالم السر والجهر ، وقاصم الجبابرة بالعز والقهر ، محصي قطرات الماء وهو يجري في النهر ، فضل بعض المخلوقات على بعض حتى أوقات الدهر ، فهو المتفرد بإيجاد خلقه المتوحد بإدارة رزقه ، القديم في السبق لسبقه ، الكريم فما قام مخلوق بحقه ، عالم بسر العبد وسامع نطقه ، ومقدر علمه وعمله وعمره وفعله وخلقه ، ومجازيه على عيبه وذنبه وكذبه وصدقه ، المالك القهار فالكل في أسر رقه ، الحليم الستار بالخلق في ظل رفقه ، أرسل السحاب تُخاف صواعقه ويُطمع في ودقه ، يزعج القلوب رواعده ويكاد سنا برقه ، جعل الشمس سراجاَ والقمر نوراَ بين غربه وشرقه.
أحمده على الهدى وتسهيل طرقه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في رتقه وفتقه ، وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله والضلال عام فمحاه بمحقه ، صلى الله عليه وعلى آله وصاحبه أبي بكر السابق بصدقه ، وعلى عمر كاسر كسرى بتدبيره وحذقه ، وعلى عثمان جامع القرآن بعد تبديده في رقه ، وعلى علي الذي ترب في بيت نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعلى عمه العباس مشاركه في أصله وعرقه.
أما بعـــــد
رحل شهر رمضان وذهب عنكم بأفعالكم ، وقادم عليكم غدأ بأعمالكم ، فيا ليت شعري ماذا أودعتموه وبأي الأعمال ودعتموه ؟ أتراه رحل حامداً صنيعكم أو ذاماً تضييعكم ؟ ما كان أعظم بركات ساعاته ، وما كان أجلى جميع طاعاته ، كانت ليالي عتق ومباهاة ، وأوقاته أوقات خدم ومناجاة ، ونهاره زمان قربة ومصافاة ، وساعاته أحيان اجتهاد ومعاناة ،
نعم قد مضى شهر رمضان الكريم شهر الطاعات وموسم الخيرات ومتجر البركات ، مضى وفات ومات ، وبقي الحي الذي لا يموت رب الشهور والدهور وكل شيء . فماذا كنت تعبد يا عبد الله ويا أمة الله ؟ هل عبدت رمضان واستقمت فيه من أجل رمضان ، ثم إذا ذهب رمضان رجعت وانتكثت وعصيت ، أم سوف تبقى على العهد والوعد وتكون عابداً لله رب رمضان ورب الزمان والمكان .
قال تعالى : (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) النحل: 92
التقوى والاستقامة
إن التقوى والاستقامة على منهج الله سبحانه وتعالى والمحافظة على الطاعات والبعد عن المحرمات ، غاية المؤمن وصنيعه في كل الاوقات ، طالما بين الاحياء المكلفين الذين هم عبيد لله رب العالمين . وقد شكى رجل إلى سفيان الثوري مرض البعد عن الله ، فقال له سفيان :عليك بعروق الإخلاص ، وورق الصبر وعصير التواضع . وضع ذلك في إناء التقوى ، وصب عليه ماء الخشية ، وأوقد عليه نار الحزن ، وصّفه بمصفاة المراقبة ، وتناوله بكف الصدق , واشربه من كأس الاستغفار ، وتمضمض بالورع ، وأبعد نفسك عن الحرص والطمع تشفى بإذن الله .
التقوى:
فالتقوى علة من علل صيام رمضان وسائر صيام النوافل ، وإن شاءت فقل إنها علة كل نسك من المناسك المفروضة وغير المفروضة ، حتى بها يتوصل العبد إلى هذه الصفة التي هي من صفات أهل الجنة .
فالعبد التقي الصائم عن المحرمات ، خيرٌ من العبد العابد القائم على بعض المحرمات.
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة:183
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيباً) النساء:1
وقال تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ) النساء : 131
مكان التقوى:
مكانها القلب أهم عضو في جسم الإنسان وملك الأعضاء والذي به الصلاح والفساد
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: (( لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا
تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ
وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا
يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى
صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ
الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ
وَعِرْضُهُ )) . رواه البخاري .
معنى التقوى:
قال علي بن أبي
طالب رضي الله عنه : (( التقوى هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة
بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل )).
وقال ابن عباس رضي الله عنه : المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في
ترك ما يعرفون من الهدي ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به .
قال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى : ( اتَّقُوا اللَّهَ
حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ ) آل عمران
:102
قال : أن يطاع فلا يعصي
ويذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر.
وشكره يدخل فيه جميع فعل الطاعات ومعنى ذكره
فلا ينسي ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها ولنواهيه
في ذلك كله فيجتنبها .
وقال أبي الدرداء
: تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض
ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام فإن الله قد بين
للعباد الذي يصيرهم إليه فقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7)وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) فلا! تحقرن شيئا من الخير أن تفعله ولا شيئا من
الشر أن تتقيه .
وقال عمر بن
عبد العزيز رحمه الله : ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما
بين ذلك ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فمن رزق بعد ذلك خيرا
فهو خير إلى خير.
وقال موسى بن أعين رحمه الله : المتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام فسماهم
الله متقين .
وقد قيل
وإذا بحثت عن التـّـقـيّ وجدتـه *** رجلاً يُصدّق قوله بـِـفِـعـالِ
وإذا اتّــقـى اللهَ امـرؤٌ وأطاعـه *** فـيَـداه بين
مكـارمٍ ومَعـالِ
وعلى التَّقـيِّ إذا ترسّـخ في التُّـقى *** تاجـان : تاج
سكينة وجمـال
وإذا تناسبت الرجــال فمـــا أرى *** نسباً يكون كصالح الأعمال
الأعمــال
الاستقامة
أما الاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم ، وهو الدين القيم ، من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة ، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها ، الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات كلها ، الظاهرة والباطنة ، ولذلك فالعبد المؤمن مطالب بهذه الاستقامة في كل الاحوال والأماكن والأزمان ،، وتحقيق العبودية لله وحدة التي هي من غاية خلق الانس والجان .
فلا يختلف رمضان عن غيره من سائر الشهور فرب رمضان هو رب سائر الأزمان .
أنواع الاستقامة:
إن من أنواع الاستقامة ، استقامة سرائر العبد وتزكية النفس ، واستقامة العبادات والعادات ، واستقامة المعاملات ، واستقامة العبد في اجتناب المعاصي والمحرمات . وبذلك يكون قد قام الاستقامة حق المقام. ونزل منزلة الصالحين ووصل الى مقامات العابدين الزاهدين.
وحتى يصل العبد إلى هذا النوع من الاستقامة يجب عليه أولاً المجاهدة ، ومخالفة الهوى والنفس ، فيفطم نفسه عن المألوفات والشهوات واللذات ، ويحملها على خلاف ما تهوى من المباحات في عموم الأوقات ، فإذا انهمك في الشهوات ألجمها بلجام التقوى والخوف من الله عز وجل ، فإذا حزنت ووقفت عند القيام بالطاعات والموافقات ساقها بسياط الخوف وخلاف الهوى ومنع الحظوظ ، ولا تتم المجاهدة إلا بالمراقبة وهي التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان فقال : (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
والمراقبة : علم العبد بإطلاع الرب سبحانه وتعالى عليه ، واستدامته لهذا العلم مراقبو لربه ، وهذا هو أصل كل خير ، وإنما يصل إلى هذه الرتبة بعد المحاسبة وإصلاح حاله في الوقت ، ولزوم طريق الحق وإحسان مراعاة القلب بينه وبين الله الحق ، وحفظ الأنفاس مع الله عز وجل ، فيعلم أن الله تعالى عليه رقيب ، ومن قلبه قريب ، يعلم أحواله ويرى أفعاله ، ويسمع أقواله ، ولا تتم أيضاً إلا بمعرفة خصال أربع:
أولها : معرفة الله تعالى حق المعرفة
والثانية : معرفة عدو الله إبليس ومداخله.
والثالثة : معرفة النفس الأمارة بالسوء.
والرابعة : معرفة العمل لله تعالى .
ولو عاش إنسان دهراً في العبادة مجتهداً ولم يعرفها وليم يعمل عليها لم تنفعه عبادته ، وكان على الجهل ومصيره إلى الهلاك ، إلا أن يتفضل الله عليه برحمته.
وللحديث بقية