الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فإن للصيام حكماً جليلة، وفوائد عظيمة، وسنناً وآداباً كثيرة، إذا عرفها المسلم وتأدب بها، فاز بإكمال لهذا الركن العظيم من أركان الإسلام، وحصل له فوائد الصيام وفضائله التي وردت في الكتاب والسنة، والتي سوف نذكر منها هنا ما تيسر، والحمد لله على نعمة الإسلام والصيام. أحكام الصيام معنى الصوم لغة: الإمساك والكفّ عن الشيء، ومنه قوله تعالى على لسان الطاهرة البتول مريم عليها السلام (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) مريم: 26 أي امساكاَ عن الكلام شرعاً: إمساك عن المفطرات (شهوتي البطن والفرج) من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع بنية فرضيته: فرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة، فصام صلى الله عليه وسلم ثماني رمضانات، ويجب على كل مسلم مكلف بالغ، عاقل، مقيم، قادر خالٍ من الموانع لأنه من أركان الإسلام الخمسة. ومن أفطر شيئاً من رمضان بغير عذر فقد أتى كبيرة عظيمة، ومن أنكر فرضية صيام شهر رمضان فهو مرتد كافر، يستتاب فإن تاب وأقر بفرضيته إلا قتل كافراً. وقد ثبت وجوبه بالقرآن والسنة والإجماع. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ثم قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} سورة البقرة: 183-185 وعن عمرعن النبي أنه قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) رواه مسلم وعن أبي هريرة أن أعرابياً أتى النبي فقال: "دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة" قال: (تعبد الله لا تشرك به شيئاً ... وتصوم رمضان) في الصحيحين. وقد أجمع المسلمون منذ عهد النبوة إلى يومنا هذا على وجوب الصيام. حكمة الصوم وفضله قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 183 . {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وهذا هو المقصد الأسمى، في حكمة مشروعية الصيام، فهو لجام المتَّقين، فإنَّ الصائم يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده. يقول ابن القيم : "أنَّ مصالح الصوم لمَّا كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمة بهم، وإحساناً إليهم، وحمية لهم وجُنَّة" ويقول: "ولهذا فإنَّ من تقوى المسلمين الصائمين لربِّهم أنَّهم لو ضربوا على أن يفطروا في شهر رمضان لغير عذر لم يفعلوا، لعلمهم بكراهية الله لإفطارهم في هذا الشهر". ولهذا يقول الله تعالى في الحديث القدسي الصحيح: (كل عمل ابن آدم له إلاَّ الصوم فإنَّه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي)رواه البخاري. فيكون هذا الترك لأجله سبحانه وتعالى، طريقاً موصلاً بنا إلى الجنة ومكفِّراً لذنوبنا. فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله : "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه البخاري. ومعنى إيماناً: أي إيماناً بوجوبه، ومعنى احتساباً: استشعاراً بالأجر عند ربِّه، وعنه أيضاً أنَّ رسول الله قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنَّة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين) رواه مسلم وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال : " الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ويقول القرآن منعته النوم بالليل فيشفعان " رواه احمد بسند صحيح (حسن تمام المنة) أحكام تتعلق بالصيام عموماً 1ـ يجب تبيت النية من الليل وقبل الفجر: فعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "من لم يبيت الصيام قبل الفجر، فلا صيام له" رواه الخمسة. ومعنى النية: العزم بالقلب على فعل الصيام، ولا ينغي التلفظ، والسحور للصيام نية حكمية، ومن طلع عليه الفجر وعلم بدخول الشهر وجب عليهالإمساك وقضاء اليوم، لعدم وجود النية قبل الفجر. وتكفي نية واحدة أول ليلة من شهر الصيام للشهر كله على الرأي الراجح عندي، ويستحب تجديدها إذا انقطعت بسبب فطر لعذر من مرض أو سفر أو نحوهما. 2ـ يجب الصيام والإفطار تبعاً للدولة التي بها المكلف: فلا يجوز المخالفة بمتابعة دولة أخرى، ومن سافر لبلد أخر ثم أفطر مع البلد الأخر وكان صومه 28 يوماً وجب عليه قضاء يوم بعد العيد حتى يتم الشهر. 3ـ يسن تعجيل الفطر وتأخير السحور: وذلك بأن يفطر على رطب أو ماء ثم يصلي المغرب في جماعة، ثم يعود لاستكمال فطوره، ويؤخر السحور قريباً من الفجر حتى يتمكن من صلاته في المسجد. قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) البقرة:187 فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ ) رواه الترمذي وعن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ : ( قَالَ لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ ) رواه البخاري وعن أنس عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال : " تسحرنا مع النبي ثم قام إلى الصلاة قلت : كم كان بين الأذان والسحور قال قدر خمسين آية " رواه البخاري وعن أنس عن النبي قال: " تسحروا فإن في السحور بركة " رواه البخاري 4ـ من أكل أو شرب ناسياً : ثم تذكر وجب الإمساك ولفظ اللقمة أو الماء، ولا شيء عليه فقد أطعمه الله وسقاه. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: " إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" رواه البخاري. 5ـ من أكل أو شرب متعمداً: وهو ممن يجب عليه الصوم، فهو آثم عاصٍ لله تعالى، ولا يكفه صيام الدهر كله ولو صامه، ويجب عليه التوبة والاستغفار والقضاء، وعند الحنفية والمالكية الكفارة أيضا . 6- من أكل أو شرب وهو شاك في طلوع الفجر أو غروب الشمس: الصائم إذا أفطر وهو شاك في الغروب لقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) البقرة:187، والليل يبدأ من غروب الشمس , وهو كان على يقين أنه في نهار فلا يفطر إلا إذا تيقن أو غلب على ظنه غروب الشمس ، لأن الأصل بقاء النهار فلا ينتقل عن هذا الأصل إلا بيقين أو غلبة ظن . ولا يقضي الصائم إذا أكل أو شرب وهو شاك في طلوع الفجر ، لقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) البقرة:187 ، فقد قال تعالى : ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ) البقرة : من الآية:187 . مما يدل على جواز الأكل والشرب قبل تيقن طلوع الفجر ولأنه كان على يقين أنه في ليل فلا يحرم عليه الأكل إلا إذا تيقن طلوع الفجر ، لأن الأصل بقاء الليل . 7- من جامع زوجته في نهار رمضان: فهو آثم لانتهاك حرمة الشهر، وعليهما القضاء، وعليه وحده الكفارة وهي على الترتيب: ( عتق رقبة،، فم لم يجد فصيام شهرين متتابعين،فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً) وهذاعند الجمهور، أما عند المالكية فالكفارة على التخيير. فعن أبي هريرة قال: "بينما نحن جلوس عند النبي إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر -والعرق المكتل- قال: أين السائل؟ فقال: أنا، قال: خذ هذا فتصدق به، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها -يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك. انتهى. فهذا الحديث يدل على وجوب الكفارة بسبب الجماع العمد 8- ومن وطئ امرأته وهو صائم ناسيا في رمضان قال الحسن ومجاهد : إن جامع ناسيا فلا شيء عليه، وعن الثوري عن رجل عن الحسن قال : هو بمنزلة من أكل أو شرب ناسيا " وروي أيضا " عن ابن جريج أنه سأل عطاء عن رجل أصاب امرأته ناسيا في رمضان ، قال : لا ينسى ، هذا كله عليه القضاء " وتابع عطاء على ذلك الأوزاعي والليث ومالك وأحمد وهو أحد الوجهين للشافعية ، وفرق هؤلاء كلهم بين الأكل والجماع . وعن أحمد في المشهور عنه : تجب عليه الكفارة أيضا ، وحجتهم قصور حالة المجامع ناسيا عن حالة الآكل. 9- الحائض والنفساء اذا طهرت بعد الفجر: للعلماء في إمساكها ذلك اليوم قولان : القول الأول : :أنه يلزمها الإمساك بقية ذلك اليوم ،ولكنه لا يحسب لها ، بل يجب عليها القضاء ، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله .والقول الثاني : إنه لا يلزمها أن تمسك بقية ذلك اليوم ، لأنه يوم لا يصح صومها فيه لكونها في أوله حائضة ليست من أهل الصيام 10- صوم الحائض أو النفساء إذا طهرت قبل الفجر ولم تغتسل إلا بعد الفجر: يصح صوم المرأة الحائض إذا طهرت قبل الفجر ولم تغتسل إلى بعد طلوع الفجر .., وكذلك النفساء، لأنها حينئذ من أهل الصوم ، وهي شبيهة بمن عليه جنابة إذا طلع الفجر عليه ، وهو جنب فإن صومه يصح لقوله تعالى : -( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)البقرة: 187فإذا أذن الله تعالى بالجماع إلى أن يتبين الفجر لزم من ذلك أن لا يكون الاغتسال إلا بعد طلوع الفجر، فعن عائشة وأم سلمة أخبرتاه "أن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم" رواه البخاري وغيره هذا والله أعلم وللحديث بقية