موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || الكاشغري بين الإسلاميين والليبراليين
اسم المقالة : الكاشغري بين الإسلاميين والليبراليين
كاتب المقالة : شريف عبد العزيز

مازالت أصداء وتوابع حادثة الكاتب السعودي "حمزة الكاشعري" المتهم بالإلحاد مستمرة وتشغل حيزًا لا بأس به من اهتمامات الصحف العربية حتى وصلت ارتداداتها للصحف الغربية، وكثرت المقالات عن هذه الحادثة وفاض الكلام فيها بين مهاجم ومدافع، وسادت حالة شديدة من الاستقطاب الفكري، بحيث صارت الحيادية والإنصاف في تقييم هذه الحادثة مطلبًا عزيزًا ولكنه في نفس الوقت ضروري وحتمي، حتى لا تكن هذه الحادثة وأمثالها تأصيلاً لهذا الاستقطاب والاحتقان الذي يشوش على التقييم المفيد والحقيقي، وحتى لا تتحول لكعب أخيل يستغلها كل كاره وحاقد ومبغض للإسلام والمسلمين من أجل الطعن فيه.

وبجولة واسعة على وسائل الإعلام التي تناولت الحادثة، وبقراءة متأنية وفاحصة ـ قدر جهدي ـ لما كتب بخصوصها من كلا الفريقين ـ المهاجم والمدافع ـ نلاحظ عدة أمور منها:

الأمر الأول: أن ثمة تضخيم مفتعل لهذه القضية وإبراز لها علي أنها قاصمة الظهر ونذير الخراب الذي لا بعده ولا قبله، وهذا التضخيم لا يخدم في النهاية سوى صاحب القضية نفسه ومن يقف وراءه، وهذا التضخيم للأسف لم يأت من العلمانيين أو الليبراليين أو من هو على شاكلة الكاشغري، لكن من الغيورين والمدافعين عن جناب الحبيب وسيد الخلق محمد صلوات ربي وتسليماته عليه، فقد تبارى العلماء والكتَّاب الإسلاميون وطلبة العلم في تصوير الحدث واستبشاعه وتهويله وتجييش المشاعر واستنفار القراء والناس ضد الكاشعري، مما جعل الناس يظنون أن حادثة الكاشغري ظاهرة ولا نادرة، وأن الإلحاد قد أصبح الخطر الأعظم الذي يواجه الأمة، وأنه قد انتشر في كل مكان، مع إقراري ببشاعة الحادثة وردة صاحبها وضرورة التصدي له ولأمثاله بأقسى حزم، ووجوب قيام أهل العلم بدورهم في التصدي لمثل هذه الجرائم البشعة، ولكن المبالغة من قبل الغيورين في تضخيم الحدث ألقى بظلال قاتمة على الوضع داخل المجتمعات الإسلامية عمومًا والسعودي خصوصًا، ووصمت العالم الإسلامي بما ليس فيه من شيوع الإلحاد والزندقة، مع أن أمثال هذه الحوادث قد وقعت عبر التاريخ ولم يخل منها عصر، وطابور الملاحدة طويل وممتد، وتعامل معهم المسلمون السابقون حكومة وشعبًا بمقتضى الشريعة دون تهويل ولا إهمال، ومبدأ تضخيم الحالات الشاذة وإبرازها هو مبدأ صهيوني الأصل وضعه الطبيب اليهودي النمساوي فرويد الذي بنى دراساته ونظرياته على أمثال هذه الحوادث الشاذة وجعلها الأصل في المجتمع، والتعامل الأمثل مع الحدث هو تقديمه للقضاء وفضح منهجه وطريقته ومن هو على شاكلته ومن يقف ورائه ويدعمه ولو كان في أعلى المناصب، دون مبالغة تسيء للمجتمع وتعيق عمل العدالة وتطبيق العقاب الذي يستحقه.

الأمر الثاني: أن هذه الحادثة مع إقرارنا بأنها نادرة وليست ظاهرة إلا أنها على فرديتها وندرتها تستحق الدراسة والبحث والنظر، خاصة وأنها قد وقعت في بلد معروف بأنه أكثر البلاد الإسلامية محافظةً وتطبيقًا للشريعة، فنحتاج لأن نجيب على عدة تساؤلات تتعلق بهذه الحادثة، نحتاج لأن نتحاور ونستمع لهذا الملحد الذي تفاخر بإلحاده، ونسأله عما خطت أنامله مما يعجز القلم أو اللسان عن إعادته أو نقله، ونسأله قبل أن نسارع بعقابه وتشهيره، ونقول له كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب بن بلتعة: ما حملك على هذا؟ نحاول أن نتعرف على نفسية هؤلاء الملحدين وكيف يفكرون وندخل إلى عقولهم وقلوبهم لنعرف أين الخلل؟ ولا نلقي باللائمة على الكاشغري وحده، ولا يفهم من هذا الكلام أني أعذره ولو بمثقال ذرة، ولكن أتساءل من أين جاء الخلل؟ هل الخلل في تربيته الأولي في بيته؟ أم في ثقافته وتعليمه ومن علَّمه؟ أم في صحبته ورفقائه؟ أم في بعض الرموز والشخصيات المشهورة إعلاميًّا والتي تبطن الكفر والإلحاد وتصطاد ضحاياها في هدوء لتحرفهم عن دينهم؟ أم في المواقع الإلكترونية وشبكة النت المليئة بالمواقع التي تروج للإلحاد وتدعو للشك والطعن في الدين؟ فلابد من الوقوف على أسباب الحادثة.

فحادثة الكاشغري قد تتحول مع الوقت إلى ظاهرة ونراها تتكرر كثيرًا، وإن المسارعة بالعقاب قبل معرفة الدوافع والأسباب ومن يقف وراءها تقضي على فرص نادرة وهامة في معرفة كيفية علاج هؤلاء، فقد يكون في المجتمع مثلهم كثير ولا ندري لأنهم لا يجاهرون كما جاهر الكاشغري، وضرر الصامتين لا يقل أبدًا عن ضرر المجاهرين بل يفوقهم، فهم ينخرون في جسد المجتمع في صمت وهدوء تمامًا مثل مرض السرطان "الخبيث" الذي ينهش جسد المريض في صمت ودون أدنى ألم حتى إذا وصل لمرحلة التمكن من جسد المريض أسفر عن وحشيته المميتة ولم يجد معه علاج ولا دواء.

الأمر الثالث: أن العديد من المقالات التي كتبت متناولة هذا الموضوع خلطت خلطًا متعمدًا بين جريمة الردة وبين بعض الظواهر السلبية الأخرى في المجتمعات الإسلامية، كأنها على قدمي المساواة في البشاعة والفظاعة مع جريمة من عينة الرشوة أو المحسوبية أو الفساد الإداري، وكلها جرائم وظواهر سيئة لابد من القضاء عليها بكل حزم وتطهير البلاد منها، ولكن أين هي من الجريمة العظمى والجناية الكبرى بحق سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؟ والبعض كتب وكأن هذه الظواهر والآفات الاجتماعية هي المسئولة وربما المبيحة في كتابات بعضهم لهذه الجريمة الشنعاء، في حين كتب البعض الآخر مما ينسب نفسه للفكر والعقلانية عن الحادثة معتبرًا إياها نوعًا من أنواع الاستبداد باسم الدين واستخدام التنكيل بالكاشغري لإلهاء الشعوب عن الظلم والفساد الراتع في مجتمعاتها، واستحضر نماذج تاريخية منقوصة من عهد الخليفة العباسي المهدي بالله وهو من أكثر الخلفاء تتبعًا للزنادقة والملاحدة وقتل منهم الكثيرين، استحضرها مبتورة منقوصة دون تمحيص ولا تدقيق ولا تحقيق ولا حتى دون أدنى مراعاة لأصول النقل التاريخي أو البحث العلمي، ليلصق هذه بتلك، ويحيد في النهاية عن أصل الموضوع ويلقي باللائمة كلها على الأنظمة الحاكمة، بصورة أظهرت الكاشغري بأنه ضحية وقربان يذبح لإرضاء شبق الإسلاميين للدم على حد وصف أحد رموز الليبرالية والعلمانية في بلاد الحرمين.

الأمر الرابع: أن هذه الحادثة قد كشفت بجلاء عن عدة حقائق هامة تتعلق بالأدوار المشبوهة والخطيرة التي تلعبها وسائل الإعلام في بلاد الحرمين، وكيف أنها تقف في الخندق المقابل لهوية وأصالة ومرجعية وثقافة الشعوب الإسلامية عمومًا والسعودي خصوصًا، فوسائل الإعلام قد كشفت وأسفرت عن ليبرالية قبيحة تبرر أي انحراف يقع في المجتمع حتى لو وصل لدرجة الإساءة لجناب سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وتحاول انتهاز أي حادثة من أجل النيل من التيار الديني الرسمي والتطوعي في بلاد الحرمين، وتشويه وتضليل الرأي العام بخصوص أداء وفعالية هذا التيار الإسلامي وآلية حركته ومدى نفوذه، كما كشفت هذه الحادثة عن الدور الآثم الذي تلعبه المراكز البحثية والمعلوماتية التي تدعي التثقيف والتنوير وهي تنشر المفاسد والانحرافات الفكرية والعقائدية وتتبع منهج الهالك عبد الله القصيمي في طرح الأسئلة والتشكيك واللمز الخفي للعقائد والثوابت الدينية في المجتمعات الإسلامية

وإجمالاً فإن قضية الكاشغري حادثة ذات عبر ودلالات وتحتاج لوضعها في إطارها المعرفي والبحثي الصحيح لنستخرج منها أهم الدروس في كيفية التصدي لها ووضع روشتة علاج وقائية تمنع تكرارها، ونزع فتيل أزمة قد تبدو عند كثير من المتشائمين فاتحة شرور لا تنتهي على بلاد المسلمين.

تاريخ الاضافة: 26/02/2012
طباعة