الناسخ والمنسوخ في القرآن ( 3 )



الناسخ والمنسوخ في القرآن
(3)

باب ذكر الآيات اللواتي
ادعي عليهن النسخ في سورة البقرة
ذكر الآية الأولى

قوله تعالى : وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ اختلف المفسرون في المراد بهذه النفقة على أربعة أقوال :
أحدها : أنها النفقة على الأهل والعيال ، قاله ابن مسعود وحذيفة .
والثاني : الزكاة المفروضة، قاله ابن عباس، وقتادة .
والثالث : الصدقات النوافل، قاله مجاهد والضحاك .
والرابع : أن الإشارة بها إلى نفقة كانت واجبة قبل الزكاة.
ذكره بعض ناقلي التفسير، وزعموا : أنه كان فرض على الانسان أن يمسك مما في يده قدر كفايته "يومه" وليلته ويفرق باقيه على "الفقراء" ثم نسخ ذلك بآية الزكاة وهذا قول ليس "بصحيح" لأن لفظ الآية لا يتضمن ما ذكروا وإنما يتضمن مدح المنفق، والظاهر، أنها تشير إلى الزكاة لأنها قرنت مع الإيمان بالصلاة.
وعلى هذا، لا وجه للنسخ وإن كانت تشير إلى الصدقات النوافل والحث عليها باق، والذي أرى، ما بها مدح لهم على جميع نفقاتهم في الواجب والنفل وقد قال أبو جعفر يزيد بن القعقاع نسخت آية الزكاة كل صدقة كانت قبلها ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله والمراد بهذا كل صدقة وجبت بوجود المال مرسلا كهذه الآية .
ذكر الآية الثانية

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا (الآية) اختلف المفسرون في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المعنى : إن الذين آمنوا من هذه الأمة، والذين هادوا، وهم أتباع موسى، والنصارى، وهم أتباع عيسى، والصابئون : الخارجون من الكفر إلى الإسلام أي: من آمن، أي: من دام منهم على الإيمان .
والثاني : إن الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون والذين هادوا : وهم اليهود، والنصارى والصابئون: وهم كفار أيضا، من آمن أي من دخل في الإيمان بنية صادقة.
والثالث : إن المعنى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ومن آمن من الذين هادوا، فيكون قوله: بعد هذا: من آمن راجعا إلى المذكورين مع الذين آمنوا، ومعناه: من يؤمن منهم وعلى هذه الأقوال الثلاثة لا وجه لادعاء نسخ هذه الآية. وقد قيل : إنها منسوخة بقوله : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ
فأخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال: أخبرنا أحمد بن الحسن بن قريش، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الوراق، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي داود، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ الآية. قال: فأنـزل الله تعالى بعد هذه الآية وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
قلت : فكأنه أشار بهذا إلى النسخ وهذا القول لا يصح لوجهين :
أحدهما : أنه إن أشير بقوله: وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى إلى من كان تابعا لنبيه قبل أن يبعث النبي الآخر فأولئك على الصواب ، وإن أشير إلى من كان في زمن نبينا ، فإن من ضرورة من لم يبدل دينه ولم يحرف أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويتبعه.
والثاني : أن هذه الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ .
ذكر الآية الثالثة

قوله تعالى : بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ جمهور المفسرين على أن المراد بالسيئة الشرك فلا يتوجه على هذا القول نسخ أصلا وقد روى السدي عن أشياخه: أن المراد بالسيئة الذنب من الذنوب التي وعد الله تعالى عليها النار فعلى هذا يتوجه النسخ بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ على أنه يجوز أن يحمل ذلك، على من أتى السيئة مستحلا فلا يكون نسخا .
ذكر الآية الرابعة

قوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا اختلف المفسرون في المخاطبين بهذا على قولين :
أحدهما : أنهم اليهود، والتقدير من سألكم عن شأن محمد فاصدقوه وبينوا له صفته ولا تكتموا أمره، قاله ابن عباس، وابن جبير وابن جريج ومقاتل .
والثاني : أمة محمد . ثم اختلف أرباب هذا القول، فقال الحسن مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر وقال أبو العالية وقولوا للناس معروفا وقال محمد بن علي بن الحسين كلموهم بما تحبون أن يقولوا لكم فعلى هذا الآية محكمة. وذهب قوم إلى أن المراد بذلك: مساهلة المشركين في دعائهم إلى الإسلام، فالآية عند هؤلاء منسوخة بآية السيف وهذا قول بعيد، لأن لفظ الناس عام فتخصيصه بالكفار يفتقر إلى دليل ولا دليل هاهنا، ثم إن (إنذار) الكفار من الحسنى .
ذكر الآية الخامسة

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا قال المفسرون: كانت هذه الكلمة لغة في الأنصار، وهي من راعيت الرجل إذا تأملته وتعرفت أحواله ومنه قولهم: أرعني "سمعك" وكانت الأنصار تقولها لرسول الله وهي بلغة اليهود سب بالرعونة وكانوا يقولونها له وينوون بها السب فنهى الله سبحانه المؤمنين عن قولها لئلا يقولها اليهود وأمرهم أن يجعلوا مكانها "أنظرنا" وقرأ الحسن والأعمش وابن المحيصن (راعنا) بالتنوين فجعلوه مصدرا، أي: لا تقولوا رعونة .
وقرأ ابن مسعود: (لا تقولوا راعونا) على الأمر بالجماعة كأنه نهاهم أن يقولوا ذلك فيما بينهم، والنهي في مخاطبة النبي بذلك أولى، وهذه الآية قد ذكروها في المنسوخ، ولا وجه لذلك بحال، ولولا إيثاري ذكر ما ادعى عليه النسخ لم أذكرها. قال أبو جعفر النحاس: هي ناسخة لما كان مباحا قوله ،
قلت: وهذا تحريف في القول، لأنه إذا نهى عن شيء لم تكن الشريعة أتت به لم يسم النهي نسخا .
ذكر الآية السادسة

قوله تعالى : فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ قال المفسرون : أمر الله بالعفو والصفح عن أهل الكتاب قبل أن يأمر بقتالهم، ثم نسخ العفو والصفح بقوله قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية، هذا مروي عن ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري قال: أخبرنا علي بن الفضل، قال: أخبرنا عبد الصمد، قال: أخبرنا "ابن" حموية، قال: أخبرنا إبراهيم بن حريم، قال: بن عبد الحميد، قال: بنا مسلم بن إبراهيم، وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا أبو الفضل البقال، قال: أبنا "ابن بشران" قال: أخبرنا إسحاق الكاذي، قال حدثنا عبد الله بن أحمد، قال حدثني أبي، قال حدثنا عبد الصمد، كلاهما عن همام "ابن يحيى" عن قتادة قال: أمر الله نبيه أن يعفو عنهم ويصفح، حتى يأتي الله بأمره، فأنـزل في براءة قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ (الآية) فنسخها بهذه الآية، وأمره فيها بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا، أو يقروا بالجزية ،
قال أحمد: وحدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر عن قتادة فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ،
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا علي بن أيوب قال: أخبرنا ابن شاذان، قال: أخبرنا أبو بكر النجاد، قال: أخبرنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمد المروزي، قال أخبرنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس عن أبي العالية فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا قال: نسخ بقوله : قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ الآية .
فصل : واعلم أن تحقيق الكلام دون التحريف
فيه أن يقال : إن هذه الآية ليست بمنسوخة؛ لأنه لم يأمر بالعفو مطلقا، وإنما أمر به إلى غاية وبين الغاية بقوله: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وما بعد الغاية يكون حكمه مخالفا لما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون أحدهما ناسخا للآخر، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته والآخر محتاجا إلى حكم آخر،
وقد ذهب إلى ما قلته جماعة من فقهاء المفسرين وهو الصحيح وهذا إذا قلنا: إن المراد بالعفو عن قتالهم وقد قال الحسن : هذا فيما بينكم وبينهم دون ترك حق الله تعالى حتى يأتي الله بالقيامة.
وقال غيره: بالعقوبة، فعلى هذا يكون الأمر بالعفو (محكما لا منسو خا) .
ذكرالآية السابعة

قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية على ثمانية أقوال :
أحدهما : أنها نـزلت في اشتباه القبلة. أخبرنا أبو بكر بن حبيب قال: أخبرنا علي بن الفضل ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الصمد، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: أخبرنا إبرهيم بن خريم قال : حدثنا عبد الحميد، قال أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا أشعث بن سعيد قال: حدثنا عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع رسول الله في غزاة في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله صلى فأنـزل الله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ،
وروى جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة: القبلة هاهنا فصلوا وخطوا خطا، وقال بعضهم هاهنا فصلوا وخطوا خطا، فلما أصبحنا أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من سفرنا سألنا رسول الله عن ذلك فسكت، فأنـزل الله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ .
قلت : وهذا الحكم باق عندنا وإن من اشتبهت عليه القبلة فصلى بالاجتهاد فصلاته صحيحة "مجزية" وهو قول سعيد بن المسيب ومجاهد و عطاء والشعبي والنخعي وأبي حنيفة، وللشافعي قولان :
أحدهما : كمذهبنا .
والثاني: يجب الإعادة، وقال الحسن، والزهري وربيعة يعيد في الوقت، فإذا فات الوقت لم يعد، وهو قول مالك.
القول الثاني: أن المراد بالآية صلاة التطوع، أخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: أخبرنا ابن عبد الصمد، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حموية قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قال: حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عمر قال: كان النبي يصلي على راحلته تطوعا أينما توجهت به، وهو آتي من مكة إلى المدينة ثم قرأ ابن عمر وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فقال ابن عمر رضي الله عنه في هذا أنـزلت الآية .
القول الثالث : أن رسول الله لما صلى على النجاشي ، قال أصحاب : كيف نصلي على رجل مات وهو يصلي على غير قبلتنا ؟ وكان يصلي إلى بيت المقدس حتى مات وقد صرفت القبلة إلى الكعبة فنـزلت هذه الآية . رواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما .
القول الرابع : أن المراد بالآية : أينما كنتم من شرق أو غرب فاستقبلوا الكعبة ، قاله مجاهد .
القول الخامس : أن اليهود "لما تكلموا" "حين" صرفت القبلة إلى الكعبة نـزلت هذه الآية ، ومعناها : "لا تلتفتن" إلى اعتراض اليهود بالجهل وإن المشرق والمغرب لله يتعبدكم بالصلاة إلى مكان ثم يصرفكم عنه كما يشاء. ذكره أبو بكر بن الأنباري وقد روى معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما .
والقول السادس : أنه ليس المراد بالصلاة وحدها وإنما معنى الآية من أي وجه قصدتم الله، وعلى أي حال عبدتموه علم ذلك وأثابكم عليه.
والعرب تجعل الوجه بمعنى القصد، قال الشاعر:
اســتغفر اللـه ذنبـا لسـت محصيـه
رب العبــاد إليــه الوجـه والعمـل
معناه: إليه القصد والتقدم. ذكره محمد بن القاسم أيضا .
والقول السابع : أن معنى الآية أينما كنتم من الأرض فعلم الله بكم محيط لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ذكره ابن القاسم أيضا وعلى هذه الأقوال الآية محكمة.
القول الثامن : ذكر أربابه أنها منسوخة، فروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة، قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فاستقبل رسول الله بصلاته صخرة بيت المقدس فصلى إليها، وكانت قبلة اليهود، ليؤمنوا به وليتبعوه وليدعوا بذلك الأميين من العرب فنسخ ذلك وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .
أخبرنا إسماعيل ابن أحمد السمرقندي قال: أبنا أبو الفضل عمر بن عبيد الله البقال قال أبنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران، قال: أبنا أبو الحسين إسحاق ابن أحمد الكاذي، قال: بنا عبد الله بن حنبل، قال: حدثني أبي قال: حدثني حجاج بن محمد، قال: أنبا ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا والله أعلم شأن القبلة، قال: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فاستقبل رسول الله فصلى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق ثم صرفه الله إلى البيت العتيق فقال: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا يعنون بيت المقدس، فنسخها وصرف إلى البيت العتيق فقال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .
قال أحمد بن حنبل: وحدثنا عبد الوهاب بن عطاء، أخبرنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ونبي الله بمكة وبعدما هاجر رسول الله نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجهه الله تعالى بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام ،
قال أحمد، وبنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: بنا همام قال بنا قتادة فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال: وكانوا يصلون نحو بيت المقدس ثم وجهه الله نحو الكعبة .
وقال عز وجل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من قبلة.
أخبرنا محمد بن عبد الله العامري، قال: أبنا علي بن الفضل، قال: أبنا محمد بن عبد الصمد، قال: أبنا عبد الله بن أحمد، قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا يونس، عن شيبان عن قتادة فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال: نسخ هذا بعد ذلك، فقال الله عز وجل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
قلت: وهذا قول أبي العالية والسدي .
فصل: واعلم : أن قوله تعالى
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
ليس فيه أمر بالتوجه إلى بيت المقدس ولا إلى غيره بل هو دال على أن الجهات كلها سواء في جواز التوجه إليها.
فأما التوجه إلى بيت المقدس فاختلف العلماء، هل كان برأي النبي ، واجتهاده، أو كان عن وحي ؟ فروي عن ابن عباس وابن جريج أنه كان عن أمر الله تعالى لقوله عز وجل: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ .
وأخبرنا المبارك بن علي، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: أبنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا محمد بن الحسين قال بنا كثير بن يحيى قال: بنا أبي، قال: بنا أبو بكر الهدبي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت اليهود إن محمدا مخالف لنا في كل شيء فلو تابعنا على قبلتنا، أو على شيء لتابعناه، فظن النبي أن هذا منهم جد، وعلم الله منهم الكذب، وأنهم لا يفعلون ، فأراد الله أن يبين ذلك لنبيه فقال : إذا قدمت المدينة فصل قبل بيت المقدس، ففعل ذلك رسول الله ، فقالت اليهود : قد تابعنا على قبلتنا ويوشك أن يتابعنا على ديننا ، فأنـزل الله عز وجل وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ فقد علمنا انهم لا يفعلون، ولكن أردنا أن نبين ذلك لك ،
و قال الحسن وعكرمة وأبو العالية، والربيع : بل كان برأيه واجتهاده وقال قتادة: كان الناس يتوجهون إلى أي جهة شاءوا، بقوله تعالى : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ثم أمرهم النبي  باستقبال بيت المقدس ،
وقال ابن زيد : كانوا ينحون أن يصلوا إلى قبلة شاءوا، لأن المشارق والمغارب لله، وأنـزل الله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فقال النبي : (هؤلاء يهود قد استقبلوا بيتا من بيوت الله - يعني بيت المقدس - فصلوا إليه) فصلى رسول الله وأصحابه بضعة عشر شهرا، فقالت اليهود : ما اهتدى لقبلته حتى هديناه، فكره النبي قولهم ورفع طرفه إلى السماء فأنـزل الله تعالى قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ،
أخبرنا المبارك بن علي، قال: أبنا أحمد بن الحسين ابن قريش، قال: أبنا أبو إسحاق البرمكي، قال: أبنا محمد بن إسماعيل الوراق، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمد بن أيوب قال: بنا أحمد بن عبد الرحمن، قال بنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع، قال: حدثني أبو العالية، "أن نبي الله خُيَر بين أن يوجه حيث يشاء، فاختار بيت المقدس، لكي يتألف أهل الكتاب ثم وجهه الله إلى البيت الحرام "، واختلف العلماء في سبب اختياره بيت المقدس على قولين:
أحدهما : أن العرب لما كانت تحج ولم تألف بيت المقدس ، أحب الله امتحانهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، كما قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وهذا قول الزجاج .
والثاني: أنه اختاره ليتألف أهل الكتاب، قاله: أبو جعفر بن جرير الطبري قلت: فإذا ثبت أن رسول الله اختار بيت المقدس فقد وجب استقباله بالسنة، ثم نسخ ذلك بالقرآن.
والتحقيق في هذه الآية أنها أخبرت أن الإنسان أين تولى بوجهه فثم وجه الله، فيحتاج مدعي نسخها أن يقول: فيها إضمار. تقديره: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ في الصلاة أين شئتم ثم نسخ ذلك المقدر، وفي هذا بعد، والصحيح إحكامها .
ذكر الآية الرابعة عشرة

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أما قوله كُتب، فمعناه فرض والذين من قبلنا، هم أهل الكتاب وفي كاف التشبيه في قوله: "كما" ثلاثة أقوال :
أحدها: أنها ترجع إلى حكم الصوم وصفته لا إلى عدده.
أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق، قال: أبنا محمد بن مرزوق، قال: أبنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أبنا عبد الله بن يحيى السكري، قال: أبنا جعفر الخلدي، وقال: أبنا أبو علاثة محمد بن عمرو بن خالد، قال: بنا أبي قال: بنا يونس بن راشد، عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، وقال: بنا أبو الفضل البقال، قال: أبنا أبو الحسين بن بشران قال: بنا إسحاق الكاذي قال: بنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي قال: بنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما - ولم يذكر عكرمة - قال : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني بذلك : أهل الكتاب، وكان كتابه على أصحاب محمد ، أن الرجل كان يأكل ويشرب، وينكح، ما بينه وبين أن يصلي العتمة، أو يرقد وإذا صلى العتمة أو رقد منع ذلك إلى مثلها، فنسختها هذه الآية أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ،
أخبرنا محمد بن أبي منصور قال: أبنا علي بن أبي أيوب، قال: أبنا أبو علي بن شاذان، قال: أخبرنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: أبنا نصر بن علي، قال: بنا أبو أحمد، قال: بنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: كان الرجل إذا صام فنام لم يأكل إلى مثلها من القابلة، وأن قيس بن صرمة أتى امرأته، وكان صائما فقال: عندك شيء قالت: لعلي أذهب فأطلب لك، فذهبت وغلبته عينه فجاءت فقالت: خيبة لك فذكر ذلك للنبي ، فنـزلت أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ إلى قوله مِنَ الْفَجْرِ ،
وقال سعيد بن جبير: كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم لم يحل له أن يطعم إلى القابلة، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام، وهو عليهم ثابت وقد أرخص لكم فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بقوله تعالى : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ الآية ،
وقد روى أن قيس بن صرمة أكل بعدما نام، وأن عمر بن الخطاب جامع زوجته بعد أن نامت، فنـزل فيهما قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ الآية .
القول الثاني : أنها ترجع إلى عدد الصوم لا إلى صفته ، ولأرباب هذا القول في ذلك ثلاثة أقوال:
أما الأول: فأخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: أبنا علي بن الفضل العامري قال: أبنا ابن عبد الصمد، قال: أبنا ابن حموية، قال: أبنا إبراهيم بن حريم قال: حدثنا عبد الحميد، قال: بنا هاشم بن القاسم، قال: بنا محمد بن طلحة عن الأعمش، قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما : كتب على النصارى الصيام كما كتب عليكم، فكان أول أمر النصارى أن قدموا يوما قالوا : حتى لا نخطئ، قال: ثم آخر أمرهم صار إلى أن قالوا: نقدمه عشرا ونؤخر عشرا حتى لا نخطئ، فضلوا ،
وقال دغفل بن حنظلة :كان على النصارى صوم رمضان فمرض ملكهم "فقالوا" إن شفاه الله تعالى لنـزيدن عشرة، ثم كان بعده ملك آخر فأكل اللحم فوجع فوه فقال: إن شفاه ليزيدن سبعة أيام ثم ملك بعده ملك، فقال: ما ندع من هذه الثلاثة الأيام أن نتمها، ونجعل صومنا في الربيع، ففعل فصارت خمسين يوما ،
وروى السدي عن أشياخه ، قال: اشتد على النصاري صيام رمضان، وجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياما في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا نـزيد عشرين يوما نكفر بها ما صنعنا فجعلوا صيامهم خمسين يوما فعلى هذا البيان الآية محكمة غير منسوخة.
وأما الثاني: فأخبرنا عبد الوهاب، قال: أبنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا أخبرنا أبو علي بن شاذان، قال: أبنا أحمد بن كامل، قال: أبنا محمد بن سعد، قال: حدثنا أبي قال حدثني عمي الحسين بن الحسن ابن عطية، قال: حدثني أبي عن جدي عن ابن عباس رضي الله عنهما : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فكان ثلاثة أيام في كل شهر، ثم نسخ ذلك ما أنـزل من صيام رمضان وقال قتادة: كتب الله عز وجل على الناس قبل نـزول شهر رمضان ثلاثة أيام من كل شهر .
وأما الثالث : فقد روى النـزال بن سبرة عن ابن مسعود، أنه قال: ثلاثة أيام من كل شهر، ويوم عاشوراء ، وقد زعم أرباب هذا القول، أن الآية منسوخة بقوله: شَهْرُ رَمَضَانَ وفي هذا بعد كثير، لأن قوله شَهْرُ رَمَضَانَ جاء عقيب قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ فهو كالتفسير للصيام والبيان له.
القول الثالث : أن التشبيه راجع إلى نفس الصوم لا إلى صفته ولا إلى عدده، وبيان ذلك، أن قوله تعالى كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لا يدل على عدد ولا صفة، ولا وقت، وإنما يشير إلى نفس الصيام كيف وقد عقبه الله بقوله تعالى أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فتلك يقع على يسير الأيام وكثيرها ، فلما قال تعالى في نسق التلاوة شهر رمضان، بين عدد الأيام المعدودات ووقتها، وأمر بصومها فكان التشبيه الواقع في نفس الصوم . والمعنى كتب عليكم أن تصوموا كما كتب عليهم، وأما صفة الصوم وعدده فمعلوم من وجوه أخر لا من نفس الآية ،
وهذا المعنى مروي عن ابن أبي ليلى وقد أشار إليه السدي والزجاج، والقاضي أبو يعلى وما رأيت مفسرا يميل إلى التحقيق إلا وقد أومى إليه، وهو الصحيح وما ذكره المفسرون فإنه شرح حال صوم المتقدمين، وكيف كتب عليهم لا أنه تفسير للآية وعلى هذا البيان لا تكون الآية منسوخة أصلا .
الآية الخامسة عشرة

قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ اختلف المفسرون في معنى الآية على قولين:
أحدهما: أنه يقتضي التخيير بين الصوم وبين والإفطار مع الإطعام، لأن معنى الكلام وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية، فعلى هذ يكون الكلام منسوخا بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا أبو الفضل البقال، قال: أبنا بن بشران، قال: بنا الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي أحمد بن حنبل، قال: بنا عبد الرزاق قال: بنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن ابن عباس رضي الله عنهما : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال : نسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ،
قال أحمد: وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنهما : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وكانت الإطاقة أن الرجل والمرأة يصبح صائما، ثم إن شاء أفطر وأطعم لذلك مسكينا فنسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ،
قال أحمد: وحدثنا عبد الله بن إدريس، قال: بنا الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال : نسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ،
قال أحمد: وحدثنا وكيع، قال: بنا محمد بن سليم عن ابن سيرين عن عبيدة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال : نسختها التي بعدها والتي تليها أخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: أبنا علي بن الفضل، قال: أبنا ابن عبد الصمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: بنا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عبد الحميد، قال أبنا عبيد الله موسى عن إسرائيل عن منصور، عن إبراهيم عن علقمة قال : كانوا إذا أراد الرجل أن يفطر يوما من رمضان من غير مرض أفطر وأطعم نصف صاع حتى نسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فلم يكن إلا لهما ،
قال عبد الحميد: وحدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: بنا وهيب بن خالد، عن ابن شبرمة عن الشعبي، قال : لما نـزلت وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ أفطر الأغنياء وأطعموا وحصل الصوم على الفقراء فأنـزل الله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فصام الناس جميعا .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أبنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أبنا أبو عمرو بن مهدي، قال: أبنا محمد بن مخلد، قال: بنا القاسم بن عياد، قال: بنا بشر بن عمر، قال: بنا حماد بن زيد عن سلمة بن علقمة عن ابن سيرين أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ قال : هذه منسوخة ، وروى عطية، وابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان في الصوم الأول فدية طعام مسكين فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يطعم مسكينا ويفطر، كان ذلك رخصة له، ثم نسخ ذلك .
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أبنا علي بن أيوب، قال: أبنا علي بن شاذان، قال: بنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني قال: بنا قتيبة. وأبنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا أبو بكر محمد بن هبة الله الطبري، قال: أبنا أبو الحسين بن الفضل القطان، قال: بنا أبو محمد بن درستويه قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال بنا أبو صالح، قال: بنا بكر بن مضر عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن يزيد مولى أم سلمة عن سلمة بن الأكوع قال: لما نـزلت: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي، فعل حتى نـزلت الآية التي بعدها فنسختها وقال أنس رضي الله عنه لما قدم رسول الله   المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام وكانوا قوما لم يتعودوا الصيام وكان الصوم عليهم شديدا وكان من لم يصم أطعم مسكينا.
وقد روى هذا المعنى : أنه كان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى لقوله : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ إلى أن نـزل قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فنسخ ذلك بهذه، عن جماعة منهم معاذ بن جبل وابن مسعود، وابن عمر، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والنخعي، والزهري رضي الله عنهم .
والقول الثاني: أنه محكم غير منسوخ وأن فيه إضمارا تقديره: وعلى الذين كانوا يطيقونه أو لا يطيقونه فدية وأشير بذلك إلى الشيخ الفاني الذي يعجز عن الصوم، والحامل التي تتأذى بالصوم والمرضع.
أخبرنا عبد الوهاب قال: أبنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو ظاهر الباقلاوي، قالا أبنا ابن شاذان، قال: أبنا أحمد بن كامل، قال: أبنا محمد بن سعد العوفي، قال: حدثني أبي قال: بنا عمي الحسين بن الحسن بن عطية، قال: حدثني أبي عن جدي عن ابن عباس رضي الله عنهما : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ وهو الشيخ الكبير كان يطيق صيام رمضان وهو شاب فكبر وهو عليه لا يستطيع صومه فليتصدق على مسكين واحد لكل يوم أقط ،
وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: أبنا بشران قال: أبنا إسحاق الكاذي، قال بنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي، قال: بنا روح قال: بنا زكريا بن إسحاق، قال: بنا عمرو بن دينار عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقَونَهُ فِدْيَةٌ ) قال: ليست بمنسوخة وهو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعما مكان كل يوم مسكينا .
أخبرنا أبو بكر العامري، قال: أبنا علي بن الفضل، قال: أبنا بن عبد الصمد، قال: أبنا عبد الله بن أحمد، قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قال: أبنا عبد الحميد، قال: أبنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة، قال: كان ابن عباس يقول: لم ينسخ قال عبد الحميد : وأخبرنا النضر بن شميل، قال: ابنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قال: هم الذي يكلفونه ولا يطيقونه هو الشيخ والشيخة ،
قال عبد الحميد وأخبرنا إبراهيم عن أبيه عن عكرمة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قال: هو الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام يطعم عنه لكل يوم مسكين ،
وقد روى قتادة عن عكرمة قال: نـزلت في الحامل والمرضع ،
وقد أخبرنا ابن الحصين، قال: أبنا أبو طالب بن غيلان، قال: أبنا أبو بكر الشافعي، قال: أبنا إسحاق بن إبراهيم بن الحسن، قال: بنا موسى بن مسعود النهدي، قال: بنا سفيان الثوري، عن منصور عن مجاهد، قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقرؤها (وعلى الذين "يطوقونه") قال: الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام يطعم عنه وبالإسناد حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب (وعلى الذين "يطوقونه") قال: الشيخ الكبير الذي يصوم فيعجز والحامل إن اشتد عليها الصوم يطعمان لكل يوم مسكينا .
قلت : هذه القراءة لا يلتفت إليها لوجوه :
أحدها: أنها شاذة خارجة عما اجتمع عليه المشاهير فلا يعارض ما تثبت الحجة بنقله.
والثاني: أنها تخالف ظاهر الآية، لأن الآية تقتضي إثبات الإطاقة لقوله:  وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ وهذه القراءة تقتضي نفيها.
والثالث: إن الذين يطيقون الصوم ويعجزون عنه ينقسمون إلى قسمين :
أحدهما: من يعجز لمرض أو لسفر، أو لشدة جوع أو عطش فهذا يجوز له الفطر ويلزمه القضاء من غير كفارة.
والثاني: من يعجز لكبر السن "فهذا يلزمه الكفارة من غير قضاء، وقد يجوز الإفطار للعذر لا للعجز" ثم يلزمه القضاء والكفارة كما نقول في الحامل والمرضع إذا خافتا على الولد، وهذا كله ليس بمستفاد من الآية إنما المعتمد فيه على السنة وأقوال الصحابة.
فعلى هذا البيان يكون النسخ أولى بالآية من الإحكام، يدل على ما قلنا قوله تعالى في تمام الآية: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ وغير جائز أن يعود هذا الكلام إلى المرضى والمسافرين ولا إلى الشيخ الكبير ولا إلى الحامل والمرضع إذا خافتا على الولد، لأن الفطر في حق هؤلاء أفضل من الصوم من جهة أنهم قد نهوا أن يعرضوا أنفسهم للتلف، وإنما عاد الكلام إلى الأصحاء المقيمين خيروا بين الصوم والإطعام فانكشف بما أوضحنا أن الآية منسوخة. قال أبو عبيد القاسم بن سلام لا تكون الآية على القراءة الثانية، وهي: يُطِيقُونَهُ إلا منسوخة .



كاتب المقالة : الشيخ / محمد فرج الأصفر
تاريخ النشر : 12/10/2010
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com