موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || مهرجان البراءة للجميع
اسم المقالة : مهرجان البراءة للجميع
كاتب المقالة : أمجد ناصر

الإشارات إلى ما كانت ستنتهي إليه محاكمة حسني مبارك كثيرة. وكانت متوقعة، منذ آخر جلسة في محاكمة الرئيس الذي أجبرته ثورة شعبية، لم يعرف التاريخ مثيلاً لها من قبل، على "التنحي". لم يكن الفيلم الذي عرضه قاضي "محاكمة القرن"، في الجلسة ما قبل الأخيرة، بلا دلالة. انظروا حجم الوثائق والمستندات التي وقفتُ أمامها قبل أن أنطق بحكمي! هذا ما كان يريد أن يقوله لنا القاضي، بالصورة التي تُغني عن ألف كلمة. استغرب كثيرون قيام قاضٍ بعرض تحقيق تلفزيوني، يظهر مدى "صعوبة" القضية التي سيحكم بها، و"ضخامة" مستنداتها، قبل النطق بحكمه، فهذا إجراء غير مسبوق في القضاء المصري، ولكن الحُكم الذي توصل إليه القاضي كان يبرر ذلك الإجراء الدرامي: تأجيل النطق بالحكم، لـ "مزيد" من الدراسة والتدقيق.
المذهل في الأمر أنَّ هذا "التأجيل"، الذي أريد له إسباغ التأني والتدقيق على أكبر محاكمة في تاريخ مصر، انتهى إلى ما يسميه المصريون "مهرجان البراءة للجميع" الذي شهدنا وقائعه يوم السبت الماضي. وفيه كُتِبَ الكثير، وقيل الكثير مما لن أخوض فيه. ما لفتني كـ "مراقب" لـ"محاكمة القرن" هو لغة الجسد، النبرات، الموقف النفسي لـ "مسرح" المحاكمة و"أبطالها"، وهذا، بحدِّ ذاته، جزء لا يتجزأ مما انتهت إليه القضية، بل لعله أن يكون أهمّ مما انتهت إليه من أحكام "تاريخية".
لا يهمني تاريخ القاضي محمود الرشيدي الذي قال إنه "قريب من القبر"، ولن يخضع لأية "ضغوط"، تجبره على النطق بحكم لا توصله إليه مستندات الأحداث والوقائع، ولا تهمني آثار "زبيبة" الصلاة على جبينه، فقد رأينا، في السنين الماضية، الكثير من "الزبيب" على جباه تجار في الأسواق ومتاجرين بالدين.. تهمّني "هيئته" وهو يستمع لحسني مبارك يتلو من وراء القضبان "بياناً" رئاسياً، يخاطب فيها "شعبه"، ويحكم فيه بالبراءة على نفسه قبل أن ينطقها الرشيدي. عودوا إلى فيديو المحاكمة، ولاحظوا هيئة جسد الرشيدي، وهو يتوجَّه بنصفه الأعلى، معتدل الجذع، في اتجاه مبارك. تشي ملامح وجهه بأنه في حضرة رئيس، وليس أمام "متهم" في عنقه قتلى وجرحى وفساد وإفساد. فحتى لو نطق، بكلمة "متهم"، وهو يخاطب مبارك، فإنَّ ذلك لم يبدُ على وجهه، ولا على حركة يديه المرتبكتين، ولا في إنصاته العميق لكلمات مبارك. ثم لاحظوا نبرة الرشيدي، وهو يعلن الحكم ببراءة حبيب العادلي، وزير الداخلية سيئ الصيت والسمعة، ومساعديه في "التهم المنسوبة" (وهي الأخطر: قتل المتظاهرين). في محاكمة خطيرة كهذه، ولحظةٍ حرجةٍ كهذه، كان على أي قاضٍ (بصرف النظر عن عواطفه وانحيازاته الداخلية) أن يتبنّى نبرة محادية، لا حماس فيها ولا غضب. الرشيدي لم ينطق كلمة براءة على العادلي ومساعديه، بتلك النبرة الحيادية المطلوبة، بل كما لو أنه يعلن مفاجأة غير متوقعة، أو كمن يزفُّ بشرى. برااااءة، عودوا إلى مقاعدكم!
لكن، الأدهى في "محاكمة القرن" هي كلمة مبارك المطوَّلة التي رسم فيها صورة مزوَّرة لعهده، فضلاً عن وضعه النفسي الذي لم تزعزعه القضبان. فالرجل الهرم، المريض، المتهم بقضايا قتل وفساد، الذي ثار عليه شعبه وأجبره على ترك كرسي الرئاسة، كان نضر الوجه، داكن شعر الرأس، في حلة كحليّة أنيقة، على عينيه نظارته "الخالدة" (لإخفاء ما يمكن أن تفضحه عيناه) واثقاً، أتمَّ الثقة، بأن يومه الأخير، كمتهمٍ، لن ينقضي إلا بتتويجه، قضائياً، بالبراءة من كل التهم المنسوبة إليه. فمَنْ، إذن، قتل المتظاهرين وقنصهم في العيون ودهسهم بالعربات وخنقهم بالغاز؟ مَنْ؟
لم يحطم الرشيدي قلوب أمهات شهداء الثورة المصرية فقط، بل حطم اللغة العربية التي أدخلها غرفة العناية الفائقة، وأخرج منها مبارك سالماً غانماً. -

تاريخ الاضافة: 01/12/2014
طباعة