موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || حسبنا البارئ في من طعن في الإمام البخاري ( 2 )
اسم المقالة : حسبنا البارئ في من طعن في الإمام البخاري ( 2 )
كاتب المقالة : الشيخ / محمد فرج الأصفر

من ورع البخاري:

قال محمد بن إسماعيل البخاري: ما وضعت في كتاب الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.

قال محمد بن أبي حاتم الرازي: ركبنا يومًا إلى الرمي، فجعلنا نرمي، وأصاب سهم أبي عبد الله البخاري وتدَ القنطرة الذي على نهر ورادة، فانشق الوتد، فلما رآه أبو عبد الله نزل عن دابته، فأخرج السهم من الوتد وترك الرمي، وقال لنا: ارجعوا، ورجعنا معه إلى المنزل، فقال لي: يا أبا جعفر، لي إليك حاجة مهمة، قالها وهو يتنفس الصعداء، وقال لمن معنا: اذهبوا مع أبي جعفر حتى تعينوه على ما سألته، فقلت: أية حاجةٍ هي؟ قال لي: تضمن قضاءها؟ قلت: نعم، على الرأس والعين. قال: ينبغي أن تصير إلى صاحب القنطرة فتقول له: إنا قد أخللنا بالوتد، فنحب أن تأذن لنا في إقامة بدله، أو تأخذ ثمنه وتجعلنا في حلٍّ مما كان منا. وكان صاحب القنطرة حميد بن الأخضر الفربري، فقال لي: أبلغ أبا عبد الله السلام، وقل له: أنت في حلٍّ مما كان منك، وجميع ملكي لك الفداء، وإن قلت نفسي أكون قد كذبت، غير أني لم أكن أحب أن تحتشمني في وتدٍ أو في ملكي. فأبلغته رسالته، فتهلّل وجهه واستنار، وأظهر سرورًا، وقرأ في ذلك اليوم على الغرباء نحوًا من خمسمائة حديث، وتصدق بثلاث مائة درهم.

قال ابن أبي حاتم: ورأيته استلقى على قفاه يومًا ونحن بفربر في تصنيفه كتاب التفسير، وأتعب نفسه ذلك اليوم في كثرة إخراج الحديث، فقلت له: إني أراك تقول: إني ما أثبت شيءًا بغير علمٍ قط منذ عقلت، فما الفائدة في الاستلقاء؟ قال: أتعبنا أنفسَنا اليوم، وهذا ثغرٌ من الثغور خشيت أن يحدث حدثٌ من أمر العدو، فأحببت أن استريح، فإن فاجأنا العدو كان بنا حراك.

وضيّفه بعض أصحابه في بستانٍ له وضيّفنا معه، فلما جلسنا أعجب صاحب البستان بستانه، وذلك أنه كان عمل مجالس فيه وأجرى الماء في أنهاره، فقال له: يا أبا عبد الله، كيف ترى؟ فقال: هذه الحياة الدنيا.

وكان الحسين بن محمد السمرقندي يقول: كان محمد بن إسماعيل مخصوصًا بثلاث خصالٍ مع ما كان فيه من الخصال المحمودة، كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند الناس، وكان لا يشتغل بأمور الناس، كل شغله كان في العلم

من كرم البخاري وسماحته:

قال محمد بن أبي حاتم الرازي عن الإمام البخاري: كانت له قطعة أرض يؤجرها كل سنة بسبع مائة درهم، فكان ذلك المؤجر ربما حمل منها إلى أبي عبد الله قثّاةً أو قثّاتين؛ لأن أبا عبد الله كان معجبًا بالقثّاء النضيج، وكان يؤثره على البطيخ أحيانًا، فكان يهب للرجل مائة درهم كل سنة لحمله القثّاء إليه أحيانًا. قال: وسمعته يقول: كنت أستغل كل شهر خمس مائة درهم، فأنفقت كل ذلك في طلب العلم. فقلت: كم بين من ينفق على هذا الوجه وبين من كان خلوًا من المال فجمع وكسب بالعلم حتى اجتمع له! فقال أبو عبد الله: ما عند الله خيرٌ وأبقى. وكان يتصدق بالكثير، يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل الحديث فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين، وأقل وأكثر، من غير أن يشعر بذلك أحد، وكان لا يفارقه كيسه.

من عجائب البخاري:لما دخل الإمام البخاري إلى بغداد سمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر و دفعوا إلى عشرة أشخاص منهم كل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقون ذلك على البخاري ثم تواعدوا على امتحانه في وقت محدد ومجلس معين فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الخرسانيين والبغداديين وغيرهم فلما اطمأن المجلس بأصحابه انتدب إليه واحد من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري : " لا أعرفه " فسأله عن آخر فقال : " لا أعرفه " فما زال يُلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول : " لاأعرفه " فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون : " الرجل فهم " ومن كان منهم ضدَّ ذلك يضن أن البخاري قد عجز وقصر ولم يفهم ثم انتدب رجل آخر من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال البخاري : " لا أعرفه " فسأله عن آخر فقال : " لا أعرفه " فلم يزل يلقي يزل يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول : " لا أعرفه " ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على قوله : " لا أعرفه " فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال : أما حديثك الأول فهو كذا وحديثك الثاني فهو كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فردَّ كلَّ متنٍ إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين كذلك ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها إلى متونها فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل .

محنة الإمام البخاري:

كان البخاري شريف النفس فقد بعث إليه بعض السلاطين ليأتيه حتى يسمع أولاده عليه فأرسل إليه : من في بيته العلم والحلم يؤتى يعني إن كنتم تريدون ذلك فهلموا إلي وأبى أن يذهب إليهم والسلطان خالد بن أحمد الذهلي نائب الظاهرية ببخارى فبقى في نفس الأمير من ذلك فاتفق أن جاء كتاب من محمد بن يحيى الذهلي بأن البخاري يقول لفظه بالقرآن مخلوق وكان وقد وقع بين محمد بن يحيى الذهلي وبين البخاري في ذلك كلام وصنف البخاري في ذلك كتاب أفعال العباد فأراد أن يصرف الناس عن السماع من البخاري وقد كان الناس يعظمونه جدا وحين رجع إليهم نثروا على رأسه الذهب والفضة يوم دخل بخارى عائدا إلى أهله وكان له مجلس يجلس فيه للإملاء بجامعها فلم يقبلوا من الأمير فأمر عند ذلك بنفيه من تلك البلاد فخرج منها ودعا على خالد بن أحمد فلم يمض شهر حتى أمر ابن الظاهر بأن ينادى على خالد بن أحمد على أتان وزال ملكه وسجن في بغداد حتى مات ولم يبق أحد يساعده على ذلك إلا ابتلي ببلاء شديد فنزح البخاري من بلده إلى بلدة يقال لها خرتنك على فرسخين من سمرقند فنزل عند أقارب له بها وجعل يدعو الله أن يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين ولما جاء في الحديث (وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين)، ولقي الإمام ربه بعد هذه المحنة.

مصنفات البخاري:

تهيأت أسباب كثيرة لأن يكثر البخاري من التأليف؛ فقد منحه الله ذكاءً حادًّا، وذاكرة قوية، وصبرًا على العلم ومثابرة في تحصيله، ومعرفة واسعة بالحديث النبوي وأحوال رجاله من عدل وتجريح، وخبرة تامة بالأسانيد؛ صحيحها وفاسدها. أضف إلى ذلك أنه بدأ التأليف مبكرًا؛ فيذكر البخاري أنه بدأ التأليف وهو لا يزال يافع السن في الثامنة عشرة من عمره، وقد صنَّف البخاري ما يزيد عن عشرين مصنفًا، منها

الجامع الصحيح المسند: من حديث رسول الله وسننه وأيامه، المعروف بـ الجامع الصحيح أو صحيح البخاري - حمل من المكتبة الوقفية

الأدب المفرد: وطُبع في الهند والأستانة والقاهرة طبعات متعددة - حمل من المكتبة الوقفية

التاريخ الكبير: وهو كتاب كبير في التراجم، رتب فيه أسماء رواة الحديث على حروف المعجم، وقد طبع في الهند سنة (1362هـ = 1943م).

التاريخ الصغير: وهو تاريخ مختصر للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ومن جاء بعدهم من الرواة إلى سنة (256هـ == 870م)، وطبع الكتاب لأول مرة بالهند سنة (1325هـ == 1907م)

خلق أفعال العباد: وطبع بالهند سنة 1306هـ = 1888م حمل من المكتبة الوقفية

رفع اليدين في الصلاة: وطبع في الهند لأول مرة سنة (1256هـ = 1840م) مع ترجمة له بالأوردية - حمل من المكتبة الوقفية

الكُنى: وطبع بالهند سنة (1360هـ = 1941م

الضعفاء الصغير - حمل من المكتبة الوقفية

وله كتب مخطوطة لم تُطبع بعد، مثل: التاريخ الأوسط، قلت هو مطبوع في حلب باسم التاريخ الصغير والتفسير الكبير

كتاب صحيح البخاري:

هو أشهر كتب البخاري، بل هو أشهر كتب الحديث النبوي قاطبة. بذل فيه صاحبه جهدًا خارقًا، وانتقل في تأليفه وجمعه وترتيبه وتبويبه ستة عشر عامًا، هي مدة رحلته الشاقة في طلب الحديث. ويذكر البخاري السبب الذي جعله ينهض إلى هذا العمل، فيقول: كنت عند إسحاق ابن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع "الجامع الصحيح"

بلغ عدد أحاديث صحيح البخاري مع وجود المكررة منها 7593 حديثاً حسب إحصائية الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، اختارها الإمام البخاري من بين ستمائة ألف حديث كانت تحت يديه؛ لأنه كان مدقِّقًا في قبول الرواية، واشترط شروطًا خاصة في رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصرًا لمن يروي عنه، وأن يسمع الحديث منه، أي أنه اشترط الرؤية والسماع معًا، هذا إلى جانب الثقة والعدالة والضبط والإتقان والعلم والورع.

كان البخاري لا يضع حديثًا في كتابه إلا اغتسل قبل ذلك وصلى ركعتين، وابتدأ البخاري تأليف كتابه في المسجد الحرام والمسجد النبوي، ولم يتعجل إخراجه للناس بعد أن فرغ منه، ولكن عاود النظر فيه مرة بعد أخرى، وتعهده بالمراجعة والتنقيح؛ ولذلك صنفه ثلاث مرات حتى خرج على الصورة التي عليها الآن

قد استحسن شيوخ البخاري وأقرانه من المحدِّثين كتابه، بعد أن عرضه عليهم، وكان منهم جهابذة الحديث، مثل: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين؛ فشهدوا له بصحة ما فيه من الحديث، ثم تلقته الأمة بعدهم بالقبول باعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله. أقبل العلماء على كتاب الجامع الصحيح بالشرح والتعليق والدراسة، بل امتدت العناية به إلى العلماء من غير المسلمين؛ حيث دُرس وتُرجم، وكُتبت حوله عشرات الكتب

ثناء العلماء على صحيح البخاري:

وقال الإمام النووي: "اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن الصحيحان: البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول. وقال في موضع آخر: "وتلقي الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما، وهذا متفق عليه... وإنما يفترق الصحيحان، وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا لا يحتاج إلى النظر فيه، بل يجب العمل به مطلقا، وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى ينظر، وتوجد فيه شروط الصحيح

قال عنه الحافظ ابن حجر في مطلع مقدمة الفتح: " وقد رأيت الإمام أبا عبد الله البخاري في جامعه الصحيح قد تصدى للاقتباس من أنوارهما البهية - يعنى الكتاب والسنة - تقريرا واستنباطا، وكرع من مناهلهما الروية انتزاعا وانتشاطا، ورزق بحسن نيته السعادة فيما جمع حتى أذعن له المخالف والموافق، وتلقى كلامه في الصحيح بالتسليم المطاوع والمفارق .. "، إلى آخر كلامه - رحمه الله -.
• وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: " وأجمع العلماء على قبوله - يعنى صحيح البخاري- وصحة ما فيه، وكذلك سائر أهل الإسلام ".
• وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى، " وأما كتابه الجامع الصحيح فأجل كتب الإسلام بعد كتاب الله ".
• وقال أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث بعد ذكره أن أول من صنف في الصحيح البخاري ثم مسلم. وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز، ثم قال: " ثم إن كتاب البخاري أصح الكتابين صحيحاً وأكثر هما فوائد ".
• وقال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: " اتفق العلماء - رحمهم الله - على أن أصح الكتب بعد الكتاب العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث ".
• وقال الحافظ عبد الغني المقدسي في كتابه الكمال - فيما نقله في شذرات الذهب: " الإمام أبو عبد الله الجعفي مولاهم البخاري صاحب الصحيح، إمام هذا الشأن والمقتدى به فيه والمعول على كتابه بين أهل الإسلام ".

وقال الحافظ أبو نصر الوايلي السجزي: "أجمع أهل العلم الفقهاء وغيرهم على أن رجلا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في كتاب البخاري مما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صح عنه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله لا شك فيه - أنه لا يحنث، والمرأة بحالها في حبالته،

ثناء العلماء علي الإمام البخاري:

قال أبو العباس الدعولي كتب أهل بغداد إلى البخاري... المسلمون بخير ما حييت لهم... وليس بعدك خير حين تفتقد... وقال الفلاس كل حديث لا يعرفه البخاري فليس بحديث

قال أبو نعيم أحمد بن حماد هو فقيه هذه الأمة وكذا قال يعقوب بن إبراهيم الدورقي ومنهم من فضله في الفقه والحديث على الإمام أحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه وقال قتيبة بن سعيد رحل إلي من شرق الأرض وغربها خلق فما رحل إلى مثل محمد بن إسماعيل البخاري.

وفاة البخاري:

كانت وفاته رحمه الله ليلة عيد الفطر السبت 1 شوال 256هـ عند صلاة العشاء وصلي عليه يوم العيد بعد الظهر وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة وفق ما أوصى به وكان عمره يوم مات اثنتين وستين سنة. رحمه الله رحمة واسعة وجزاه الله عنا خير الجزاء

واختم هذا المقال بتلك الآبيات

للفضل بن إسماعيل الجرجاني

صحيح البخاري لو أنصفوه * لما خط إلا بماء الذهب
هو الفرق بين الهدى والعمى
* هو السد بين الفتى والعطب
أسانيد مثل نجوم السماء
* أمام متون لها كالشهب
بها
قام ميزان دين الرسول * ودان به العجم بعد العرب
حجاب من النار لاشك فيه
* يميز بين الرضى والغضب
وستر رقيق إلى المصطفى
* ونص مبين لكشف الريب
فيا علما أجمع العالمو
* ن على فضل رتبته في الرتب
سبقت الائمة فيما جمعت
* وفزت على زعمهم بالقصب

نفيت الضعيف من الناقل * ين ومن كان متهمابالكذب

وأبرزت في حسن ترتيبه * وتبويبه عجبا للعجب

فأعطاك مولاك ما تشتهيه * وأجزل حظك فيما وهب

تاريخ الاضافة: 14/09/2014
طباعة