فرسان بالنهار رهبان بالليل (5) سعد بن أبي وقاص


فرسان بالنهار رهبان بالليل

( 5 )

سعد بن أبي وقاص

لعلو الهمة والتشبه بهؤلاء الرجال الذين ذاقوا أصناف العذاب وترك الأهل والأموال والضيعات والبلدان من أجل أعلاء كلمه الله ورفع شأن هذا الدين ؛ فإن بيان فضلهم والله والله إنه لمن الدين ونحن نتقرب إلي الله بسيرهم وبحبهم ونسأل الله أن يحشرنا معهم ومع الحبيب المصطفي .

من هو ؟

هو سعد بن مالك (أبي وقاص) بن أهيب يقال وهيب بن عبد مناف بن زهرة من كلاب أبو اسحاق الزهري ويلتقي مع النبي في كلاب بن مرة .

وأمه حمنه بنت سفيان بن آميه بن عبد شمس وقيل حمنه بنت أبي سفيان ابن أميه .

قصة إسلامة

أسلم رضي الله عنه بعد 6 وقيل بعد 4 ، وكان عمره عندما أسلم سبعه عشره سنه ، وروي عنه أنه قال : مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ ،

وقال : أسلمت قبل ان تفرض الصلاة ،

وأخرج البخاري في صحيحه : حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : "سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ : (مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ)"

قالوا عنه

يَوْمَ أُحُدٍ يَقُولُ : " ارْمِ سَعْدُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي "

رسول الله

هَذَا خَالِي، فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ

رسول الله

الْلَّهُمَّ سَدِّدْ رَمَيْتَهُ وَاجِبْ دَعْوَتَهُ

رسول الله

لحظات من حياته

اذا رمى في الحرب عدوّا أصابه .. واذا دعا الله دعاء أجابه ..!!

وكان، وأصحابه معه، يردّون ذلك الى دعاء الرسول له .. فذات يوم وقد رأى الرسول منه ما سرّه وقرّ عينه ، دعا له هذه الدعوة المأثورة ..

"الْلَّهُمَّ سَدِّدْ رَمَيْتَهُ وَاجِبْ دَعْوَتَهُ".

وهكذا عرف بين اخوانه وأصحابه بأن دعوته كالسيف القاطع، وعرف هو ذلك نفسه وأمره، فلم يكن يدعو على أحد إلا مفوّضا الى الله أمره.

ومن أخباره ما يرويه عامر بن سعد فيقول :

"أقلقت الأنباء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، عندما جاءته تترى بالهجمات الغادرة التي تشنها قوات الفرس على المسلمين .. وبمعركة الجسر التي ذهب ضحيتها في يوم واحد أربعة آلاف شهيد .. وبنقض أهل العراق عهودهم، والمواثيق التي كانت عليهم .. فقرر أن يذهب بنفسه ليقود جيوش المسلمين، في معركة فاصلة ضد الفرس .

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : وَرَكِبَ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةَ فِي الْجُيُوشِ مِنَ الْمَدِينَةِ ، فَنَزَلَ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ : صِرَارٌ . فَعَسْكَرَ بِهِ عَازِمًا عَلَى غَزْوِ الْعِرَاقِ بِنَفْسِهِ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وِسَادَاتِ الصَّحَابَةِ ، ثُمَّ عَقَدَ مَجْلِسًا لِاسْتِشَارَةِ الصَّحَابَةِ فِيمَا عَزَمَ عَلَيْهِ ،

وَنُودِيَ : إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ . وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ ، فَقَدِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ ، فَكُلُّهُمْ وَافَقَهُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الْعِرَاقِ ، إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ : إِنِّي أَخْشَى إِنْ كُسِرْتَ أَنْ تُضْعِفَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَبْعَثَ رَجُلًا ، وَتَرْجِعَ أَنْتَ إِلَى الْمَدِينَةِ .

 فَأَرْفَأَ عُمَرُ  وَالنَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَاسْتَصْوَبُوا رَأْيَ ابْنِ عَوْفٍ .

فَقَالَ عُمَرُ : فَمَنْ تَرَى أَنْ نَبْعَثَ إِلَى الْعِرَاقِ ؟ فَقَالَ : قَدْ وَجَدْتُهُ .

 قَالَ : وَمَنْ هُوَ ؟ قَالَ : الْأَسَدُ فِي بَرَاثِنِهِ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الزُّهْرِيُّ .

 فَاسْتَجَادَ قَوْلَهُ وَأَرْسَلَ إِلَى سَعْدٍ ، فَأَمَّرَهُ عَلَى الْعِرَاقِ"

فمن هو الأسد في براثنه ..؟

من هذا الذي كان اذا قدم على الرسول وهو بين أصحابه حياه وداعبه قائلا :

"هَذَا خَالِي، فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ"..!!

إنه سعد بن أبي وقاص.. جده أهيب بن مناف ، عم السيدة آمنة أم رسول الله ..

لقد عانق الاسلام وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان اسلامه مبكرا، وانه ليتحدث عن نفسه فيقول :

" .. ولقد أتى عليّ يوم ، واني لثلث الإسلام"..!!

يعني أنه كان ثالث أول ثلاثة سارعوا الى الاسلام ..

ففي الأيام الأولى التي بدأ الرسول يتحدث فيها عن الله الأحد ، وعن الدين الجديد الذي يزف الرسول بشراه، وقبل أن يتخذ النبي من دار الأرقم ملاذا له ولأصحابه الذين بدءوا يؤمنون به.. كان سعد ابن أبي وقاص قد بسط يمينه الى رسول الله مبايعا ..

وانّ كتب التاريخ والسّير لتحدثنا بأنه كان أحد الذين أسلموا باسلام أبي بكر وعلى يديه ..

ولعله يومئذ أعلن اسلامه مع الذين أعلنوه باقناع أبي بكر ايّاهم، وهم عثمان ابن عفان ، والزبير ابن العوّام ، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله.

ومع هذا لا يمنع سبقه بالاسلام سرا..

وان لسعد بن أبي وقاص لأمجاد كثيرة يستطيع أن يباهي بها ويفخر ..

بيد أنه لم يتغنّ من مزاياه تلك، الا بشيئين عظيمين..

أولهما : أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله، وأول من رمي أيضا..

وثانيهما: أنه الوحيد الذي افتداه الرسول بأبويه فقال له يوم أحد :

"ارْمِ سَعْدُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي"..

أجل كان دائما يتغنى بهاتين النعمتين الجزيلتين، ويلهج يشكر الله عليهما فيقول :

" والله اني لأوّل رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله".

ويقول علي ابن أبي طالب :

" ما سمعت رسول الله يفدي أحدا بأبويه الا سعدا، فاني سمعته يوم أحد يقول: "ارْمِ سَعْدُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي"..

كان سعد يُعدّ من أشجع فرسان العرب والمسلمين، وكان له سلاحان رمحه ودعاؤه ..

اذا رمى في الحرب عدوّا أصابه .. واذا دعا الله دعاء أجابه..!!

وكان، وأصحابه معه، يردّون ذلك الى دعاء الرسول له.. فذات يوم وقد رأى الرسول منه ما سرّه وقرّ عينه، دعا له هذه الدعوة المأثورة..

"الْلَّهُمَّ سَدِّدْ رَمَيْتَهُ وَاجِبْ دَعْوَتَهُ"".

وهكذا عرف بين اخوانه وأصحابه بأن دعوته كالسيف القاطع، وعرف هو ذلك نفسه وأمره، فلم يكن يدعو على أحد إلا مفوّضا الى الله أمره.

من ذلك ما يرويه عامر بن سعد فيقول :

" رأى سعد رجلا يسب علياً، وطلحة والزبير فنهاه، فلم ينته، فقال له: إذن أدعو عليك، فقال ارجل: أراك تتهددني كأنك نبي..!!

فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين، ثم رفع يديه وقال: اللهم ان كنت تعلم أن هذا الرجل قد سبّ أقواما سبقت لهم منك الحسنى، وأنه قد أسخطك سبّه ايّاهم، فاجعله آية وعبرة..

فلم يمض غير وقت قصير، حتى خرجت من احدى الدور ناقة نادّة لا يردّها شيء حتى دخلت في زحام الناس، كأنها تبحث عن شيء، ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها.. وما زالت تتخبطه حتى مات"..

ان هذه الظاهرة، تنبىء أوّل ما تنبىء عن شفافية روحه، وصدق يقينه، وعمق اخلاصه.

وكذلكم كان سعد، روحه حر.. ويقينه صلب.. واخلاصه عميق.. وكان دائب الاستعانة على دعم تقواه باللقمة الحلال، فهو يرفض في اصرار عظيم كل درهم فيه اثارة من شبهة..

ولقد عاش سعد حتى صار من أغنياء المسلمين وأثريائهم ، ويوم مات خلف وراءه ثروة غير قليلة .. ومع هذا فاذا كانت وفرة المال وحلاله قلما يجتمعان ، فقد اجتمعا بين يدي سعد .. اذ آتاه الله الكثير، الحلال، الطيب..

وقدرته على جمع المال من الحلال الخالص، يضاهيها، قدرته في إنفاقه في سبيل الله..

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ : "عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ  فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَىْ مَالِي قَالَ  : ‏"لاَ "‏ ‏.‏ قَالَ : قُلْتُ : أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ ‏ : "لاَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ"‏ ‏.‏

قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ  :‏ "‏إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ ""‏ ‏.‏

 ولم يظل سعد أبا لبنت واحدة.. فقد رزق بعد هذا أبناء آخرين ..

وكان سعد كثير البكاء من خشية الله .

وكان اذا استمع للرسول  يعظهم، ويخطبهم، فاضت عيناه من الدمع حتى تكاد دموعه تملؤ حجره ..

وكان رجلا أوتي نعمة التوفيق والقبول ..

ذات يوم والنبي جالس مع أصحابه، رنا بصره الى الأفق في إصغاء من يتلقى همسا وسرا.. ثم نظر في وجوه أصحابه وقال  لهم :

"يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"..

وأخذ الأصحاب يتلفتون صوب كل اتجاه يستشرفون هذا السعيد الموفق المحظوظ ..

وبعد حين قريب، طلع عليهم سعد بن أبي وقاص.

ولقد لاذ به فيما بعد عبد الله بن عمرو بن العاص سائلا اياه في الحاح أن يدله على ما يتقرّب الى الله من عمل وعبادة، جعله أهل لهذه المثوبة، وهذه البشرى .. فقال له سعد :

" لا شيء أكثر مما نعمل جميعا ونعبد ..

غير أني لا أحمل لأحد من المسلمين ضغنا ولا سوءا".

هذا هو الأسد في براثنه ، كما وصفه عبد الرحمن بن عوف..

وهذا هو الرجل الذي اختاره عمر ليوم القادسية العظيم..

كانت كل مزاياه تتألق أما بصيرة أمير المؤمنين وهو يختاره لأصعب مهمة تواجه الاسلام والمسلمين..

انه مستجاب الدعوة.. اذا سأل الله النصر أعطاه اياه..

زانه عفّ الطعمة.. عف اللسان.. عف الضمير..

وانه واحد من أهل الجنة.. كما تنبأ له الرسول  ..

وانه الفارس يوم بدر. والفارس يوم أحد.. والفارس في كل مشهد شهده مع رسول الله  ..

وأخرى، لا ينساها عمر ولا يغفل عن أهميتها وقيمتها وقدرها بين لخصائص التي يجب أن تتوفر لكل من يتصدى لعظائم الأمور، تلك هي صلابة الايمان..

إن عمر لا ينسى نبأ سعد مع أمه يوم أسلم واتبع الرسول ..

يومئذ أخفقت جميع محاولات رده وصده عن سبيل الله .. فلجأت أمه الى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه الى وثنية أهله وذويه..

لقد أعلنت أمه صومها عن الطعام والشراب، حتى يعود سعد الى دين آبائه وقومه، ومضت في تصميم مستميت تواصل إضرابها عن الطعام والشراب حتى أوشكت على الهلاك..

كل ذلك وسعد لا يبالي ، ولا يبيع إيمانه ودينه بشيء، حتى ولو يكون هذا الشيء حياة أمه..

وحين كانت تشرف على الموت ، أخذه بعض أهله إليها ليلقي عليها نظرة وداع مؤملين أن يرق قلبه حين يراها في سكرة الموت ..

وذهب سعد ورأى مشهد يذيب الصخر..

بيد أن ايمانه بالله ورسوله  كان قد تفوّق على كل صخر، وعلى كل لاذ ، فاقترب بوجهه من وجه أمه ، وصاح بها لتسمعه :

يا أُمَّه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا لشيء ..

فكلي ان شئت أو لا تأكلي"..!!

وعدلت أمه عن عزمهتا.. ونزل الوحي يحيي موقف سعد ، ويؤيده فيقول :

(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) لقمان :15

أليس هو الأسد في براثنه حقا..؟؟

اذن فليغرس أمير المؤمنين لواء القادسية في يمينه. وليرم به الفرس المجتمعين في أكثر من مائةألف من المقاتلين المدربين. المدججين بأخطر ما كانت تعرفه الأرض يومئذ من عتاد وسلاح .. تقودهم أذكى عقول الحرب يومئذ، وأدهى دهاتها..

 قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : "وَأَوْصَاهُ عُمَرُ فَقَالَ : يَا سَعْدَ بَنِي وُهَيْبٍ ، لَا يَغُرَّنَّكَ مِنَ اللَّهِ أَنْ قِيلَ : خَالُ رَسُولِ اللَّهِ  وَصَاحِبُهُ . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ نَسَبٌ إِلَّا بِطَاعَتِهِ ، فَالنَّاسُ شَرِيفُهُمْ وَوَضِيعُهُمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ سَوَاءٌ ; اللَّهُ رَبُّهُمْ ، وَهُمْ عِبَادُهُ ، يَتَفَاضَلُونَ بِالْعَافِيَةِ وَيُدْرِكُونَ مَا عِنْدَ اللَّهِ بِالطَّاعَةِ ، فَانْظُرِ الْأَمْرَ الَّذِي رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ  مُنْذُ بُعِثَ إِلَى أَنْ فَارَقَنَا فَالْزَمْهُ ; فَإِنَّهُ الْأَمْرُ ، هَذِهِ عِظَتِي إِيَّاكَ ، إِنْ تَرَكْتَهَا وَرَغِبْتَ عَنْهَا حَبِطَ عَمَلُكَ وَكُنْتَ مِنَ الْخَاسِرِينَ .

وَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ فِرَاقَهُ قَالَ لَهُ : إِنَّكَ سَتُقْدِمُ عَلَى أَمْرٍ شَدِيدٍ ، فَالصَّبْرَ الصَّبْرَ عَلَى مَا أَصَابَكَ وَنَابَكَ تُجْمَعْ لَكَ خَشْيَةُ اللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ خَشْيَةَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ فِي أَمْرَيْنِ ; فِي طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ ، وَإِنَّمَا طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ بِبُغْضِ الدُّنْيَا وَحُبِّ الْآخِرَةِ ، وَإِنَّمَا عِصْيَانُ مَنْ عَصَاهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا وَبُغْضِ الْآخِرَةِ ، وَلِلْقُلُوبِ حَقَائِقُ يُنْشِئُهَا اللَّهُ إِنْشَاءً ، مِنْهَا السِّرُّ وَمِنْهَا الْعَلَانِيَةُ ;

فَأَمَّا الْعَلَانِيَةُ فَأَنْ يَكُونَ حَامِدُهُ وَذَامُّهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً ،

وَأَمَّا السِّرُّ فَيُعْرَفُ بِظُهُورِ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ ، وَبِمَحِبَّةِ النَّاسِ ، فَلَا تَزْهَدْ فِي التَّحَبُّبِ ،

فَإِنَّ النَّبِيِّينَ قَدْ سَأَلُوا مَحَبَّتَهُمْ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا حَبَّبَهُ ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا بَغَّضَهُ ، فَاعْتَبِرْ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَتِكَ عِنْدَ النَّاسِ .

قَالُوا : فَسَارَ سَعْدٌ نَحْوَ الْعِرَاقِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ ; ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ، وَأَلْفٍ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ . وَقِيلَ : فِي سِتَّةِ آلَافٍ . وَشَيَّعَهُمْ عُمَرُ مِنْ صِرَارٍ إِلَى الْأَعْوَصِ"

ثم يقول له:

" اكتب اليّ بجميع أحوالكم.. وكيف تنزلون..؟

وأين يكون عدوّكم منكم..

واجعلني بكتبك اليّ كأني أنظر اليكم"..!!

ثُمَّ سَارَ سَعْدٌ إِلَى الْعِرَاقِ ، وَرَجَعَ عُمَرُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَلَمَّا انْتَهَى سَعْدٌ إِلَى نَهْرِ زَرُودَ ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَجْتَمِعَ بِالْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ إِلَّا الْيَسِيرُ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُشْتَاقٌ إِلَى صَاحِبِهِ ، انْتَقَضَ جُرْحُ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ الَّذِي كَانَ جُرِحَهُ يَوْمَ الْجِسْرِ ، فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْجَيْشِ بَشِيرَ بْنَ الْخَصَاصِيَةِ ،

وَلَمَّا بَلَغَ سَعْدًا مَوْتُهُ تَرَحَّمَ عَلَيْهِ وَتَزَوَّجَ زَوْجَتَهُ سَلْمَى ، وَلَمَّا وَصَلَ سَعْدٌ إِلَى مَحَلَّةِ الْجُيُوشِ انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَتُهَا وَإِمْرَتُهَا ، وَلَمْ يَبْقَ بِالْعِرَاقِ أَمِيرٌ مِنْ سَادَاتِ الْعَرَبِ إِلَّا تَحْتَ أَمْرِهِ ، وَأَمَدَّهُ عُمَرُ بِأَمْدَادٍ أُخَرَ حَتَّى اجْتَمَعَ مَعَهُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ ثَلَاثُونَ أَلْفًا ، وَقِيلَ : سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ .

وَقَالَ عُمَرُ : وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ مُلُوكَ الْعَجَمِ بِمُلُوكِ الْعَرَبِ .

وَكَتَبَ إِلَى سَعْدٍ أَنْ يَجْعَلَ الْأُمَرَاءَ عَلَى الْقَبَائِلِ ، وَالْعُرَفَاءَ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا عَلَى الْجُيُوشِ ، وَأَنْ يُوَاعِدَهُمْ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ ،

 فَفَعَلَ ذَلِكَ سَعْدٌ ; عَرَّفَ الْعَرْفَاءَ ، وَأَمَّرَ عَلَى الْقَبَائِلِ ، وَوَلَّى عَلَى الطَّلَائِعِ ، وَالْمُقَدِّمَاتِ ، وَالْمُجَنِّبَاتِ وَالسَّاقَاتِ ، وَالرَّجَّالَةِ ، وَالرُّكْبَانِ ، كَمَا أَمَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ .

وكَتَبَ إِلَيْهِ سَعْدٌ يَصِفُ لَهُ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْمَنَازِلِ وَالْأَرَاضِي بِحَيْثُ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهَا ،

وَكَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ بِأَنَّ الْفُرْسَ قَدْ جَرَّدُوا لِحَرْبِهِ رُسْتُمَ وَأَمْثَالَهُ ، فَهُمْ يَطْلُبُونَنَا وَنَحْنُ نَطْلُبُهُمْ ، وَأَمْرُ اللَّهِ بَعْدُ مَاضٍ ، وَقَضَاؤُهُ مُسَلَّمٌ لَنَا إِلَى مَا قَدَّرَ لَنَا وَعَلَيْنَا ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَ الْقَضَاءِ وَخَيْرَ الْقَدْرِ فِي عَافِيَةٍ ،

وَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ : قَدْ جَاءَنِي كِتَابُكَ وَفَهِمْتُهُ ، فَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ وَمَنَحَكَ اللَّهُ أَدْبَارَهُمْ ، فَإِنَّهُ قَدْ أُلْقِيَ فِي رَوْعِي أَنَّكُمْ سَتَهْزِمُونَهُمْ ، فَلَا تَشُكَّنَّ فِي ذَلِكَ ، فَإِذَا هَزَمْتَهُمْ فَلَا تَنْزِعْ عَنْهُمْ حَتَّى تَقْتَحِمَ عَلَيْهِمُ الْمَدَائِنَ ; فَإِنَّهُ خَرَابُهَا ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ . وَجَعَلَ عُمَرُ يَدْعُو لِسَعْدٍ خَاصَّةً وَلَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً .
وَلَمَّا بَلَغَ سَعْدٌ الْعُذَيْبَ اعْتَرَضَ الْمُسْلِمِينَ جَيْشٌ لِلْفُرْسِ مَعَ شِيرْزَاذَ بْنِ آزَاذَوَيْهِ ، فَغَنِمُوا مِمَّا مَعَهُ شَيْئًا كَثِيرًا ، وَوَقَعَ مِنْهُمْ مَوْقِعًا كَبِيرًا ، فَخَمَّسَهَا سَعْدٌ ، وَقَسَمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا فِي النَّاسِ ، وَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَفَرِحُوا وَتَفَاءَلُوا ، وَأَفْرَدَ سَعْدٌ سَرِيَّةً تَكُونُ حِيَاطَةً لِمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْحَرِيمِ ، عَلَى هَذِهِ السَّرِيَّةِ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ .

 إن سعداً الفارس الذكي المقدام، خال رسول الله ، والسابق الى الاسلام، بطل المعارك والغزوات، والذي لا ينبو له سيف، ولا يزيغ منه رمح .. يقف على رأس جيشه في إحدى معارك التاريخ الكبرى، يقف وكأنه جندي عادي .. لا غرور القوة، ولا صلف الزعامة، يحملانه على الركون المفرط لثقته بنفسه.. بل هو يلجأ الى أمير المؤمنين في المدينة وبينهما أبعاد وأبعاد، فيرسل له كل يوم كتابا، ويتبادل معه والمعركة الكبرى على وشك النشوب، المشورة والرأي ...

ذلك أن سعدا يعلم أن عمر في المدينة لا يفتي وحده، ولا يقرر وحجه.. بل يستشير الذين حوله من المسلمين ومن خيار أصحاب رسول الله  .. وسعد لا يريد برغم كل ظروف الحرب، أن يحرم نفسه، ولا أن يحرم جيشه، من بركة الشورى وجدواها، لا سيّما حين يكون بين أقطابها عمر الملهم العظيم..

وينفذ سعد وصية عمر، فيرسل الى رستم قائد الفرس نفرا من صحابه يدعونه الى الله والى الاسلام ..

ويطول الحوار بينهم وبين قائد الفرس، وأخيرا ينهون الحديث معه اذ يقول قائلهم :

" ان الله اختارنا ليخرج بنا من يشاء من خلقه من الوثنية الى التوحيد ... ومن ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الحكام الى عدل الاسلام ..

فمن قبل ذلك منا، قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن قاتلنا قاتلناه حتى نفضي الى وعد الله .."

ويسأل رستم : وما وعد الله الذي وعدكم اياه..؟؟

فيجيبه الصحابي: "الجنة لشهدائنا، والظفر لأحيائنا".

ويعود ليوفد الى قائد المسلمين سعد ، ليخبروه أنها الحرب..

وتمتلىء عينا سعد بالدموع..

لقد كان يود لو تأخرت المعركة قليلا، أو تقدمت قليلا.. فيومئذ كان مرضه قد اشتد عليه وثقلت وطأته.. وملأت الدمامل جسده حتى ما كان يستطيع أن يجلس، فضلا أن يعلو صهوة جواده ويخوض عليه معركة بالغة الضراوة والقسوة..!!

فلو أن المعركة جاءت قبل أن يمرض ويسقم، أولوأنها استأخرت حتى يبل ويشفى، اذن لأبلى فيها بلاءه العظيم.. أما الآن.. ولكن، لا، فرسول الله علمهم ألا يقول أحدهم: لو. لأن لو هذه تعني العجز، والمؤمن القوي لا يعدم الحيلة، ولا يعجز أبدا.

عنئذ هب الأسد في براثنه ووقف في جيشه خطيبا، مستهلا خطابه بالآية الكريمة :

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} الأنبياء 105-106.

وبعد فراغه من خطبته، صلى بالجيش صلاة الظهر، ثم استقبل جنوده مكبّرا أربعا : الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر ..

ودوّى الكن وأوّب مع المكبرين، ومد ذراعه كالسهم النافذ مشيرا الى العدو، وصاح في جنوده: هيا على بركة الله..

وصعد وهو متحاملا على نفسه وآلامه الى شرفة الدار التي كان ينزل بها ويتخذها مركزا لقيادته .. وفي الشرفة جلس متكئا على صدره فوق وسادة. باب داره مفتوح.. وأقل هجوم من الفرس على الدار يسقطه في أيديهم حيا أو ميتا.. ولكنه لا يرهب ولا يخاف..

دمامله تنبح وتنزف، ولكنه عنها في شغل، فهو من الشرفة يكبر ويصيح.. ويصدر أوامره لهؤلاء: أن تقدّموا صوب الميمنة.. ولألئك: أن سدوا ثغرات الميسرة.. أمامك يا مغيرة.. وراءهم يا جرير.. اضرب يا نعمان.. اهجم يا أشعث.. وأنت يا قعقاع.. تقدموا يا أصحاب محمد..!!

وكان صوته المفعم بقوة العزم والأمل، يجعل من كل جندي فردا، جيشا بأسره..

وتهاوى جنود الفرس كالذباب المترنّح .. وتهاوت معهم الوثنية وعبادة النار..!!

وطارت فلولهم المهزومة بعد أن رأوا مصرع قائدهم وخيرة جنودهم، وطاردهم كالجيش المسلم حتى نهاوند .. ثم المدائن فدخلوها ليحملوا ايوان كسرى وتاجه، غنيمة وفيئا..!!

وفي موقعة المدائن أبلى سعد بلاء عظيما..

وكانت موقعة المدائن، بعد موقعة القادسية بقرابة عامين، جرت خلالهما مناوشات مستمرة بين الفرس والمسلمين، حتى تجمع كل فلول الجيش الفارسي ويقاياه في المدائن نفسها، متأهبة لموقف أخير وفاصل..

وأدرك سعد أن الوقت سيكون بجانب أعدائه. فقرر أن يسلبهم هذه المزية.. ولكن أنّى له ذلك وبينه وبين المدائن نهر دجلة في موسم فيضانه وجيشانه ..

هنا موقف يثبت فيه سعد حقا كما وصفه عبد الرحمن بن عوف الأسد في براثنه..!!

ان إيمان سعد وتصميمه ليتألقان في وجه الخطر ، ويتسوّران المستحيل في استبسال عظيم ..!!

وهكذا أصدر سعد أمره الى جيشه بعبور نهر دجلة .. وأمر بالبحث عن مخاضة في النهر تمكّن من عبور هذا النهر.. وأخيرا عثروا على مكان لا يخلو عبوره من المخاطر البالغة..

وقبل أن يبدأ الجيش الجيش عملية المرور فطن القائد سعد الى وجوب تأمين مكان الوصول على الضفة الأخرى التي يرابط العطو حولها.. وعندئذ جهز كتيبتين ..

الأولى: واسمها كتيبة الأهوال وأمّر سعد عليها عاصم ابن عمرو ،

والثانية: اسمها الكتيبة الخرساء وأمّر عليها القعقاع ابن عمرو ..

وكان على جنود هاتين الكتيبتين أن يخوضوا الأهوال لكي يفسحوا على الضفة الأخرى مكانا آمنا للجيش العابر على أثرهم.. ولقد أدوا العمل بمهارة مذهلة..

ونجحت خطة سعد يومئذ نجاحا يذهل له المؤرخون ..

نجاحا أذهل سعد بن أبي وقاص نفسه ..

وأذهل صاحبه ورفيقه في المعركة سلمان الفارسي الذي أخذ يضرب كفا بكف دهشة وغبطة،

 ويذكرُ سلمانُ هذا الحديثِ ويُسْمِعَهُ سَعْدَاً وهوَ يرىَ زَبَدَ البحْرِ يتلاطَمُ مِنْ حَولِهِ، والخيل تعومُ بهم وسعدٌ يقولُ: "ذلكَ تقديرُ العزيزِ العليمِ، حسبُنَا اللهُ ونعمَ الوكيلُ، واللهِ لينصُرَنَّ اللهُ ولِيَّهُ، وليظْهِرَنَّ دِينَهُ، ولَيهزِمَنَّ اللهُ عَدوَهُ، إنْ لم يكنْ في الجيشِ بَغيٌ أو ذُنوبٌ تَغلبُ الحسنَاتِ".
قال له سلمان: "الإسلامُ جديد، ذُلّلت لهم –والله- البحور، كما ذُلّل لهم البر، أما والذي نفسُ سلمانَ بيدهِ، ليَخْرُجُنَّ منه أفواجاً كما دخَلوُهُ أفواجاً

وغطَى المسلمونَ سطحَ الماءِ، حتى ما عادَ يُرَىَ الشَاطِئِ، وعبرُوا وخرجُوا منهُ كما قالَ سلمانُ: "لم يَفقِدُوا شيئاً ولم يَغَرَقْ منهم أحدٌ".
ولقد سقط من أحد المقاتلين قدحه، فعز عليه أن يكون الوحيد بين رفاقه الذي يضيع منه شيء، فنادى في أصحابه ليعاونوه على انتشاله ، ودفعته موجة عالية الى حيث استطاع بعض العابرين التقاطه ..!!

ويوم ولى عمر سعدا إمارة العراق ، راح يبني للناس ويعمّر.. كوّف الكوفة ، وأرسى قواعد الإسلام في البلاد العريضة الواسعة ..

وذات يوم شكاه أهل الكوفة لأمير المؤمنين .. لقد غلبهم طبعهم المتمرّد ، فزعموا زعمهم الضاحك :"إن سعدا لا يحسن يصلي"..!!

عَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ، قَالَ: شَكَا أَهْلُ الكُوْفَةِ سَعْداً إِلَى عُمَرَـ لما كان واليا عليها ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّي.

فَقَالَ سَعْدٌ: أَمَّا أَنَا، فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِم صَلاَةَ رَسُوْلِ اللهِ صَلاَتَي العَشِيِّ، لاَ أَخْرِمُ مِنْهَا، أَرْكُدُ فِي الأُوْلَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الأُخْرَيَيْنِ.

فَقَالَ عُمَرُ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ.

فَبَعَثَ رِجَالاً يَسْأَلُوْنَ عَنْهُ بِالكُوْفَةِ، فَكَانُوا لاَ يَأْتُوْنَ مَسْجِداً مِنْ مَسَاجِدِ الكُوْفَةِ إِلاَّ قَالُوا خَيْراً، حَتَّى أَتَوْا مَسْجِداً لِبَنِي عَبْسٍ.

فَقَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو سعدَةَ: أَمَا إِذْ نَشَدْتُمُوْنَا بِاللهِ، فَإِنَّهُ كَانَ لاَ يَعْدِلُ فِي القَضِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَسِيْرُ بِالسَّرِيَّةِ.

فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِباً فَأَعْمِ بَصَرَهُ، وَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ.

قَالَ عَبْدُ المَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ يَتَعَرَّضُ لِلإِمَاءِ فِي السِّكَكِ، فَإِذَا سُئِلَ كَيْفَ أَنْتَ؟

يَقُوْلُ: كَبِيْرٌ مَفْتُوْنٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ.

و يروى أَنَّ سَعْداً خَطَبَهُمْ بِالكُوْفَةِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الكُوْفَةِ! أَيُّ أَمِيْرٍ كُنْتُ لَكُم؟

فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُكَ لاَ تَعْدِلُ فِي الرَّعِيَّةِ، وَلاَ تَقْسِمُ بِالسَّوِيِّةِ، وَلاَ تَغْزُو فِي السَّرِيَّةِ.

فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِباً فَأَعْمِ بَصَرَهُ، وَعَجِّلْ فَقْرَهُ، وَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ.

قَالَ : فَمَا مَاتَ حَتَّى عَمِيَ، فَكَانَ يَلْتَمِسُ الجُدُرَاتِ، وَافْتَقَرَ حَتَّى سَأَلَ، وَأَدْرَكَ فِتْنَةَ المُخْتَارِ، فَقُتِلَ فِيْهَا.

ويستدعيه عمر الى المدينة، فلا يغضب، بل يلبي نداءه من فوره ..

وبعد حين يعتزم عمر إرجاعه الى الكوفة، فيجيب سعد ضاحكا :

"أتمرني أن أعود الى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة"..؟؟

ويؤثر البقاء في المدينة ..

وحين اعتدي على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه، اختار من بين أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، ستة رجال، ليكون إليهم أمر الخليفة الجديد قائلا انه اختار ستة مات رسول الله وهو عنهم راض .. وكان من بينهم سعد بن أبي وقاص.

بل يبدو من كلمات عمر الأخيرة، أنه لو كان مختارا لخلافة واحدا من الصحابة لاختار سعدا ..

فقد قال لأصحابه وهو يودعهم ويوصيهم : "إن وليها سعد فذاك .. وان وليه غيره فليستعن بسعد".

ويمتد العمر بسعد .. وتجيء الفتنة الكبرى، فيعتزلها بل ويأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا إليه شيئا من أخبارها ..

وذات يوم تشرئب الأعناق نحوه ، ويذهب اليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ويقول له :

يا عم، ها هنا مائة ألف سيف يروك أحق الناس بهذا الأمر .

فيجيبه سعد :

"أريد من مائة ألف سيف، سيفا واحدا .. اذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا، واذا ضربت به الكافر قطع"..!!

ويدرك ابن أخيه غرضه، ويتركه في عزلته وسلامه ..

وحين انتهى الأمر لمعاوية ، واستقرت بيده مقاليد الحكم سأل سعدا : مالك لم تقاتل معنا ..؟؟

فأجابه: "اني مررت بريح مظلمة، فقلت: أخ .. أخ..

واتخذت من راحلتي حتى انجلت عني.."

فقل معاوية : ليس في كتاب الله أخ.. أخ.. ولكن قال الله تعالى :

{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } سورة الحجرات: 9. 

وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية.

أجابه سعد قائلا :" ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي".

وذات يوم من أيام الرابع والخمسين للهجرة، وقد جاوز سعد الثمانين، كان هناك في داره بالعقيق يتهيأ لقاء الله .

ويروي لنا ولده لحظاته الأخيرة فيقول :

"كان رأس أبي في حجري، وهو يقضي، فبكيت وقال : ما يبكيك يا بنيّ..؟؟

ان الله لا يعذبني أبدا وإني من أهل الجنة" ..!!

إن صلابة إيمانه لا يوهنها حتى رهبة الموت وزلزاله .

ولقد بشره الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو مؤمن بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام أوثق ايمان .. وإذا ففيما الخوف ..؟

"إن الله لا يعذبني أبدا، وإني من أهل الجنة" .

بيد أنه يريد أن يلقى الله وهو يحمل أروع وأجمل تذكار جمعه بدينه ووصله برسوله.. ومن ثمّ فقد أشار الى خزانته ففتوحها، ثم أخرجوا منها رداء قديما قي بلي وأخلق، ثم أمر أهله أن يكفنوه فيه قائلا :

"لقد لقيت المشركين فيه يوم بدر، ولقد ادخرته لهذا اليوم" ..!!

أجل، إن ذلك الثوب لم يعد مجرّد ثوب .. إنه العلم الذي يخفق فوق حياة مديدة شامخة عاشها صاحبها مؤمنا، صادقا شجاعا !!

وفوق أعناق الرجال حمل الى المدينة جثمانه، ليأخذ مكانه في سلام الى جوار ثلة طاهرة عظيمة من رفاقه الذين سبقوه الى الله ، ووجدت أجسامهم الكادحة مرفأ لها في تراب البقيع وثراه .

وداعا يا سعد ..!!

وداعا يا بطل القادسية ، وفاتح المدائن ، ومطفىء النار المعبودة في فارس الى الأبد ..!!



كاتب المقالة : الشيخ / محمد فرج الأصفر
تاريخ النشر : 07/11/2010
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com