ضحايا وجناة.. من بقايا عصر الاستبداد


لمن لا يزالون يدافعون عن رموز عصور الاستبداد أو الأنظمة البائدة في المنطقة العربية، نهدي لهم هذه القصة، من بلد عربي ثوري، قصة مروعة من المؤكد أنها تتكرر بسيناريوهات أخرى في بلدان مستبدة لا تبعد كثيرًا عن ذلك البلد، فعاقبة الاستبداد واحدة وإن اختلفت تفاصيلها، فهذه القصة المروعة تجسد بصورة كاملة ملامح عصر الاستبداد في مصر القديمة إبان حكم مبارك، بالرغم من أن فصولها حدثت قبل الثورة واستكملت حلقاتها بعدها، ولكنها تحمل بامتياز كل سمات عصر ما قبل الثورة المصرية.

تلك القصة نشرتها جريدة الشروق المصرية، حيث قام فيها ثلاثة من القتلة العتاة بقتل 16 شخصًا بدم بارد من أجل المال على مدار ثلاث سنوات كاملة، قتلوا فيها شبابًا وأطفالاً، كان ثمن الإنسان لديهم هو خمسة آلاف جنيه، أو ما يعادل أقل من ألف دولار، مقسمة على الثلاثة الأشقياء، إذن كانت إراقة دماء بريئة معصومة تساوي لدى كل منهم ما يقارب 300 دولار، هي بالأحرى كانت ترمى تحت أقدامقدام راقصة في مكان ما أثناء ذبح أولئك الفقراء الأبرياء، أو ثمن عشاء لأحد الأثرياء في بقعة ربما ليست بعيدة أيضًا عن مكان مقتل هؤلاء المغدورين الذين قتلهم نظام مبارك قبل أن يقتلهم هؤلاء الجناة الثلاثة.

وملخص تلك القصة هو أن ثلاثة مجرمين كانوا يستدرجون سائقي التوك توك ـ دراجة بخارية ذات ثلاث عجلات تقل الركاب من مكان إلى آخر ـ إلى مناطق نائية نظير إغراء السائق بحفنة من المال، فيوافق السائق ـ الفقير على الأرجح، الأجير على التوك توك في معظم الأحيان ـ على الفور، ولا يعلم أنه سيكون ضحية لتلك العصابة التي تجردت من كل المشاعر الإنسانية، حيث إنهم يقتادون ضحاياهم إلى منطقة نائية ثم ينهالون عليه ضربًا بقادوم بضربه على الرأس أولاً، ثم طعنه في الرقبة والبطن، ثم إحراق جثته إن أمكن، ثم بيع التوك توك بخمسة آلاف جنيه لأحد التجار، وهذا التوك توك غالبًا بدون لوحات وغير مسجل، ويشتريها تاجر بذلك الثمن ليبيعها إلى آخرين بسعر أعلى، بدون أوراق ثبوتية، مما يدل على أن ذلك التاجر كان يعلم بطريقة ما أن تلك المركبات مسروقة على الأقل، ومقترنة بها جريمة على الأكثر.

وتلك القصة بها دلالات كثيرة كاشفة عن ملامح حقبة الاستبداد السوداء لعصر مبارك ـ وكل مبارك آخر في المنطقة ـ فإفساده للتعليم أخرج شبابًا جاهلاً عاطلاً يبحث عن لقمة العيش بصعوبة شديدة، بعضهم ينتقل بين مهن موسمية، وبعضهم يفشل فيلجأ إلى الجريمة، فهم بلا مقومات تعليمية أو مهنية أو تدريبية، وضعف الاقتصاد وغياب العدالة الاجتماعية جعل كبار المسئولين هم كبار اللصوص أيضًا: سيطروا على النفوذ والثروة والسلطة، وبرغم من أنهم في الأعم الأغلب لا  يدرون كيف ينفقون أموالهم الطائلة التي ربما لايعلمون عددها، إلا أنهم في سباق محموم دائمًا للبحث عن المزيد، باعوا الأوطان لأعداء الأوطان، بعد أن شروها بثمن بخس بالرشى والفساد وأكل أموال الناس بالباطل، فأصبح الشعب منقسم إلى فئتين: فئة جائعة جاهلة مريضة منقادة، وفئة أخرى ثرية مستبدة فاسدة قائدة، تركت شعبها يئن تحت وطأة الجوع ويذبح بعضهم بعضًا في الطرقات بلا رحمة كالوحوش الضارية في البرية.

فتغييب نظام مبارك للمؤسسة الدينية المخلصة وتدجينها وجعلها أداة للنظام أدى إلى عدم قيامها بدورها الأساسي، ألا وهو نشر الخير والرحمة والعدل والإخاء والنور المبين الذي أنزله الله بين الناس، فتحولوا إلى كائنات أخرى غير البشر، فتراهم يقتلون شابًا في مقتبل عمره خرج للبحث عن مال لعلاج أمه المريضة بالقلب مثل حالة ذلك المغدور الأخير، لأنه لم يجد رعاية ولا تأمين صحي يكفل لها العلاج الكريم بدون أن تتسول إلى يد طبيب لعلاجها وتقف في طوابير طويلة انتظارًا لدورها في مصحات الفقراء الذين كان يعاملهم النظام السابق مثل هتلر وكأنهم جنس غير سامي يجب إبادتهم من أجل الحفاظ على نقاء نوع الأثرياء وأصحاب النفوذ، فتحول الفقراء إلى حطب يحرقون من أجل تدفئة أوصال الأثرياء وأصحاب النفوذ في دولة الظلم والاستبداد.

كما أن غياب العدل والقانون والأمن ـ سوى أمن النظام ـ جعل سائقي التوك توك هؤلاء يعيثون في الأرض فسادًا هم أيضًا بدون التزام بقانون أو ترخيص لتلك المركبة، فهم يسيرون بها بدون لوحات معدنية والشرطة كانت تعلم ذلك، وكانوا هم أنفسهم يرتكبون الكثير من الحوادث والجرائم بدون أن يكتشفهم أحد، فلا ترخيص لديهم للقيادة ولا ترخيص للمركبة، وهو الشيء ذاته الذي كان يغري هؤلاء القتلة فتلك المركبات لايمكن تتبعها لأنها بلا لوحات، في حالة من الفوضى التامة؛ حيث إن النظام كان يسخّر الأمن لتمرير مشروع الطاغية بتوريث الحكم لابنه، وكانت كل مؤسسات الدولة تعمل على تنفيذ هذا الهدف، وكذلك كل مقدرات ومؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة الأمنية، التي كانت مشغولة بأمن النظام ولم تلتفت إلى أمن المواطن، وتركوهم يقتلون بعضهم بعضًا لكي يعيش زعيم العصابة الجديد ابن الزعيم.

لقد قام هؤلاء الأشقياء الثلاثة بقتل 16 سائقًا نظير 300 دولار عن كل "رأس"؛ واستمرت جرائمهم منذ ثلاث سنوات قتلوا فيها ذلك العدد من الأبرياء وكانت الشرطة في سبات عميق، وكأن الأمر لا يعنيها، وتلك القصة كاشفة لأهم معالم دولة الاستبداد، والثمن الباهظ الذي يدفع نظير تخلي الشعوب عن التحكم في مصائرها، ونظير الخنوع للاستبداد والفساد، في تلك الدولة التي كانت من أكثر الدول ظلمًا وفسادًا على الإطلاق.

فمن المؤكد أن الظلم وصل مداه في كل من مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن، تلك الدول التي شهدت ثورات حاشدة ضد أنظمتها؛ فقد أجمعت شعوب تلك الدول على أنهم قد وصلوا إلى الحضيض، وكما قال أحد الساسة أنه لم يعد هناك "وراء" ليذهبوا إليه فقد وصلوا إلى القاع، وهنا كانت تحركات تلك الجماهير الحاشدة التي نجح بعضها في إزاحة حكامهم الفاسدين، في حين أن الآخرين في طريقهم إلى السير في ذات الطريق التي سبق إليها مبارك وابن علي، ومن المؤكد أن حادثة مصر قد وقع مثلها في معظم بلداننا العربية والإسلامية التي تئن تحت حكم طاغية ما بصورة مطابقة لما ترك عليه مبارك شعبه، ولكن تلك الثورات العربية تثبت أننا لا نزال أحياء، وأن الحكام الفاسدين فشلوا في أن يغيّبوا شعوبهم، وأن الله عز وجل ـ كما وعد وأقسم بعزته تعالى ـ سينصر المظلوم ولو بعد حين.

إن الشعوب العربية كانت تئن تحت حكم الطغاة في تلك البلدان وبعدت عن تعاليم الإسلام بسبب تلك الأوضاع  المأساوية؛ وما جاء الإسلام إلا ليحق الحق ويعلي من قيم العدل والمساواة ويقضي على الظلم والفساد والقهر والاستعباد، فالفقر قرين الكفر كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والفسوق والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وضيق الأرزاق"، ويبدو أن حكام تلك البلدان البائسة كانوا يطبقون نقيض دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فتلك الثنائيات التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم تجسدت كلها في حادثة ذلك الفقير القتيل في بر مصر، ولكن الله لطف بعباده هناك وأعانهم على إزاحة الطاغية، بعد أن اتفقوا بجميع أطيافهم على نبذ الظلم والاعتصام بحبل الله للقضاء على الظالم الذين لم يكن يفرق بينهم في الاستبداد.

واللافت في تلك الحادثة أن الشرطة المصرية تحركت ـ في عصر ما بعد الثورة ـ لنجدة أهل  الفقير القتيل، بعد أن تقدموا ببلاغات للشرطة، فتحركت وقامت بعمل تحرياتها وتتبعت هاتفه المحمول الذي سرقه الجناة، وأخذت عينات من "الدي إن إيه" له وطابقتها بالجثة التي وجدتها بعد ذلك، وهو ما يعني تغيرًا ملحوظًا في قواعد عمل الشرطة المصرية فيما بعد الثورة التي تحركت لنجدة أولئك المعدومين من أهل القتيل الذين هرعوا إليها، وأن الله غير ما بقوم مصر إلى الأفضل بعدما غيروا ما بأنفسهم، وأن بركة الاجتماع على نبذ الظلم أثمرت في النهاية في القبض على ذلك التنظيم الإجرامي، وهي إحدى ثمرات تلك الثورة المباركة التي لا تزال معظم ثمارها مخبوءة حتى الآن في انتظار تحقيق وعد الله لنصرة المظلومين، ولو بعد حين.

فلا يزال أمام الشعوب الثورية طريق طويل من أجل استعادة أوطانهم ودولتهم الراشدة، التي تقام على العدل وعلى الإحسان بين الناس، وعلى التكافل وعلى امتناع البشر عن الفحشاء والمنكرات بكافة أنواعها، والبغي على بعضهم البعض وسفك دماء الفقراء، وهو ما جمعه الله تعالى حيث يقول في محكم التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.



كاتب المقالة : محمد سليمان الزواوي
تاريخ النشر : 29/06/2011
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com