موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || ماذا وراء الغزل الأمريكي الإيراني ؟
اسم المقالة : ماذا وراء الغزل الأمريكي الإيراني ؟
كاتب المقالة : المفكرة

من الأمور التي أصبحت شبه يقينية على المستوى الدولي والإقليمي ؛ أن الثورة السورية قد أصبحت حجر الزاوية ونقطة الانطلاق نحو تشكيل نظام عالمي وإقليمي جديد تتراجع فيه فكرة النسق أحادي القطبية الذي يسيطر على العالم ويقوده حسب سياساته وتوجهاته ومصالحه ، فسوريا قد أصبحت ملعبا تتقاطع عنده مصالح الدول المؤثرة في النظام الدولي، وتبرز أهميتها عند لحظات التحول الكبرى في طبيعة وشكل هذا النظام باعتبارها بوابة يمكن عبرها هندسة المصالح وإعادة صياغة موازين القوي الجديدة . هذا المخاض للنظام العالمي الجديد سيفرز أنماطا مغايرة تتبدل فيها بنية الأحلاف القديمة ، وتتغير فيها القوانين الثابتة في العلاقات الدولية والإقليمية ، وعلى ما يبدو أن الثوابت الإستراتيجية المتوارثة عبر العقود في طريقها للتبدل والإحلال .

العلاقات بين أمريكا وإيران اتصفت على الدوام منذ الثورة الإيرانية سنة 1979بسياسة الخطوط المتوازية في الكثير من الملفات ، ونادرا ما حدث تقاطع في الملفات الإيرانية الأمريكية ، هذا ما جعل التعاون غير المعلن هو السمة الرئيسية لهذه العلاقات ، فلا بأس بتجاذبات ومنافرات دعائية علانية مادامت لم تصل إلى العمق حيث العلاقات الإستراتيجية المتبادلة والتي تقبع ساكنة في أساسات البنية الإقليمية شاهدة على مدى النفاق والخداع في ما يسمي السياسة الدولية . والأمثلة على ذلك كثيرة فمنذ أن نزل السفير الأمريكي في طهران للرقص مع الإيرانيين في الشارع يوم سقوط الشاه سنة 1979 ، والرقص الأمريكي الإيراني مازال مستمرا ، ففي الوقت الذي فرض العالم فيه حظرا على تصدير السلاح لإيران أثناء حربها مع العراق في الثمانينيات ، كانت المخابرات الأمريكية تقوم بتصدير السلاح لإيران عبر وسطاء فيما عرف إعلاميا بفضيحة إيران جيت ، وفي الوقت الذي كان الأمريكان يحضرون للهجوم البري والجوي على الكويت لإخراج العراقيين منها سنة 1991 كانت إيران تقدم تسهيلات مادية ولوجستية حاسمة للتحالف الدولي ، وفي الوقت الذي كان الأمريكان يبحثون عن أفضل طريق للهجوم على أفغانستان بعد أحداث سبتمبر كانت قوات تحالف الشمال الموالية لطهران تتقدم من مزار شريف بإشارة من قادة الحرس الثوري الإيراني نحو كابل منهية شطرا كبيرا من المهمة الثقيلة على الأمريكان ، وعندما أراد الأمريكان أن يطيحوا بالرئيس العراقي صدام حسين كان شيعة العراق وأزلامهم مثل الجلبي والجعفري والحكيم وعلاوي وغيرهم كثير من أكبر أعوان الأمريكان ، مما حدا بالمراقبين الدوليين لتأكيد وترديد مقولة نائب الرئيس الإيراني " علي أبطحي " : " لولا إيران ما دخلت أمريكا العراق وأفغانستان "

ورغم هذا التعاون السري الكبير بين الطرفين إلا أنهما حرصا أشد الحرص على الظهور إعلاميا بمظهر الأعداء الألداء والخصوم الفرقاء ، فأمريكا في الخطاب الإعلامي الإيراني هي الشيطان الأكبر ، وإيران في الآلة الإعلامية الأمريكية هي راعية الإرهاب العالمي والتهديد الأول للسلام الإقليمي والدولي والضلع الأساسي في محور الشر الشهير . فكيف نفسر إذا هذه الحالة غير المسبوقة من الغزل العلني بين مؤسستي الرئاسة الأمريكية والإيرانية ؟ والتي وصلت لدرجة إجراء اتصال هاتفي بين الرئيسين الأمريكي أوباما والإيراني روحاني ، وذلك لأول مرة بين النظيرين منذ 34 سنة ، تبادلا فيه حديثا وديا عن العلاقات الثنائية والأزمة السورية ، فلماذا أقدم أوباما على هذه الودية العلانية ، وما هو مغزى هذا التقارب وتوقيته ومن المقصود من ورائه ؟!

حتى نفهم مغزى هذا التقارب المريب بين أمريكا وإيران يلزمنا أن نعيد قراءة تحركات القوى الإقليمية والدولية المعنية بالمخاض السياسي الذي أفرزته الثورات العربية ، فمن الأمور اليقينية في قضية الثورات العربية وتداعياتها أنها كانت محل رفض وشك وارتياب من كل أنظمة وحكومات القوى الإقليمية والدولية ، وما لبث أن تحول الرفض والشك إلى عداء بعضه ظاهر وبعضه مستتر ، فأمريكا وأوروبا وجدت نفسها مجبرة للتعامل مؤقتا مع خيار الشعوب الرافض لهذه الأنظمة الاستبدادية ، وقبلت بالأمر الواقع ورضخت للإطاحة بأكبر عملائها في المنطقة ، تمهيدا لوضع أفضل السيناريوهات في كيفية احتواء الأوضاع الجديدة ، في حين أن أنظمة أخرى إقليمية رفضت قبول هذا الأمر الواقع ورأت في الربيع العربي تهديدا مباشرا لعروشها وأنظمتها المستقرة ، فانتقلت سريعا من حالة الارتياب والتوجس إلى حالة الرفض والعداء ، فمارست دول الخليج أو ما يعرف إعلاميا محور دول الاعتدال العربي ، ضغوطا شديدة على أنظمة الربيع العربي بخاصة نظام الرئيس المصري محمد مرسي ، من أجل إفشال هذه الأنظمة الوليدة ، وأخذت وتيرة الضغوط في التصاعد حتى انتهت بالإطاحة بالرئيس المصري نفسه ، وذلك بدعم مباشر للانقلاب العسكري الذي وقع في 3 يوليو الماضي ، وهو الأمر الذي أدى لفوضى عارمة واحتجاجات ضخمة أدت إلى سقوط آلاف القتلى والجرحى واعتقال قرابة العشرين ألف معارض للانقلاب .

هذا التباين في الرؤى بين أمريكا والاتحاد الأوروبي من جهة ومحور دول الاعتدال العربي ذات النظم الملكية من جهة أخرى أدى لوجود العديد من التحركات الانفرادية المتعارضة من هذا الجانب أو من الجانب الآخر ، ثم جاءت الأزمة السورية وتداعياتها الأخيرة ، خاصة بعد تعاظم الدور الروسي فيها  لتعيد ترسيم خريطة الولاءات والتحالفات القديمة في المنطقة والتي ظلت شبه ثابتة ومستقرة منذ عهود ، فلقد نقلت العديد من دوائر الاستخبارات الدولية والإقليمية عدة تقارير تتحدث عن أن نهجا استراتيجيا جديدا تتبناه مجموعة نافذة في الأسرة الحاكمة في السعودية مكونة من ثلاثة أمراء كبار ورئيس الديوان الملكي وتهدف لكسر وضعية العلاقات التقليدية التاريخية بين السعودية وأمريكا ، وإحداث إصلاحات واسعة داخل هيكل صناعة القرار في هذا البلد الأهم في منطقة الخليج ، والأهم من ذلك كله تبني سياسة خارجية نشطة ومغايرة لما عليه الحال الآن ، وتحظى تحركات هذه المجموعة الجديدة بدعم قوى من ولي العهد وأطراف أخرى قوية داخل الأسرة الحاكمة .

هذه المجموعة الجديدة تشك كثيرا في مصداقية السياسات الخارجية لأمريكا خاصة تلك المتعلقة بالمنطقة ، وبالأخص مسألة حسم الصراع السوري والتخلص من برنامج إيران النووي ،كما أنها تعادي جماعة الإخوان المسلمين وتنظر إلى نجاحاتها الباهرة في مرحلة ما بعد الربيع العربي على أنها تهديد مباشر للأنظمة القائمة في دول الخليج ، ومن ثم أخذت في العمل بالقوة من أجل إفشال تجربة الإخوان في الحكم ، كما تنسب هذه التقارير الإستخباراتية إلى هذه المجموعة دورا كبيرا في الإطاحة بالأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني عن الحكم لصالح ابنه تميم وأُزيح رئيس الوزراء الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، الذي كان يُتهم بدعم صعود الإخوان السياسي في المنطقة، وهي تؤثر في المغرب وتونس ، وتهيئ لهذا في سوريا ، وذلك للغرض نفسه: إبعاد الإخوان وإفشالهم في الحكم.

وكل هذه الأمور ربما لا تغضب الأمريكان ولا تتقاطع مع إستراتيجياتهم الرامية للاحتواء تداعيات الربيع العربي ، ولكن الذي أغضب الأمريكان فعلا وجعلهم يتحركون بالاتجاه الذي يضغطون به على هذه السياسات الجديدة هو التقارب المتنامي بين هذه المجموعة النافذة في دول الخليج من ناحية ، وبين الموقف الروسي إزاء تطورات الشرق الأوسط والتعامل مع الثورات العربية من ناحية أخرى ، فعلى الرغم من التعارض في العديد من المواقف بين هذه الدول وروسيا بسبب الأزمة السورية إلا إن موقفهما متقاربا إزاء الصعود السياسي لجماعة الإخوان المسلمين ، وكانت زيارة الأمير بندر بن سلطان مدير المخابرات السعودية إلى العاصمة موسكو والاجتماع مع بوتين في 31 يوليو نقطة فاصلة في مسار التقارب الأمريكي الإيراني ، قرر الأمريكان على أثرها التحرك بقوة وعلانية ناحية الجانب الإيراني الذي يعتبر فزاعة الخليج الكبرى وأسوأ مخاوفها ، فهذا التقارب الذي حرص الأمريكان على إخراجه للعلن ليشاهده الجميع خاصة دول الخليج سوف يحد كثيرا من قوة وحضور دول نادي الخليج العربي بشكل عام في المعادلة الإقليمية، وتحديدا في المسار السوري، لصالح اللاعب الإيراني ، خصوصا وأن دمشق باعت تماما ملف الكيماوي إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيا.

التقارب الأمريكي الإيراني الحادث هذه الأيام يؤكد على أن خريطة التحالفات التقليدية في المنطقة آخذة في التداعي ، وثمة بناءات إستراتيجية جديدة في المنطقة يتم من خلالها ترتيب الوضع السوري بعد إخلائه تماما من أسلحة الردع التي تخلخل نوعا ما منظومة التفوق الإسرائيلي على المستوى الإقليمي ، واعتماد اللاعب الإيراني كعنصر توازن إستراتيجي في المنطقة ، والتخلص مرحليا من هذه المجموعة النافذة التي تحاول الخروج من أسر التبعية الأمريكية والارتهان لخيارات أمريكا إقليميا ، وربما نرى في الأيام المقبلة خطوات تقاربية بين أوباما وروحاني أشد مسرحية ودعائية من أجل تسريع وتيرة عمل النظام الإقليمي الجديد

تاريخ الاضافة: 07/10/2013
طباعة