معركة "حزب الله" الأخيرة


الشيعة دائمًا ما يقدمون أنفسهم على الساحة الدولية والإقليمية على أنهم أساتذة السياسة، والخبراء بدروبها ومسالكها، وإقدامها وإحجامها، وكرِّها وفرِّها، ولا شك أنهم كانوا كذلك لفترة طويلة ولأسباب كثيرة، ولكن كل ما جناه الشيعة كأقلية طائفية وسط العالم الإسلامي، متمثلة في دولة كبرى مثل إيران، وكمشروع سياسي وعسكري مثل "حزب الله" اللبناني، كل مكتسبات الطائفة سياسيًّا وشعبيًّا ودوليًّا وإقليميًّا قد أصبحت على المحك، إن لم يكن قد ذهبت على الحقيقة أدراج الرياح، بسبب التأييد الشيعي المطلق للجزار بشار في سوريا.

الشيعة في الألفية الثالثة لم يتعلموا من أخطائهم السابقة، وراحوا يكررون أخطاءهم الواحد تلو الآخر، بسبب انطلاقهم الاستراتيجي والتكتيكي وفق رؤيتهم الأيدلوجية الضيقة، فعندما هبت رياح التغيير في العالم العربي بادر الشيعة بتأييد هذه الثورات المباركة ظنًّا منهم أنهم سيركبون هذه الثورات، ويحرفون مسارها لاستنساخ التجربة الخومينية في الدول العربية، ولكن الصدمة كانت في استقلالية وشعبوية هذه الثورات التي أرادت أن تكون نمطًا ثوريًّا فريدًا وغير مسبوق، بعيدًا عن فلك أي محاور أو قوى خارجية وتجارب أخرى، ومن ثم كان الموقف الشيعي المخزي من البحرين واستغلال ثورات المنطقة لإشعال نار حرب طائفية في البحرين تنتهي بابتلاع البحرين وضمها لمملكة الفرس المعاصرة "إيران"، وبدلاً من أن يتعلم الشيعة من أخطاء البحرين، يقع الشيعة فيما هو أشد من ذلك، في تأييد الجزار بشار.

وقد كان بإمكان النظام الإيراني الشيعي و"حزب الله" الشيعي أن يقفا مع الشعب السوري في محنته ويكسبا الشارع العربي في ربيع ثوراته، كما كسباه من قبل في ادعائهما للمقاومة والممانعة والوقوف إلى جانبها، ولكن شاء الله أن تفضح الثورة السورية المواقف المستترة لأهل التقية والتلون والخداع، وكان الاصطفاف اللوجستي والمادي والعسكري الشيعي بجانب نظام البطش والاستبداد في سوريا سببًا للسقوط المدوي لمشاريع الوهم الشيعي وسقوط دعاوى الممانعة وشعارات المقاومة التي تم استغفال البسطاء بها لفترات طويلة. ولو كانت خسارة إيران متمثلة في تدهور علاقتها بعدد من دول المنطقة وفي مقدمتها تركيا والمملكة العربية السعودية، والشعور بالعزلة عن محيطها العربي والإقليمي، مما دفع النظام الإيراني لأنْ يمم وجهه شطر الشرق الأقصى ويحاول خلق استقرار على حدوده الشرقية مع كل من أفغانستان وآسيا الوسطى، فإن خسارة "حزب الله" اللبناني ستكون أفدح من ذلك بكثير، خصوصًا بعد التطورات الجارية على أرض المعركة وتحول سلاح "حزب الله" الشيعي لجزء فعلي من الآلة العسكرية للنظام السوري، تمامًا مثل المرتزقة الذين لا يجيدون إلا الأعمال القذرة.

الخسارة الكبرى لـ"حزب الله" اللبناني تمثل في انهيار شعبيته داخل الدول العربية والإسلامية وأيضًا داخل لبنان، والزيادة الكبيرة في عدد كارهي الحزب وأيدلوجيته الضيقة، وكثرة التظاهرات المنددة بجرائمه في سوريا وفي لبنان، والحزب وإن كان من المتوقع أن يمر بأوقات صعبة بسبب الحرب السورية واحتمال فقدانه لأهم حلفائه في المنطقة، إلا أنه ما زال يتمتع بنفوذ قوي داخل لبنان، وشبكة من العلاقات الوثيقة مع بعض الأطراف النافذة في دول الخليج، كما يتمتع أيضًا بشبكة تجسس واسعة، بسبب اصطفاف كل شيعة المنطقة خلف المشروع الإيراني وربيبه المفضل "حزب الله" اللبناني. هذا النفوذ دفعه لمواصلة دعمه اللامتناهي لبشار الأسد.

"حزب الله" اللبناني رغم كل الضغوط الإقليمية والدولية عليه قرر أن يواصل دعمه للطاغية بشار حتى نهاية الطريق، ونصر الله يبدو غير مبالٍ بتطورات الأحداث في سوريا وتأثيراتها على لبنان، والتوترات المتصاعدة هناك وعمليات الاغتيال المتبادلة، وهو مصرٌّ على التصعيد حتى الرمق الأخير واستفراغ كل ما في وسعه من أجل إنقاذ الطاغية بشار، فهو يرسل كل يوم وحدات جديدة من مقاتليه إلى الأراضي السورية ليشترك مع الجيش السوري في ذبح السوريين، والتنكيل بهم، مستغلاًّ عدم ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان حتى الآن، حتى جاوز عدد مقاتلي الحزب بالإضافة لمقاتلي الحرس الثوري الإيراني أكثر من عشرة آلاف مقاتل مزودين بأحدث الأسلحة وبخبرة ميدانية كبيرة في القتل والسفك، ثم قام بعد ذلك بتخفيض عدد الصواريخ والوحدات القتالية المقابلة لـ"إسرائيل" في منطقة جنوب الليطاني في جنوب لبنان لنقلها إلى خطوط الجبهة السورية في حمص، وهي المرة الأولى التي تتحرك صواريخ "حزب الله" أرض – أرض في الاتجاه الشرقي نحو سوريا، أي في الاتجاه المعاكس للاتجاه المعتاد منذ سنوات عندما كانت تصل الأجهزة العسكرية إلى "حزب الله" من إيران وسوريا، وهذا يؤكد على أن موضوع الطائرة بدون طيار التي أطلقت في السادس من أكتوبر الجاري لا يعدو عن كونه حركة استعراضية تستهدف ترميم شعبية الحزب المنهارة، وجذب الانتباه عن الأحداث الدموية في سوريا ودور "حزب الله" فيها.

وأخيرًا وليس آخرًا قام "حزب الله" اللبناني بعملية تطهير عرقي للساحل المتوسط السوري بغرض إنشاء كانتون خاص بالأقلية العلوية بالشريط الساحلي، فقرى زيتة وحاويك والحمام والصفصافة والفاضلية وبساتين بلدة النزارية التي تقطنها أغلبية شيعية علوية، أصبحت عمليًّا تحت سيطرة عناصر الحزب اللبناني الذين أقاموا فيها حواجز أمنية بتنسيق مع الجيش النظامي السوري، من أجل إقامة مثل هذا "الكانتون العلوي" ليكون ملاذًا آمنًا تلجأ إليه الأقلية العلوية السورية في حال فقد النظام سيطرته على مقاليد الأمور ونجح مقاتلو الجيش الحر السنة في قلب معادلة النفوذ في سوريا. وقال مدير المكتب الإعلامي للمجلس الوطني السوري المعارض في إسطنبول محمد السرميني: إن مقاتلي الحزب الذين كانوا يوجدون على الأراضي السورية بشكل خفي، تحولوا في الوقت الحاضر إلى النشاط العلني دعمًا لنظام الأسد، وذلك من أجل وضع اللمسات الأخيرة لمخطط تفتيت سوريا لكونتات طائفية، وهو نفس ما كان يخطط له الطاغية بشار منذ شهور بعدما استبان له حتمية السقوط أمام الإرادة الشعبية الجارفة للتخلص منه.

"حزب الله" اللبناني يخوض اليوم آخر معاركه في المنطقة، وربما معركته الأخيرة، بسبب خطئه التكتيكي القاتل بالاصطفاف خلف الطاغية بشار، فهو وإن كان يربح حليفًا واحدًا اليوم هو سوريا بشار، فهو بالتأكيد يخسر من أجل هذا الحليف كل شيء، وحال الحزب اليوم يشبه لحد كبير حال الأنظمة الاستبدادية البائدة قبل سقوطها، فهو يتخبط في قراراته وخطواته، وأوضاعه ومواقفه مرتبكة وخاطئة لحد كبير، وشعبيته حتى داخل بعض الأوساط اللبنانية قد أصبحت على المحك، وازدياد توتر علاقاته بالفرقاء اللبنانيين الذين يرون في دعمه المتواصل لنظام الأسد، ومدِّه بالمقاتلين ورغبته الملحة في الزج بلبنان كلها في مساندة بشار، كل ذلك من شأنه إشعال فتيل جديد للصراع الداخلي في لبنان الذي سبق أن اقتتل أبناؤه فيما بينهم بين أعوام 1975 و1990، وقد يقوده ذلك إلى مزيد من الانقسام والتشرذم بوادره أصبحت ماثلة للعيان بعد حادثة اغتيال وسام الحسن أمس. وفي نفس الوقت فإن النهج الذي يتبعه نصر الله في توجيه الحزب للمساندة الكاملة لبشار يلقى اعتراضات متنامية من الشيعة أنفسهم في لبنان، فقد طالب النائب الشيعي السابق محمد عبد الحميد بيضون المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بأن "يلعب دوره لأن السياسة التي يتبعها "حزب الله" في سوريا تأخذ لبنان إلى حرب مذهبية، ليس فقط على مستوى سوريا، بل على مستوى المنطقة، وهنا يتوجب على المجلس الشيعي أن يقف بقوة لمنع ذلك.

الثورة السورية رغم فداحة الخسائر فيها، وتكلفتها الإنسانية الباهظة، ورغم كل ما يعاني أهلها فيها، إلا أنها ستكون بلا ريب أعظم ثورات العرب والمسلمين في العصر الحديث، وهي على أعتاب اللحوق بروعة الثورات الكبرى في التاريخ الإسلامي، وربما تفوقهم بميزة لم تتوافر في ثورة غيرها، وهي أنها ثورة شعبية إسلامية خالصة، لم تتلوث بدعوى مذهبية أو قومية أو علمانية، وهو السر الحقيقي وراء عزوف العالم عن مساندة هذه الثورة المباركة، وستحقق هذه الثورة أعظم إنجاز لها، ليس يوم أن تسقط بشار الأسد، فهو في حكم المنتهي فعلاً، ولكن يوم أن تسقط وللأبد حزب الخداع والتضليل المسمى زورًا بـ"حزب الله"؛ فالله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.



كاتب المقالة : شريف عبد العزيز
تاريخ النشر : 12/11/2012
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com