فلننصف المرزوقي


سواء فاز المنصف المرزوقي برئاسة تونس، أم لم يفز، يظل الرجل علامة فارقة على خارطة التغيير في دول الربيع العربي، ذلك أن المنصف جسد، طوال فترة وجوده رئيسا لتونس، المعنى الكامل والحقيقي لأن تحكم الثورة، ولو مؤقتاً، عقب عقود من الاستبداد سقطت بفعل ثوري غير ناقص.

لقد مثل المرزوقي خلال رئاسته لتونس الثورة أملاً في نفوس جمهور التغيير العربي بأنه بالإمكان أن تصعد الثورة إلى سدة الحكم، تعبيراً عن إرادة التحول، من ديكتاتورية دولة الرجل الواحد والحزب الواحد والصوت الواحد، إلى دولة الديمقراطية والتعددية والحريات، فالرجل لم يأت من كهوف الدولة العميقة، ولم يكن يوماً جزءاً من النظام الساقط، بسلطته ومعارضته، بل شكل في الحالة التونسية، على نحو ناصع ومكتمل، النموذج الكامل للمعارض الحقيقي المنتمي لثورة شعبه، وليس ذلك المعارض الذي قرر أن يتملق الريح، ويمتزج بتفاعل جديد، لم يكن عنصرا أصيلا فيه.

ويمكنك القول إن المرزوقي مثل في مجمل مسيرة الثورة التونسية، حتى الآن، النصف الأول من محمد البرادعي في مصر، أو هو المعادل الموضوعي لبرادعي المعارضة والثورة، لا برادعي السلطة الحرام والانقلاب.

في كتابه "إنها الثورة يا مولاي"، يقول المنصف المرزوقي إنه من الثوابت التي تتردد عبر التاريخ، حتى تكاد تكون قوانين، أنه لا تقوم ثورة، إلا وقامت لها ثورة مضادة، وأنَّ لكل ثورة ثمن باهظ، وأن الثوار ليسوا من يجنون ثمار الثورة، وأنه لا بد أحيانًا من زمنٍ طويل حتى تحقق الثورة أهدافها"

ويبدو أن الرجل كان يقرأ كف تونس بعد ثورة الياسمين، حيث تشير كل التحركات السياسية التي تسبق جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة إلى أن منطق الصفقة يسود على معيار الثورة، وأن فقه المساومات والمواءمات يعلو على المبدأ الأخلاقي والثوري. وبالرغم من ذلك، يمضي المرزوقي لخوض المعركة، حتى النهاية، وسط أعاصير براغماتية عاتية، تكفي لدفع أي ثائر حقيقي للانسحاب إلى شواطئ الإحباط، كما فعل البرادعي مع أول اختبار حقيقي لصموده الثوري، وانسحب من سباق الانتخابات الرئاسية في ٢٠١٢، وآثر أن يخلد إلى التنظير، بدلاً من الاشتباك في النضال.

وإذا كانت الساعات الأخيرة قد أظهرت أن تحالفات المنفعة اللحظية تحيط بالمنصف المرزوقي، قبل أيام من جولة الحسم، فإن ثبات هذا المناضل في وجه كل المنغصات وخيبات الأمل في الأقربين والأصدقاء، تجعل منه مثالاً فريداً للمقاتل الحقيقي في ساحات الديمقراطية، بما يجعلك تتمنى لو أن على رأس السلطة في الدول العربية رجالا مثله.

لقد تجاهلوا دعوة المنصف المرزوقي الجلسة الافتتاحية لبرلمانٍ يتقاسمه كل من حزب "نداء تونس"، الممثل للدولة العميقة، وحركة "النهضة"الإسلامية، وقيل في تفسير هذه السقطة إنها "أسباب بروتوكولية"، ولكي لا يتم المزج بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، على الرغم من أن أصحاب هذا التفسير المضحك لم يفسروا دعوتهم أول من تولى منصب الرئاسة بعد سقوط بن علي وهروبه، فؤاد المبزع، والذي كان رئيسا لمجلس النواب في زمن المخلوع.

وبعيدا عن هذه "الأجواء البروتوكولية جدا"، يرى قطاع من التونسيين أن الكتلتين الكبيرتين في البرلمان خالفتا الدستور الذي ينص في الفصل 52 منه على حتمية انتخاب رئيس البرلمان في أول جلسة انعقاد، غير أن الطرفين الغارقين في تفاهمات سرية وعلنية قررا تأجيل هذا الاستحقاق، انتظارا لتفاهمات تدور حاليا بشأن الرئاسات "البرلمان والجمهورية والحكومة"

إن أجمل ما في رحلة المنصف المرزوقي، في محيط السياسة التونسية بعد الثورة، أنه يخوض معاركه بروح الثوري وقيمه ومبادئه، وليس بمقتضى الصفقات والتربيطات، بصرف النظر عن النتائج والمآلات. ولكل ما سبق نقول، من باب الإنصاف : شكراً المنصف المرزوقي، دمت لنا ثورياً نقياً سواء رئيساً في قصر قرطاج، أو معارضاً من خارجه.

 



كاتب المقالة : وائل قنديل
تاريخ النشر : 05/12/2014
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com