بعد مرور عشر سنوات على هجمات الحادي عشر من سبتمبر والحرب التي اندلعت في أعقاب ذلك، لا تزال المراكز البحثية الأمريكية تضع تلك الفترة المرحلية الصعبة قيد الدراسة والبحث؛ لاستنباط الدروس والوقوف على الحقائق.
وقدم مؤخرًا معهد ستراتفور الأمريكي للدراسات الاستخبارية تحليلاً تناول من خلاله الباحث والكاتب "جورج فريدمان"- المدير التنفيذي لستراتفور- بالتعليق والتحليل ما اعتبره حربًا ناجحة خاضتها الولايات المتحدة لإضعاف تنظيم القاعدة وتوهين قدرته على شن هجمات جديدة فوق الأراضي الأمريكية، غير أنه اعتبر أن السياسة الأمريكية قد وقعت في سقطات جسيمة بسبب تلك الحرب، ولا زالت تسعى وراء أهداف لن تتحقق.
وقال فريدمان: إن الحادي عشر من سبتمبر كان لحظة حاسمة في التاريخ الأمريكي، وعندما بزغ فجر يوم 12 سبتمبر عام 2001 كان قليل هم من يتوقعون المسار الذي ستأخذه الحرب المترتبة. فقد كانت الأمة في حالة من الصدمة؛ والصدمة كانت رد فعل منطقي، كما كانت حالة من الخوف تسيطر على البلاد والخوف كذلك كان رد فعل منطقي. ولكننا بعد مرور عشرة أعوام، أصبحنا جميعًا أكثر حكمة؛ صحيح أن الحكمة كانت موجودةً منذ البداية لكن الحقيقة هي أننا باسترجاع الذكريات نعرف أنه كان يمكن أن نفعل أشياء أفضل إذا كانت لدينا السلطة. قليل منا هم من كانوا صادقين مع أنفسهم، وقد كنا جميعًا مصدومين ومروعين. وفي الواقع، إذا كنا نعرف آنذاك ما نعرفه اليوم كنا قد راهنا جميعًا على الجواد الرابح. ولكننا لم نكن نعرف في وقتها ما نعرفه الآن، ولذلك فإنه من العبث محاصرة أولئك الذين كان عليهم اتخاذ قرارات في خضم حالة الفوضى.
إن بعض الحروب يتم الإعداد لها بعناية بالغة، ولكن حتى تلك الحروب بالرغم من ذلك نادرًا ما تمضي كما هو متوقع لها. فبالنظر إلى ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، كانت قد خططت بعناية دقيقة لعشرات السنوات غزو فرنسا؛ إلا أن شيئًا لم يمض كما كان مخططًا له من الجانبين، ولم تنتهج الحرب المسار الذي كان يتوقعه أي شخص. فالحرب تحدث في أوقات لا يمكن التنبؤ بها، وتتخذ مسارات لا يمكن التنبؤ بها وتداعيات غير متوقعة.
أما هذه الحرب الخاصة من نوعها - التي اندلعت في الحادي عشر من سبتمبر واجتاحت أفغانستان والعراق وغيرهما - من الصعب إخضاعها لإعادة النظر لأن هناك من لا يعتقدون أنها حرب. ويبدو أن بعض الأشخاص - بما فيهم الرئيس السابق "جورج دبليو بوش" - قد اعتبروها "مؤامرة جنائية".
وحول الفرق بين خوض الحرب واتخاذ إجراءات جنائية عقابية، أوضح فريدمان أن هناك مبادئ الحرب المنصوص عليها في اتفاقيات جنيف، وهناك إجراءات جنائية. والحالة الأولى تهدف إلى تسهيل الدفاع عن المصالح الوطنية وتتضمن إمكانية قتل الأشخاص بسبب الزي الذي يرتدونه. أما الحالة الثانية فتتعلق بمعاقبة الناس عن القيام بعمل سابق. ولكنه نفى محاولته تصنيف ما كانت إدارة بوش تعتقد أنها تقوم به. فما زاد الأمر تعقيدًا هو حقيقة أن عناصر القاعدة لا ترتدي زيًّا في ظل اتفاقيات جنيف، وبالتالي لا يمكن حمايتهم وفق القوانين المتبعة في حالة الحرب ولكن وفقًا للقانون الجنائي. إلا أن القانون الجنائي لا يولي اهتمامًا كبيرًا بمنع الأفعال بقدر ما هو مهتم بمعاقبة الجناة. وقد كانت المعضلة الأساسية في رد الولايات المتحدة على هجمات 11 سبتمبر هي منع أي شخص آخر من القيام بشيء.
حماية الدولة بدماء الآخرين
واعتبر فريدمان أن المشكلة تكمن في أن القانون الدولي أخفق في التعاطي مع مسألة كيف يمكن لدولة قومية أن تتعامل مع قوى تعتمد على "الإرهاب" في شن حرب دون أن تكون ممثلة لجزء من أية دولة قومية أخرى. كما أشار إلى أن أحد مهازل 11/9 الحقيقية هو السلوك الذي لم يستطع المجتمع القانوني الدولي من خلاله الوصول إلى حل مع التوترات التي ارتكزت عليها الحرب المترتبة. واعتبرت بعض وجهات النظر أن الولايات المتحدة اخترقت كلاًّ من قوانين الحرب والإجراءات القانونية الداخلية؛ غير أن قليلاً جدًّا ما تم بذله لصياغة قانون للحرب مخصص للتعاطي مع جماعة مثل تنظيم القاعدة منظمة وسرية و"فعالة".
بالرغم من ذلك، لم يتوانَ "جورج فريدمان" عن الإعراب عن تأييده للحرب الأمريكية المدمرة حيث قال: أحد أكثر الحقائق الباهرة للحرب التي بدأت في 11 سبتمبر كانت هي عدم حدوث أية هجمات كبرى ناجحة مجددًا في الولايات المتحدة. وإذا كنت قد سئلت بشأن 11 سبتمبر عام 2001 واحتمالية تكراره، لجاءت إجابتي أن الهجوم كان جزءًا من سلسلة من الهجمات، وليس فقط الأول.
وأضاف: لم يحدث مزيد من الهجمات حتى الآن؛ وهذا يرجع إلى أن الولايات المتحدة قد أجبرت قيادة القاعدة على الفرار من أفغانستان في غضون الأيام الأولى للحرب وعطلت نظام القيادة والتحكم. كما يرجع كذلك إلى العمليات السرية الأمريكية على النطاق الدولي التي هاجمت وأعاقت قوة القاعدة على الأرض واختراق اتصالاتها. وهو ما جعل القاعدة غير قادرة على شن هجمات فاتكة ضد الولايات المتحدة (بالرغم من تنفيذها لهجمات ناجحة في إسبانيا وبريطانيا).
وتابع دفاعه عن عمليات القتل وسفك الدماء التي ارتكبتها الولايات المتحدة قائلاً: كمثل كل الحروب، وقع ما يطلق عليه حاليًا مبدأ "الضرر المباشر" أو "مقتل وإصابة واعتقال مدنيين أبرياء". ". تمامًا مثلما لا تستطيع طائرات القصف تمييز الأهداف بسهولة، كما تتسبب المدفعية في بعض الأحيان في مقتل أبرياء. وتلك هي طبيعة الحرب وفظاعتها. وقد كان الخيار أمام الولايات المتحدة هو إما أن تقبل خطر وقوع هجوم آخر من قبل القاعدة و أن تقبل وقوع ضحايا أبرياء في مناطق أخرى بعيدة عن الأراضي الأمريكية.
وقال: إن أساس الدولة هو أن تحمي مصالحها حتى على حساب مصلحة الآخرين. وربما كان هذا المذهب مزعجًا، ولكن قليل منا من شعروا أثناء الحرب العالمية الثانية أن توفير الحماية للأمريكيين من خلال قصف المدن الألمانية واليابانية كان فكرة سيئة. ومن ثم فإذا كان ذلك يزعجنا، فينبغي علينا أن ننزعج من تاريخ الحرب، وإذا انزعجنا من تاريخ الحرب، فينبغي أن نضع في الاعتبار أننا جميعًا ورثته والمستفيدون، وخاصة في الولايات المتحدة.
تورط وكالة الاستخبارات المركزية
وبشأن الاتهامات التي تتصاعد كل عام بشأن تورط وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي آي إيه" في هجمات سبتمبر، قال فريدمان: بالطبع هناك من يعتقدون أن حادث 11 سبتمبر كان مؤامرة نفذتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بهدف تبرير التعدي على حرياتنا. إلا أن مؤسسة لديها القدرة التي يرونها ليست بحاجة إلى تبرير لاختزال الحريات. ومن الملفت للنظر أن "المشككين" يؤمنون أن 11 سبتمبر تمت حياكته من أجل سحق الحريات الأمريكية وأن المتآمرين غير أكفاء ولا يستطيعون إيقاف أولئك الذين اكتشفوا المؤامرة ويذيعونها في أنحاء العالم!
وهو ما استبعده فريدمان؛ معتبرًا أن القوة التي أرادت لنفسها السيطرة الدولية كان يمكنها أن تسكت الأصوات التي تكشف سرها. كما أكد أن قناعته بهذا المنحى لها أربعة أسباب: "أولاً أنه ينبغي عدم تجاهل تساؤلات "المشككين" والرد عليها. ثانيًا أنه في حال لم يتم الرد عليهم، سيكون في إمكانهم قول: إن وكالة الاستخبارات المركزية (أو أية جهة أخرى يعتقدون أنها منفذ الهجوم) كانت في حاجة إلى هجوم واحد لتحقيق أهدافها. ثالثًا أن القضية التي يثيرها المشككون ليست هي السلامة الهيكلية للمبنى ولكن نية وكالة الاستخبارات المركزية الكامنة من تنفيذ الهجوم. والكيفية هي كل ما يعنيهم، غير أنه من الهام أيضًا توضيح أن تفسيرهم الخاص للدافع هو ما لا معنى له. وأخيرًا، فأنا أشتبك هنا مع المشككين لأنني أهوى تلقي وفرة من رسائل البريد الإلكتروني التي تحتوي على اتهامات بليغة والتهديد العرضي".
إخفاقات أمريكية وأهداف مستحيلة
من الهام هنا أن نمعن النظر ليس فقط في نجاحات الحرب ولكن أيضًا في إخفاقاتها، وهنا يتبادر إلى الأذهان العراق. وهناك حقيقة يجدر الإشارة إليها وهي أن حملة العراق لم تكن منطقية، بل الأكثر إثارة، على ما أعتقد حقيقة أن أي حرب لا تخلو من أخطاء سوء التقدير الكارثية؛ بما في ذلك الحروب الناجحة. ومن وجهة نظري، كان الغزو الأمريكي للفلبين في عام 1944 خطأ كبير. ولم يساهم إلا بالنذر القليل في سقوط اليابان، كما استنزف أكثر بكثير من أرواح الأربعة آلاف أمريكي الذين فقدوا حياتهم في العراق، وكان يمكن لها في الحقيقة أن تؤخر نهاية الحرب. وقد كان يعارضها قادة عسكريون كبار بينما كان يصر عليها بشكل أساسي الجنرال "دوجلاس ماكارثر" لأسباب سياسية.
وأشار فريدمان في تقريره لمركز ستراتفور عن معتقد يؤمن به، حيث قال: ترتكز كل حرب ناجحة على أساس سلسلة من الإحباطات وسوء التقدير. فالحرب المثالية تقوم على أساس حملات قاصرة للغاية وغير ضرورية. واختياراتي الشخصية ليست بأهمية المبدأ الذي يرى أن جميع الحروب الناجحة تتضمن أخطاء فادحة. وإذا ما استثنينا العراق، فإن ذلك في حد ذاته لن يغير من حقيقة أن الأراضي الأمريكية لم تتعرض لهجمات مرة أخرى. فهل ساهمت العراق في ذلك؟ هذا تساؤل يستحق مناقشة طويلة. ولكن الإقرار بأنها لم يكن لها تأثير يجعل ببساطة من حرب ما بعد 11 سبتمبر حربًا عادية، وإذا كانت على نحو عادي، فإنها مأساوية.
ولكن الأمر الذي لم يكن عاديًّا هو طول الحرب. فالقتال العنيف المتواصل في أفغانستان والعراق لم ينته بعد بينما تنفتح وتنغلق مسارح جديدة لعمليات سرية. وتابع قائلاً: إن أفغانستان وهي الحملة الأمريكية الأولى بعد 11 سبتمبر هي ما يمثل فعليًّا المعضلة الأكثر إرباكًا؛ والتي تطرح سؤالاً مفاده: متى تضع الحرب أوزارها؟ يتوقف ذلك بالطبع على الهدف. فما هو ما تحاول الولايات المتحدة تحقيقه هناك؟
لقد كان الهدف الأوَّلي للغزو هو طرد القاعدة والإطاحة بالحكومة التي دعمتها وهزيمة طالبان. وقد تحقق الهدفان الأول والثاني على نحو سريع. أما الهدف الثالث فلم يتحقق حتى اليوم، كما أنه من غير المرجح أن تتمكن الولايات المتحدة من تحقيقه. لقد حاولت قوى أخرى السيطرة على أفغانستان، إلا أن قليلاً هم من نجحوا. فعناصر طالبان هي الأمثل في ساحة المعركة التي يقاتلون فيها، ويتمتعون بذكاء خارق كما أن لديهم القدرة على إجهاض المؤسسات الحكومية بما فيها الجيش الأفغاني.
بالرغم من ذلك، يرى فريدمان أنه ليس في استطاعة طالبان هزيمة الولايات المتحدة؛ التي يمكنها أن تظل في أفغانستان إلى أجل غير مسمى. ولكن المهمة الأمريكية الرئيسية في أفغانستان قد انتهت حيث لم يعد تنظيم القاعدة يستخدم أفغانستان كمركز له منذ عام 2002، كما أن التنظيم في باكستان كذلك أصيب بالشلل بحسب الولايات المتحدة ولكنه انتقل إلى دول أخرى مثل اليمن والصومال.
غير أن الحرب لن تنتهي حتى تقرر الولايات المتحدة أن تنهيها أو يحدث تطورات سياسية في كابول تطالبنا الحكومة بموجبها بالمغادرة. إن المسألة هي أن الهدف أصبح منفصلاً عن القصد المبدئي وبعيد المنال. وخلافًا لغيرها من الحروب، نادرًا ما تنتهي حروب "مكافحة التمرد" بالنصر. ولكنها عادة ما تنتهي عندما تقرر القوات الأجنبية الرحيل.
وأخيرًا، فإن هناك ثلاثة دروس مستفادة من العقد الأخير أعتقد أنها هامة؛ أولها هو نجاح الولايات المتحدة في تحقيق هدفها الأساسي، وهو منع تعرض البلاد لهجمات. والثاني أن الحملات المشكوك في جدواها أمر لا مفر منه في الحرب، لا سيما بالنسبة لواحدة بالغموض الذي كانت عليه هذه الحرب. ثالثًا أن جميع الحروب تنتهي وفكرة أن تهيمن حربٌ لا متناهية على السياسة الخارجية الأمريكية وتدفع كافة الاعتبارات الأخرى جانبًا - ليس هو ما سيحدث؛ إذ يتعين على الولايات المتحدة أن يكون لديها نوع من المواءمة بين ما يمكن القيام به وما يجدر القيام به وما هو خطير جدًّا القيام به. فوجود التزام إستراتيجي غير محدود هو الضد الصريح لمفهوم الإستراتيجية.
----------------------------------------
*جورج فريدمان: كاتب وباحث إستراتيجي أمريكي، وهو المؤسس والمدير التنفيذي لمعهد ستراتفور الأمريكي للدراسات الإستخبارية.