التفسير والإسرائيليات
( 2 )
أن القرن الثالث الهجري ، لم ينفصل فيه التفسير عن الحديث كل الانفصال ، وأنه كانت فيه الطريقتان ، طريقة التأليف في التفسير كجزء من الحديث ، وطريقة التأليف فيه على سبيل الاستقلال.
وليس أدل على ذلك ، من أن الإمام البخاري ذكر في ضمن كتابه : "الصحيح" كتاب التفسير نحو عشر الصحيح ، وألف في التفسير على سبيل الاستقلال كتابه : "التفسير الكبير"كما ألفه فيه ابن جرير الطبري على سبيل الاستقلال ، ثم جاء بعده ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم ، فألفوا في التفسير على سبيل الاستقلال.
حذف الأسانيد وغلبة الدخيل
ثم ألف في التفسير بعد هذا خلائق كثيرون ، فاختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال من غير أن يعزوها إلى قائلها ، فمن ثم دخل الدخيل من ذي قبل ، والتبس الصحيح بالعليل ،
وصار كل من يسنح له قول يورده ، ومن يخطر بباله شيء يعتمده ، ثم ينقل ذلك من يجيء بعده ظانًّا أن له أصلا غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ، ومن يرجع إليهم في التفسير ،
وولع المفسرون بالإكثار من الأقوال حتى رأينا بعضهم ذكر في تفسير قوله تعالى : {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} عشرة أقوال ، مع أن تفسيرها باليهود ، والنصارى هو الوارد عن النبي ، وجميع الصحابة ، والتابعين ، وأتباعهم ، حتى قال ابن أبي حاتم : لا أعلم في ذلك اختلافا بين المفسرين.
الإتقان في علوم القرآن جـ 2 ص 190 ، مقدمة في أصول التفسير ص 33 ، 34.
وقد كان حذف الأسانيد مما ساعد على شيوع القصص الإسرائيلي في كتب التفسير ، وعلى رواج الروايات الواهية ، والمختلقة المكذوبة ؛ لأن ذكر الأسانيد كثيرا ما يدل على موضع العلة ، ومكمن الداء ، ومن هو سبب البلاء.
تلون كتب التفاسير بثقافة مؤلفيها
ثم أُلفت بعد ذلك كتب يغلب عليها التأويل ، والتفسير الاجتهادي لعلماء برعوا في بعض العلوم ، وبرزوا فيها ، ومنهم : من هُم من أهل السنة والجماعة ، ومنهم : من هم من أهل الزيغ والابتداع ، فصار كل واحد منهم يميل بالتفسير إلى إبراز ما برع فيه ،
* فالنحوى ليس له هم إلا الإعراب وذكر الأوجه المحتملة في الآية ، ونقل قواعد النحو ومسائله وخلافياته كأن كتب التفسير مجان للتمرين النحوي ، واستذكار القواعد ، وذلك : كالزجاج ، والواحدي في البسيط ، وأبي حيان في البحر المحيط.
* والإخباري ليس له هَمٌّ إلا ذكر القصص. واستيفاؤها عمن مضى من الأنبياء ، والأمم ، والملوك ، وذكر ما يتعلق بالفتن والملاحم وأحوال الآخرة ، ولا عليه بعد هذا إن كانت صحيحة ، أو باطلة ؛ لأنه لم يتحر الصدق ، ولم يبحث عن الرواة ، وكونهم ثقات أو غير ثقات ، وذلك كما فعل الثعلبي في تفسيره ، فقد حشاه بالكثير من القصص الإسرائيلي ، والروايات المكذوبة الموضوعة.
* والفقيه : يكاد يسرد فيه مسائل الفقه جميعها ، وكثير ما يستطرد إلى إقامة الأدلة ، وبيان منشأ الخلاف إلى غير ذلك مما لا تعلق له بالآية ؛
والأدهى من ذلك أنه يفيض في أدلة مذهبه ، والميل بالآية إليه ، ومحاولة إضعاف مذهب غيره ، وذلك : كما فعل الإمام القرطبي في تفسيره ، فإن ما فيه من التفسير أقل مما فيه من الأحكام الفقهية ، ولا سيما على مذهب إمام دار الهجرة مالك رحمه الله تعالى.
* وصاحب العلوم العقلية قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء ، والفلاسفة وشبههم ، والرد عليهم ، ويخرج من شيء إلى شيء ، ويستطرد ، ثم يستطرد حتى ينسى الإنسان أنه في كتاب تفسير ، ويخيل إليه أنه يقرأ كتابا من كتب الكلام ، والملل والنحل ، كما صنع الإمام الجليل : فخر الدين الرازي ،
ولذلك : قال أبو حيان في : "البحر المحيط" : جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير ، ولذلك قال بعض العلماء:(قيل : هو ابن عطية) "فيه كل شيء إلا التفسير".
تفسيرات المبتدعة والباطنية والملحدة
وأصحاب المذاهب المبتدعة : كالشيعة ، والمعتزلة ، وأضرابهم. قد نحوا بالتفسير ناحية مذاهبهم ،
وفي سبيل ذلك قد حرفوا بعض الآيات وخرجوا بها عن معانيها المرادة ، وعن قواعد اللغة ، وأصول الشريعة وصار الواحد منهم كلما لاحت له شاردة من بعيد اقتنصها ، أو وجد موضعا له فيه أدنى مجال لإظهار بدعته وترجيح مذهبه سارع إليه ،
ومن هذه التفاسير تفاسير جليلة خدمت القرآن خدمة جليلة ، وذلك كتفسير الكشاف للإمام الزمخشري ، ولولا ما فيه من آراء اعتزالية ، لكان أجل تفسير في بابه.
قال الإمام البلقيني : استخرجت من "الكشاف" اعتزالا بالمناقيش ، من قوله تعالى : {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ،
قال الزمخشري : "وأي فوز أعظم من دخول الجنة" ؟ أشار به إلى عدم رؤية الله في الآخرة ، الذي هو مذهبهم.