لاستفتاح شهر رمضان
الحمد لله اللطيف الرؤوف العظيم المنان ، الكبير القدير الأول الديان ، الغني العلي القوي السلطان ، الحليم الكريم الرحيم الرحمن ، الأول فالسبق لسبقه ، المنعم فما قام مخلوق بحقه ، الموالى بفضله على جميع خلقه ، بشرائف المنائح على توالي الزمان ، جل عن شريك وولد ، وعز عن الاحتياج إلى أحد ، وتقدس عن نظير وانفرد ، وعلم ما يكون وأوجد ما كان . أنشأ المخلوقات بحكمته وصنعها ، وفرق الأشياء بقدرته وجمعها ، ودحا الأرض على الماء وأوسعها " والسماء رفعها ووضع الميزان " سالت الجوامد لهيبته ولانت ، وذلت الصعاب لسطوته وهانت ، وإذا بطش
" انشقت السماء فكانت وردة كالدهان " الرحمن : 37 . يعز ويذل ، ويفقر ويغني ، ويسعد ويشقي ، ويبقي ويفني ، ويسين ويزين ، وينقض ويبني " كل يوم هو في شأن " الرحمن : 29 . قدر التقدير فلا راد لحكمه ، وعلم سر العبد وباطن عزمه " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " ولا ينتقل قدم من مكان إلا بعلمه. مد الأرض فأوسعها بقدرته ، وأجرى فيها أنهارها بصنعته ، وصبغ ألوان نباتها بحكمته ، فمن يقدر على صبغ تلك الأولان . ثبتها بالجبال الرواسي في نواحيها ، وأرسل السحاب بمياه تحييها ، وقضى بالفناء على جميع ساكنها " كل من عليها فان " الرحمن : 26 . من خدمه طامعاً في فضله نال ، ومن لجأ إليه في رفع كربه زال ، ومن عامله أربحه وقد قال : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) الرحمن : 46 . أنعم على الأمة بتمام إحسانه ، وعاد عليها بفضله وامتنانه ، وجعل شهرها هذا مخصوصاً بعميم غفرانه ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القران ) البقرة : 185 . احمده على ما خصنا فيه من الصيام والقيام ، واشكره على بلوغ الآمال وسبوغ الإنعام ، وأشهد أنه الذي لا تحيط به العقول والأذهان ، وأن محمداً أفضل خلقه وبريته المقدم على الأنبياء ببقاء معجزته ، الذي انشق ليلة ولادته الإيوان صلى الله عليه وسلم.
إستقبال شهر رمضان:
يستقبل شهر رمضان بالتوبة عن المعاصي والذنوب والأوبة إلى الله بالطاعة والقنوت ، فمن أراد الرجوع إلى الطريق المستقيم فلا عليه إلا أن يبادر بالتوبة ويقلع عن الذنوب ويعاهد علام الغيوب ألا يعود .
قال تعالى : (وتوبوا إلى الله جميعًا أيُّه المؤمنون لعلكم تفلحون ) النور:31
وقال تعالى : (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ) الشورى:25
وقال تعالى : (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده) التوبة:104
وقال تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا) الزمر:53
وعن الأغر بن يسار المزني قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني اتوب في اليوم مائة مرة ) رواه مسلم
وعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم،قال: ( إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) رواهأحمد و الترمذي .
شروط التوبة النصوح:
فإن من شروط التوبة من الذنب إذا كان بين العبد وربه خمسة شروط
الشرطالأول: الإخلاص ـ وهو أن يقصد بتوبته وجه الله عزوجل.
الثاني: الإقلاع عن الذنب.
الثالث: الندم على فعله.
الرابع: العزم على عدم الرجوع إليه.
الخامس: أن تكون التوبة قبل أن يصل العبد إلى حال الغرغرة عند الموت .
وإذا كان الذنب بينه وبين الناس فيجب عليه هذه الأشياء الخمسة ، مع رد المظالم إلى أهلها أو طلب المسامحة منهم،
إخواني : تفكروا لماذا خلقتم فالتفكر عبادة ، وامتثلوا أمر الإله فقد أمر عباده ، والتفتوا عن أسباب الشقاء إلى أسباب السعادة ، واعلموا أنكم في نقص من الأعمار لا في زيادة .
آه يا نفس : آه لنفسٍ أقبلت على العدو وقبلت وبادرت ما يؤذيها من الخطايا وعجلت ، من لها إذا نوقشت على أفعالها وسئلت ، وقرر بقبائحها يوم الحشر فخجلت ، وقيدت بقيود الندم على التفريط وكبلت ، وشاهدت الجزاء فبح ما كانت عملت ، وسُل عليها سيف العتاب يوم الحساب فقتلت .
أيها الغافل : عن فضيلة هذا الشهر ، أعرف زمانك ، يا كثير الحديث فيما يؤذي ، احفظ لسانك ، يا مؤولاً عن أعماله ، اعقل شأنك ، يا متلوثاً بالزلل ، اغسل بالتوبة ما شأنك ، يا مكتوباً عليه كل قبيح تصفح ديوانك ، يا من أكثر عمره قد مضى ، يا من نفسه مع اللحظات تقتضى ، يا من قد أنذره سلب القرين معرضاً ، كيف يحترس العريان من سيف منتضى ، إن كان ما فرط يوجب السخط فاطلب في هذا الشهر الرضا ، يا كثير الفبائح غداً تنطق الجوارح ، أين الدموع السوافح على تلك القبائح ؟؟ يا ذا الداء الشديد الفاضح ، ما أعسر مرض الجوانح ، يضعضع الأركان الصحائح ، يسد أبواب اللهو والممازح ، والموت في خلاله مبين لائح ، أين زادك يا أيها الرائح ؟؟، أين ما حصلت هل أنت رابح ؟؟ يا أسفي لهذا النازح ، كيف حاله في الضرائح ؟ من له إذا أوثقه الذابح ، من له إذا قام النائح ، واستوى لديه العائب والمادح ولم ينفعه في بطون الصفائح إلا عمل إن كان له صالح ، أتراه يعتقد أن النصيح مازح ، شاعت المواعظ إلا أن الموعوظ سكران طافح.
يا من قد سارت بالمعاصي أخباره ، يا من قد قبح إعلانه وإسراره ، يا فقيراً من الهدى أهلكه إعساره ، أتؤثر الخسران قل لي أو تختاره ؟ يا كثير الذنوب وقد دنا إحضاره ، يا أسيراً في حبس الطرد لا ينفعه إحضاره ، نقدك مزيف إذا حُك معياره ، كم رد على مثلك درهمه وديناره ، يا محترقاً بنار الحرص حتى متى تخبو ناره ، المذكرون بينكم قد اصبحوا كالسمار ، وأنتم قد جعلتم المواعظ مثل الأسمار ، وكأن القرآن عندكم صوت مزمار ، وقد ضاعت في هذه الأمور الأعمار ، فاين يكون لهذا الغرس إثمار
مضى زماني وتقضى المدى فليتني وفقت هذا الزمين
أرزمت النار وعاضتها فليعجب السامع للمرزمين
ليت دموعي بمنى سُبلت ليشرب الحجاج من زمزمين
إخواني : آن الرحيل وما عندكم خبر ، إلى كم توعظون ولا تتعظون ، وتوقظون ولا تتيقظون ، وتتعبون الناصح ولا تقبلون ، ويكفي في البيان رؤية الأقران يرحلون ( أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ) الطور : 15 .
أكلفتم ما لا تطيقون ، أكلمتم بما لا تفهمون ، مالكم عن مآلكم معرضون ، ما هذا الفتور وأنتم سالمون ، ما هذا الرقاد وأنتم منتبهون
أقضي الدهر من فطر وصوم وآخذ بلغة يوماً بيوم
وأعلم أن غايتي المنايا فصبراً تلك غاية كل قوم
فإن تقف الحوادث دون نفسي فما يتركن إشمامي ورومي
كم مؤمل إدراك شهرٍ ما أدركه ، فاجأه الموت بغتة فأهلكه ، كم ناظر إلى يوم صومه بعين الأمل طمسها بالممات كف الأجل ، كم طامع أن يلقاه بين أترابه ألقاه الموت في عقر ترابه.
استغفر الله بقلبٍ منيب يعلم أن الموت منه قريب
مأخوذ مالٍ حربا يشتكي وعادمُ الدين الأخيذ الحريب
والإنس جنس كله ظالم والمنصف العادل فيهم غريب
والعيش محبوب أتاك الأذى منه فواها للبغيض الحبيب
اصبر إذا العام سطا جذبه فطالما جاءك عام خصيب
خاطبت أقواما فلم يسمعوا فهل تشبهت بهم يا خطيب
تغسل كفيك من الزهم ألا فاغسل فاك من لفظك حتى يطيب
إخواني : بادروا شهركم بأفعال الخير ، وأفردوها عن الخطايا لتكون وحدها لا غير ، واعلموا أن شهركم هذا شهر إنعام ومير ( جلب طعام ) ، تعرف حرمته الملائكة والجن والطير ، واهاً لأوقاته من زواهر ما أشرفها ، ولساعاته التي كالجواهر ما أظرفها ، أشرقت لياليها بصلاة التراويح ، وأنارت أيامها بالصلاة والتسبيح ، حليتها الإخلاص والصدق ، وثمرتها الخلاص والعتق .
تيقظ يا غافل ، وانهض ببدارك ، فمالك لأهلك ، وأنت ضيف بدارك ، واستدرك قديمك ، وأصلح بالتقى حديثك ، وامنع لسانك اللغو واجعل الذكر حديث ، وصحح بمجانبة الهوى إيمانك ويقينك ، وتدرع كلماتي هذه في حرب الغرور يقينك ، إلى متى في حب البطالة منكمش ، وبلذات الكسل جذلان دهش ، وإذا قات الهوى بت من الحزن ترتعش أما رأيت ذا مالٍ وأملٍ لم يعش ، أما شغلك الموت عن زخرف قد نقش ، أما تعلم أنك للموت في القبر تفترش ، أما تحذر يوماً لا تجد الماء من العطش ، عجباً لموقن بالقيامة لم يجع ولم يعطش .
تالله لو قيل لأهل القبور تمنوا لتمنوا يوماً من رمضان ، إلى متى أنت في ثياب البطر ، أما تعلم مصير الصور، عجباً لك تؤمن وتأمن الغير ، أما ينفعك ما ترى من العبر ، أصم السمع أم غشي البصر ، تالله إنك لعلى خطر ، آن الرحيل ودنا السفر ، وعند الممات يأتيك الخبر ، كلما خرجت من ذنوب دخلت في أخر ، يا قليل الصفا إلى كم هذا الكدر ، أنت في رمضان كما كنت في صفر ، إذا خسرت في هذا الشهر فمتى تربح ، وإذا لم تسافر فيه نحو الفوائد فمتى تبرح ، يا من إذا تاب نقض ، يا من إذا عاهد غدر ، يا من إذا قال كذب ، كم سترناك على معصيى ، كم غطيناك على مُخزية.
ياعامراً ما يقطن يا هالكاً ما يفطنُ
يا ساكن الحُجرات ما لك غيرُ قَبرك مسكنُ
أحدث لربك توبةً وسبيلُها لك ممكنُ
فكأن شخصك لم يكنٍ في الناس ساعة تُدفن
وكأن أهلك قد بكوا سراً عليك وأعلنوا
فإذا مضت بك ليلةَ فكأنهم لم يحزنوا
الناسُ في غفلاتهم ورحى المنية تطحن
ما دون دائرة الردى حصن لمن يتحصنُ
مالي رأيتك تطمئن إلى الحياة وتركنُ
وجمعت ما لا ينبغي وبنيت ما لا تسكنُ
وسلكت فيما أنت في الدنيا به متيقنُ
أظننت أن حوادث الأيام لا تتمكنُ
أيها المجتهد : هذا ربيع جدك ، أيها الطالب هذه أوقات رفدك ، تيقظ أيها الغافل من سنة البطالة ، تحفظ أيها الجاهل من شبه الظلالة ، اغتنم سلامتك في شهرك ، قبل أن تُرتهن في قبرك ، قبل انفراض مدتك وعدم عُدتك وإزماع فوتك وانقطاع صوتك ، وعثور قدمك وظهور ندمك ، فإن العمر ساعات تذهب وأوقات تنهب . وكلها معدود عليك والموت يدنو كل لحظة إليك.
إنها نصيحة لي ومني إليك ، لعلها تقع في قلبي وقلبك ، وينصلح حالي وحالك
ويتقبلها ربي في ميزاني وميزانك .
وانتظرونا في السلسلة الرمضانية