حديث : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آَدَمَ لَهُ إِلَا الصِّيَامَ
كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آَدَمَ لَهُ إِلَا الصِّيَامَ
******
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ : (( قَالَ اللهُ : كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ لَهُ إلا الصِّيَامَ ، فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِه , وَالصِّيَامُ جُنَّـةٌ ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفـُِثْ ، وَلا يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ : إِنِّي امْرُؤٌ صَائِم , وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْك , لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا : إِذَا أَفْطَرَ فَـرِحَ ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِه )). معـــاني المفــــردات : الصِّيَامُ جُنَّـةٌ: الجُنَّــة بضم الجيم : الوقاية . قال الفيروز آبادي : الجُنَّـة بالضم : كل ما وقع وقال الرازي : الـجُنَّة بالضم : ما استترت به من السلاح ، والـجُنَّة : السترة ، والجمع جُنَن . وقال ابن الأثير : الصوم جُنَّة : أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات ، والجُنَّة : الوقاية ، ومنه الحديث : (( الإمام جُنَّـة)) لأنه يقي المأموم الزلل والسهو. قال النووي : قوله : (( الصيام جُنَّـة )) هو بضم الجيم ، ومعناه سترة ومانع من الرفث والآثام ، ومانع أيضا من النار، ومنه المِجَنُّ وهو التُّرْس ، ومنه الجن لاستتارهم. فَلا يَرْفـُِثْ : بضم الفاء وكسرها ، ويجوز في ماضيه التثليث . قال الفيروزآبادي : الرَّفَث محركة : الجماع والفُحش ، كالرُّفوث ، وكلام النساء في الجماع ، أو ما وُوجِهْن به من الفحش ، وقد رَفَـِـُث كنَصَرَ وفَرِح وكَرُم ، وأرفث. وقال الأزهري : الرفَث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. قال ابن حجر : والمراد بالرفث هنا - وهو بفتح الراء والفاء ثم المثلثة - الكلام الفاحش ، وهو يطلق على هذا ، وعلى الجماع وعلى مقدماته ، وعلى ذكره مع النساء، أو مطلقا ، ويحتمل أن يكون لما هو أعم منها. وَلا يَصْخَبْ: فيبعض روايات الحديث (وَلا يَسْخَبْ) بالسين بدل الصاد ، والمعنى واحد . قال النووي : ويقال بالسين والصاد ، وهو الصياح ، وهو بمعنى الرواية الأخرى (ولا يجهل) . قال القاضي : ورواه الطبري : (وَلا يَسْخَرْ) بالراء ، قال : ومعناه صحيح، لأن السخرية تكون بالقول والفعل وكله من الجهل . قلت : وهذه الرواية تصحيف ، وإن كان لها معنى. قال الفيروزآبادي : السخب ، محركة : الصخب، وقال : الصخب مُحَرَّكة : شدة الصوت. قال ابن حجر : الصخَب : الخصام والصياح . وقد جاء في رواية عند مسلم : (ولا يجهل) قال النووي: والجهل قريب من الرفث ، وهو خلاف الحكمة وخلاف الصواب من القول والفعل . فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ: في رواية (قاتله أو شاتمه) ، قال المناوي : وإن سابَّه أحد ، أي شاتمه ، يعني تعرض لشتمه . أو قاتله : أي أراد مقاتلته ، أو نازعه ودافعه . وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ: قسم بالله الذي يملك نفس رسول الله ونفوس العباد جميعا ، ومعنى بيده : أي بتقديره وتصريفه . لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ: في رواية عند مسلم وغيره (لخُلْفـة) قال النووي : هو بضم الخاء فيهما ، وهو تغير رائحة الفم . هذا هو الصواب فيه بضم الخاء كما ذكرناه ، وهو الذي ذكره الخطَّابى وغيره من أهل الغريب ، وهو المعروف في كتب اللغة . وقال القاضي : الرواية الصحيحة بضم الخاء ، قال : وكثير من الشيوخ يرويه بفتحها ، قال الخطابي : وهو خطأ . قال القاضي : وحكى فيه الفتح والضم ، وقال : أهل المشرق يقولونه بالوجهين ، والصواب الضم ، ويقال خَلَف فوه - بفتح الخاء واللام - يخلُف - بضم اللام - وأخلف يخلف : إذا تغير. وقال ابن عبد البر : خلوف فم الصائم : ما يعتريه في آخر النهار من التغير ، وأكثر ذلك في شدة الحر. قال أبو نعيم الأصبهاني : الخُلوف : تغير الفم ، يقال : خلف اللبن ، إذا أُطيل إيقاعه حتى يفسد . قال ابن حجر : قوله (فَمِ الصَّائِمِ) فيه ردٌّ على من قال : لا تثبت الميم في الفم عند الإضافة إلا في ضرورة الشعر ؛ لثبوته في هذا الحديث الصحيح وغيره.
فقــه الحديث يتناول هذا الحديث الجليل أربع قضايا مهمة : 1 - سر تخصيص الصيام بكونه لله تعالى . 2 - معنى كون الصيام جنة . 3 - فضيلة خلوف فم الصائم . 4 - أفراح الصائمين .
وسنتناول كل قضية في درس مستقل بعون الله ، ولنبدأ بالقضية الأولى : سر اختصاص الله تعالى الصيام بأنه له :- 1 - معنى قوله ((كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ لَهُ إلا الصِّيَامَ ، فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِه)) . جاء في رواية عند البخاري : ((يَتْرُكُ طَعَامـَهُ وَشَرَابـَهُ وَشَهْوَتـَهُ مِنْ أَجْلِي ، الصِّيَامُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا )) . وفي رواية عند أحمد وابن ماجه : ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي)) . وفي رواية عند ابن خزيمة (1897) : ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، قَالَ اللَّهُ : إِلا الصِّيَامَ ، فَهُوَ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، يَدَعُ الطَّعَامَ مِنْ أَجْلِي ، وَيَدَعُ الشَّرَابَ مِنْ أَجْلِي ، وَيَدَعُ لَذَّتَهُ مِنْ أَجْلِي ، وَيَدَعُ زَوْجَتَهُ مِنْ أَجْلِي )) . وفي رواية عند أحمد : ((قَالَ : قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ : عَبْدِي تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ، ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ، وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)) . توقفت عند هذا القول القدسي الكريم ، وتأملتُ سرَّ اختصاص المولى عز وجل عبادةَ الصوم بأنها له ، وأنه يجزي بها ، مع أنَّ المعلوم أنَّ سائرَ أعمال المسلم إنما هي لله عز وجل ، وجزاءَها منه سبحانه ؟ ووجدتُ أنَّ العلماء من سلفنا الصالح رحمهم الله قد شغلهم نفسُ هذا الخاطر ، وتساءلوا نفسَ التساؤل ، وأخذوا يستنبطون الحكمةَ من وراء ذلك ، فخرجوا بدررٍ من التوجيهات والأجوبة ، أنـثرها بين يدي إخواني ، عسى أن تكون فيها الفائدة :
1- قال بعضـهم : السبب هو أنَّ الصومَ بعيدٌ عن الرياء ؛ لخفائه ، بخلاف الصلاة والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة ؛ إذ لا يعلم الناسُ حقيقةَ كون فلان صائماً أو غيرَ صائم ؛ لاحتمال أن يُظهر أمامهم الصيام ، فإذا غاب عنهم تناول المفطرات ، وعلى هذا فالعالم بحقيقة الصوم هو الله عز وجل وحده ؛ لأنه المحيط بحركات العبد وسكناته . وإليه مال أبو عبيد رحمه الله في غريبه ، حيث رأى أنه خص الصيام لأنه ليس مما يظهر من ابن آدم بفعله ، وإنما هو شيء في القلب . ويؤيد ذلك : ما رواه ابن شهاب عن النبي مرسلا : ((لَيْسَ فِي الصَّوْمِ رياء ) ورواه ابن شهابٍ أيضاً عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي موصولاً، ولفظه : ((الصِّيَامُ لا رِيَاءَ فِيهِ ، قَالَ اللَّهُ : هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي)) ومما يؤيد هذا التوجيه أيضا : ما جاء في الروايات المختلفة المذكورة أعلاه من تعليل ذلك بأن الصائم يَدَع طعامَه وشرابَه وشهوتَه ولذتَه وزوجتَه وسرورَه من أجل الله وابتغاء مرضاته . وممن مال إلى هذا التوجيه : أبو العباس القرطبيُّ ، وابنُ الجوزي ، والمازريُّ ، وقوَّاه ابنُ حجر ، والسيوطي. قال ابن حجر : (( معنى النفي في قوله (لا رياء في الصوم) : أنه لا يدخله الرياء بفعله ، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول ، كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم ، فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية ، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار ، بخلاف بقية الأعمال ، فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها )) . 2- قال بعضـهم : معنى قوله سبحانه : ((الصِّيَامُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)) : أنا المنفرد بعلم مقدار ثوابه ، أو تضعيف حسناته ، ، أما غيره من العبادات فقد أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها ، وأنها تضاعف من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله ، إلا الصيام فإنه يثيب عليه من غير تقدير . ومما يؤيد هذا التوجيه : ما جاء في رواية ابن ماجه ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ ، يَقُولُ اللَّهُ : إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)) أي أجازي عليه جزاءً كثيراً من غير تعيينٍ لمقداره ، وهذا كقوله تعالى : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) والصابرون : الصائمون ، في أكثر الأقوال. قال ابن عبد البر في التمهيــد : (( والصوم في لسان العرب أيضا : الصبر ؛ لأنه حبس النفس عن المطاعم والمشارب والمناكح والشهوات . ومن الدليل على أن الصوم يُسَمَّى صبراً : قولُ رسول الله : ((مَنْ صَامَ شَهْرَ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَكَأَنَّهُ صَامَ الدَّهْرَ)) (يعني بشهر الصبر شهر رمضان)). كما يؤيد هذا التوجيهَ : العرفُ المستفادُ من قوله (أنا أجزي به) ؛ لأن الكريم إذا قال : أنا أتولى الإعطاء بنفسي ، كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه . 3- وقال بعضهم:المعنى أنه أحب العبادات إليَّ والمقدَّم عندي . قال ابن عبد البر : (( كفى بقوله (الصوم لي) فضلاً للصيام على سائر العبادات )) . ولكن جمهور العلماء على تقديم الصلاة على الصيام ، وهو ما تشهد له النصوص الصحيحة الكثيرة . 4- وقال بعضهم :الإضافة هنا إضافة تشريف وتعظيم ، كما في قوله تعالى : (ناقة اللهِ) وكما يقال : بيت الله ، ونحو ذلك ، مع أن العالم كله لله سبحانه ، وذلك لأن التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التعظيم والتشريف . 5- وقال بعضهم :إن الاستغناءَ عن الطعام والشراب من صفات الله تعالى ، فهو الصَّمَد ، فالصائم يشابه الحق سبحانه في شيءٍ من هذه الصفة ، وإن كانت صفاتُ الله لا يشبهها شيءٌ من صفات المخلوقين ، فلما تقرَّب الصائمُ إليه سبحانه بما يوافق صفاتِه أضافه إليه . قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي : (( واعلم أن الصوم من أخص أوصاف الربوبية ، إذْ لا يتصف به على الكمال إلا الله ، فإنه يُطْعِم ولا يُطْعَم ، فإضافته إلى نفسه بقوله (وأنا أجزي به) لكونه لا يتَّصف به أحدٌ على الحقيقة إلا هو ، لأنه الغني عن الأكل أبد الآبدين ومَنْ سواه لا بدَّ له منه ، حتى الملائكة فإن طعامَهم التسبيحُ والأذكارُ ، وشرابَهم المحبةُ الخالصةُ والمعارفُ والعلومُ الصافيةُ من الأكدار ، ومَنْ عداهم طعامُهم وشرابُهم ما يليق بهم في دار الدنيا وكل دار ، وقد دعا الباري إلى الاتصاف بأوصافه ، وتعبَّدهم بها بقدر الطاقة ، والصومُ من أخصها وأصعبِ الأشياء على النفوس ؛ لكونه خلافَ ما جُبِلوا عليه، لِما أنَّ وجودَهم لا يقوم إلا بمادةٍ ، بخلاف الصوم ، فلهذا اختلف عن كل شيء)). 6- وقال بعضهم: المعنى أن الصوم خالصٌ لله ، وليس للعبد فيه حظٌّ ،بخلاف غوهذا التوجيه من جنس التوجيه الأول . 7 - وقال بعضهم : معناه أن الصوم لي لا لك ، أي أنا الذي ينبغي لي أن لا أَطْعَمَ ولا أشربَ ، وإذا كان كذلك وكان دخولك فيه لأني شرعتُه لك فأنا أجزي به . كأنه يقول : أنا جزاؤه ؛ لأن صفة التنـزُّه عن الطعام والشراب والشهوة تطلبني وقد تلبستَ بها ، وليست لك ، لكنك اتصفتَ بها حال صومك فهي تدخلك عليَّ ، فإن الصبر حبس النفس ، وقد حبستَها بأمري عما تقتضيه حقيقتُها من الطعام والشراب والشهوة طاعةً . وهذا التوجيه قريب من التوجيه الخامس . 8 - وقال بعضهم: سبب إضافة الصوم بالذات إلى الله سبحانه وتعالى : أنه لم يُعبَد أحدٌ غيرُ الله تعالى بالصوم ، فلم يُعظِّم الكفارُ في عصرٍ من العصور معبوداً لهم بالصيام ، و إن كانوا يعظِّمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك . 9- أما ألطف ما قيل في معنى هذا الحديث القدسي الكريم :فهو ما رواه أيوب بن حسان الواسطي ، أنه سمع رجلاً يسأل الإمامَ الجليلَ سفيانَ بنَ عُيَيْنة رحمه الله عن هذا الحديث ، فقال رحمه الله : (( هذا من أجود الأحاديث وأحكمها ، إذا كان يوم القيامة يُحاسِبُ اللهُ عزَّ و جل عبدَه ، ويُؤَدِّي ما عليه من المظالم من سائر عمله ، حتى لا يبقى إلا الصومُ ، فيتحمَّل اللهُ ما بقي عليه من المظالم ، ويدخله بالصوم الجنة )). أي أن الحق سبحانه لا يجعل للعباد حقاً في الحسنات التي اكتسبها العبدُ بالصيام ، وذلك يوم القصاص بين يديه ، حين يُؤخَذ من حسنات الظالم و يُعطَى المظلوم ، ويُؤخَذ من سيئات المظلوم ويُحمَل على الظالم . ويؤيد ذلك : ما جاء في رواية مُحَمَّدِ بْنُ زِيَادٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ ، قَالَ : ((لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ ، وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ))الحديث . وفي لفظ : ((يَقُولُ رَبُّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلا الصَّوْمَ ، هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)). وإذا كانت بعض الأحاديث قد ذكرت أن الصيام يكفِّـر بعضَ المعاصي ، فقد جمع الحافظ ابنُ حجر بينها وبين هذا الحديث باحتمال أن يكون المراد بقوله : ((كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلا الصَّوْمَ)) أن الصومَ كفارة وزيادة ثواب على الكفارة . فما أعظمَ فضلَ الله تعالى ! وما أجزلَ ثوابَه للصائمين ! . 10- وقال بعضهم :معناه والله أعلم : أن الصومَ لا يظهرُ من ابن آدم في قولٍ ولا عملٍ ، وإنما هو نيةٌ ينطوي عليها صاحبُها ، ولا يعلمُها إلا اللهُ ، وليست مما تظهرُ فتكتبُها الحَفَظَةُ ، كما تكتبُ الذكرَ والصلاةَ والصدقةَ وسائرَ الأعمال ، لأنَّ الصومَ في الشريعة ليس بالإمساك عن الطعام والشراب ، لأنَّ كلَّ مُمسكٍ عن الطعام والشراب إذا لم يَنْـوِ بذلك وجهَ الله ، ولم يُرِدْ أداءَ فرضه أو التطوعَ لله به ، فليس بصائمٍ في الشريعة ، فلهذا ما قلنا : إنه لا تطَّلِعُ عليه الحفَظَةُ ولا تكتبُـه ، ولكنَّ اللهَ يعلمُه ويجازي به على ما شاء من التضعيف . قال الحكيم الترمذي: (( إنما صار - يعني الصوم - مختصاً من بين الأعمال بأن نسبه إلى نفسه الكريمة ، وإن كانت الأعمالُ كلُّها لله تعالى ؛ لأنَّ الصومَ ليس بعمل الأركان ، ويقع سراً فيما بينه وبين ربه سبحانه وتعالى ، والحفَظَةُ لا تعلمُ ذلك ، ولا تطَّلِعُ عليه ، وخفي عليه جزاؤه ومقدارُ ثوابه ، فولي الله تعالى ذلك لعبده ؛ لأنه كلما تردَّدَتْ شهوةٌ تجدَّدَتْ للعبد عَزْمةٌ على الثبات ، فله بكل عَزْمَةٍ ثوابٌ جديد )) . وقال أيضا : (( فإذا صام رمضان إيماناً بما كتبه الله عليه ، وبأنه يطلع عليه في عَزْمِه وردِّ شهواته في ساعات يومه ، فذاك كلُّه إيمانٌ يتجدَّد عليه في كلِّ ساعةٍ ، وهو سرٌّ بينه وبين ربه ، لا يطلعُ عليه ملَكٌ مُقَرَّبٌ ، ولا نـبيٌّ مُرْسَل ، ولذلك قال : الصوم لي وأنا أجزي به )) . وقد ذكر ابنُ حجر أنَّ أقربَ التوجيهات إلى الصواب : الأولُ و الثاني ، ويقربُ منهما الثامنُ والتاسع . قلت : لكلِّ توجيهٍ مما سبق وجهٌ مقبولٌ بفضل الله ، وعطاءُ الله أوسعُ وأعظمُ من كل تصور ، وإن كان ما قدموه من الأقوال أقوى من غيره . ثم أختم هذه التوجيهات بما قاله بعض العلماء : معنى الحديث : أن الحق سبحانه هو الذي يتولى مكافأة الصائم على صيامه ، وهذا دليل على عِظَم فضل الصوم وكثرة ثوابه؛ لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى ذلك عِظَم قدر الجزاء وسعة العطاء. قال القاضي عياض : ثوابُ الصوم لا يُقْدَر قدرُه ، ولا يَقْدِر على إحصائه إلا اللهُ ، فلذلك يتولى جزاءَه بنفسه ، ولا يَكِلُـه إلى ملائكته . والموجبُ لاختصاص الصوم بهذا الفضل أمران : أحدهما : أن جميع العبادة مما يطلع عليه العباد ، والصوم سرٌّ بين الصائم وبين الله تعالى ، يفعله العبدُ خالصاً لوجه الله ، ويعاملُـه به طالباً لرضاه . الثاني : أن جميع الحسنات راجعةٌ إلى صرف المال أو استعمال البدن فيما فيه رضاه ، والصومُ يتضمن كسرَ النفس وتعريضَ البدن للنقص والتحول ، مع ما فيه من الصبر على مَضَض الجوع و العطش ، فهو يمنع من ملاذِّ النفس و شهواتها ما لا تمنع منه سائر العبادات . وقد اتفق العلماء على أن الصوم المراد في الحديث هو ما سلم من المعاصي قولاً وفعلاً ، ووقع خالصاً سالماً من الرياء والشوائب . 2 – هل هذا الحديث قدسي أو نبوي ، وما الفرق بينهما ؟ هذا الحديث الجليل بعضه قدسي وبعضه نبوي ، فالقدسي منه قوله : (( قَالَ اللهُ : كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ لَهُ إلا الصِّيَامَ ، فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِه)) . وباقي الحديث نبوي . والحديث قد يكون قدسيا خالصا ، وقد يكون نبويا خالصاً ، وقد يكون بعضه نبويا وبعضه قدسيا . والحديث القُدُسي في اللغة : منسوب إلى القُدُس ، وهو اسم ومصدر بمعنى الطُّهْر، ومن أسماء الله (القُدُّوس) . وفي الاصطلاح : هو الحديث الذي يرويه أوثقُ الكائنات وأكملُ المخلوقات محمد r عن ربه تبارك وتعالى ، غير القرآن الكريم ، سواء رواه عن ربه مباشرة ، أو عن جبريل عليه السلام ، عن رب العزة والجلال . وتسميته حديثاً لكونه من إخبار الرسول ، ولهذا فهو داخل ضمن الحديث النبوي من هذه الناحية . وسُمِّي قُدُسِيّاً لكونه مسنَداً إلى الرب تبارك وتعالى وتقدس . وفرَّق العلماء بين الحديث القدسي والحديث النبوي بعدة أمور : 1 - الحديث القدسي لا يكون إلا بوحي ، جليّاً كان (بواسطة جبريل) أو غير جلي (إلهاماً أو مناماً) ، أما الحديث النبوي فمنه ما كان وحياً ، ومنه ما كان اجتهاداً واستنباطاً من رسول الله ، مع العلم بأن هذا الاجتهاد في معنى الوحي ؛ إذ لو كان اجتهاداً غير موافق لمراد الله عز وجل ما أقرَّه الله عليه ، ولا سكت عنه أبداً ، بل كان يصحح له ويُصوِّبه . 2 - الحديث القدسي يضيفه النبيُّ إلى الله تعالى ، بخلاف الحديث النبوي فإنه ينطق به مباشرة من غير أن يضيفَه إلى أحد . 3 - غالباً ما تتعلق الأحاديث القُدُسية بتنـزيه ذات الحق سبحانه وتعالى ، وبيان صفات جلاله وكماله وعظمته وقدرته ، والتنبيه على عدله ورحمته ، والحديث عن سعة عطائه وعفوه ومغفرته لعباده ، ونحو ذلك من أسباب ترقيق القلوب وتهذيب الضمائر والنفوس ، والحث على فعل الطاعات والخيرات وترك المعاصي والمنكرات . والله أعلم وصلى وسلم على محمد
كاتب المقالة : الشيخ / محمد فرج الأصفر
تاريخ النشر : 22/10/2010
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com