موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || أبعاد التوترات السياسية بين أمريكا والسعودية
اسم المقالة : أبعاد التوترات السياسية بين أمريكا والسعودية
كاتب المقالة : المفكرة

مر العالم المعاصر بالعديد من الأنساق السياسية في إدارة وضبط العلاقات الدولية، بدأت منذ الحقبة الاستعمارية منذ أواسط القرن التاسع عشر، بعالم متعدد القطبية يسيطر عليه عدة قوى عالمية مثل إنجلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا القيصرية وهولندا، ثم دخل القرن العشرون لتبرز قوة الولايات المتحدة الأمريكية دوليًّا، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية يظهر نسق دولي جديد وهو النسق ثنائي القطبية، حيث سيطر على الساحة العالمية قوتان كبيرتان هما الاتحاد السوفيتي وحلفاؤها، والولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، وخلال هذه الحقبة ظهرت فكرة الأحلاف السياسية والعسكرية والاقتصادية، وتوسع الأمريكان والروس في سياسة بناء الأحلاف لإحكام السيطرة على بقاع العالم الاستراتيجية، وظهرت عشرات الأحلاف المتنوعة، حتى لم يعد هناك بلد إلا وهو مرتبط بنوع ما أو بآخر بواحدة من أحلاف الروس أو الأمريكان، وخلال هذه الحقبة ارتبطت دول الخليج عامة والعربية السعودية خاصة بأحلاف وثيقة من الولايات المتحدة باعتبارها الوريث الشرعي للنفوذ الإنجليزي الذي كان مهيمنًا لفترة طويلة على هذه البقاع بالغة الأهمية من الناحية الإستراتيجة والاقتصادية.

الشراكة الأمريكية السعودية بدأت مع بداية الخمسينيات في إطار اقتصادي أمني بحت، حتى أصبحت هذه الشراكة واحدة من ثوابت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأرسخ شراكة قائمة وفاعلة بين بلدين حتى الآن، وعلى الرغم من وجود بعض الخلافات خلال الستين سنة الماضية، مثل الحظر النفطي العربي عام 1973، ورفض الولايات المتحدة بيع أسلحة إلى السعودية في الثمانينيات من القرن الماضي بسبب الاعتراضات "الإسرائيلية"، ودور الخاطفين السعوديين في تفجيرات 11/9، والدعم اللامحدود من الولايات المتحدة لـ"إسرائيل"، والذي كان يغضب دائمًا السعوديين. إلا إن كل هذه الخلافات لم تعكر صفو العلاقة والشراكة الأمريكية السعودية للدرجة التي وصلت إليها مؤخرًا، حتى أصبح الكثيرون يرون أن فسخ الشراكة وانتهاءها هي مسألة وقت لا غير، فهل وصلت العلاقة بين أمريكا والسعودية لهذه الدرجة؟ وما الذي قادها إلى مثل هذا المستوى من التوتر والفتور؟

خطوات متبادلة كانت بمثابة جرس إنذار لكل طرف، أن الآخر غير راض على الأوضاع القائمة، فأمريكا تململت من دعم السعودية للانقلاب العسكري في مصر، ورأت فيه تحركًا يضر بالأوضاع الإقليمية، فردت برفضها طلب السعودية تأمين مراكز النفط في حال قيام التحالف الأمريكي الأوروبي العربي بقصف مواقع الأسد في سوريا، ورفضت أيضًا إطْلاعها على الخطط العسكرية الخاصة بالعمليات الحربية ضد الأسد، فردت السعودية بإعلان نيتها عن تحديث قواتها المسلحة وتنويع مصادر أسلحتها في إشارة لشراء السلاح من روسيا والصين وفرنسا، فردت أمريكا بما لم يتوقعه أحد حيث تخلت عن خطط ضرب سوريا وتراجعت في الفكرة برمتها، مما أغضب السعودية بشدة وهي ترى أن الأسد قد تجاوز كل الخطوط الحمراء، فردت السعودية بدعم الثوار السوريين بالسلاح والعتاد الجديد والحديث، فردت أمريكا على ذلك بتقارب غير مسبوق مع إيران، ولأول مرة منذ 34 سنة يجري رئيس أمريكي مهاتفة تليفونية مع رئيس إيراني، فردت السعودية بالاعتذار عن مقعد مجلس الأمن الذي ظلت لعامين تحارب من أجل الحصول عليه، ولم تكتف بالرفض ولكنها شنت هجومًا ضاريًا على المنظومة الأممية كلها واتهمتها بالعجز والفشل، فردت أمريكا برفع سقف إنتاجها من البترول ليصل إلى 12 مليون برميل يوميًّا، وبذلك يكون الإنتاج الأمريكي يفوق نظيره السعودي لأول مرة في التاريخ، فردت السعودية هذا الأسبوع باجتماع الأمير بندر بن سلطان مدير المخابرات العامة مع دبلوماسيين أوروبيين وإبلاغهم في هذا الاجتماع أن السعودية ستقلص الشراكة مع أمريكا بخصوص الشأن السوري، وأنها ممتعضة من التراجع الأمريكي، وألمح بندر من طرف خفي للحضور بإمكانية تضرر وتأثر عقود الطاقة طويلة الأجل مع الأمريكان جراء هذا التوتر السياسي.  

هذا التجاذب السعودي الأمريكي له أبعاد أكبر من هذه الخطوات التصعيدية المتبادلة، تعود في الأساس لعدة أمور من أبرزها: إحساس السعودية بالمرارة والغصة والإحباط من طريقة تعامل الأمريكان مع حلفائهم، فالأمريكان يهددون إيران منذ أكثر من ثلاثين سنة، ومع ذلك لم يقدموا على خطوة واحدة من شأنها ترجمة هذا التهديد بصورة عملية، من وقف أو قمع التهديد الإيراني للخليج، بل العكس هو الحادث فأمريكا لم تضرب في واقع الأمر إلا أعداء إيران مثل صدام وطالبان، وخلال الفترة الأخيرة بدا للعيان أن أمريكا تجافي حلفاءها وتتودد إلى أعدائها.

من هذه الأمور أيضًا ظهور تيار جديد داخل الأسرة المالكة في السعودية ينظر إلى الشراكة مع أمريكا بصورة أكثر انفتاحًا وبرجماتية وواقعية عما ذي قبل، وهو التيار الذي يقوده على وجه التحديد الأمير بندر بن سلطان رئيس المخابرات ومعه عدة شخصيات نافذة في الأسرة السعودية مثل محمد بن نايف، ومتعب بن عبد الله، وخالد التويجري، كما يحظى هذا التيار بدعم قوى من ولي العهد الأمير سلمان، هذا التيار يرى أن أمريكا غير جادة في العديد من القضايا المصيرية في المنطقة مثل نزع السلاح النووي الإيراني، ووقف الأطماع والأخطار الإيرانية في الخليج، وأن أمريكا تلعب بالورقة الإيرانية لإضعاف دول الخليج وإبقائها رهينة التبعية والاحتياج لأمريكا، والأمير بندر مدير المخابرات العامة ومن يقود هذا التيار الجديد مكث سفيرًا لبلاده في واشنطن من سنة 1983 حتى سنة 2005 سبر خلالها أغوار السياسة الأمريكية، ومر عليه رؤساء جمهوريون وديمقراطيون، وكان واحدًا من أهم الدبلوماسيين في واشنطن حتى لقبوه بعميد الدبلوماسيين، وكان الوحيد الذي يحظى بحراسة رئاسية خلال تنقلاته بأمريكا، الأمير بندر أيقن أن أمريكا حليف ضرره أكبر من نفعه، حليف يأخذ أكثر مما يعطي، حليف لا يأمن غدره ومكره، لذلك كان لابد من إعادة صياغة لشكل هذه العلاقة وهو ما يجري اليوم على قدم وساق بين البلدين.

تحركات الأمير بندر من أجل إعادة بناء التحالف الأمريكي السعودي هو مربط الفرس في التوترات الحادثة بين البلدين، فأمريكا نظرت إلى بندر أنه المخطط والداعم الرئيس للانقلاب الناعم الذي وقع في قطر، والانقلاب الخشن الذي وقع في مصر، وأن بندر يتحرك منفردًا إزاء تسليح الثوار السوريين، وأدركت أن هذا السياسي المخضرم يريد الخروج بالسياسة الخارجية السعودية من فلك الحلف التاريخي والتقليدي بين البلدين، فهو يتقارب مع بوتين وزاره عدة مرات، ويتفق معه في العديد من وجهات النظر ـــ خلاف الوضع السوري ـــ، لذلك فأمريكا أخذت في تصعيد خطواتها لإرباك السعودية من أجل الإطاحة بالأمير بندر والعودة بالسعودية للمربع الأول في العلاقات، وهي تعتمد على علاقاتها الاقتصادية الراسخة مع السعوديين، وثقتها التامة في أن إحباط السعودية من أميركا لن يضر بالعلاقات الاقتصادية بين البلدين رغم تهديد رئيس المخابرات السعودية بإجراء تغيير كبير في هذه العلاقات. فالهدف الرئيس من هذا التصعيد والتوتر الحادث بين البلدين هو رغبة السعوديين في الخروج من شرنقة الأمريكان، ومقاومة الأمريكان لهذه المساعي الحثيثة للخروج، فلمن تكون الغلبة في النهاية؟ هل ستعاد شكل العلاقة والشراكة بين البلدين؟ أم ستعود كما كانت سمنًا على عسل؟

تاريخ الاضافة: 30/10/2013
طباعة