موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || صفقة الأسرى.. في سياق إقليمي متغير
اسم المقالة : صفقة الأسرى.. في سياق إقليمي متغير
كاتب المقالة : محمد سليمان الزواوي

متى نستطيع أن نحكم على صفقة تبادل الأسرى بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني بالإيجابية أو السلبية؟

عندما نتأكد نحن المسلمين أن "إسرائيل" لن تستطيع أن تعيد أولئك الأسرى بسهولة إلى سجونها مرة ثانية كما تفعل دائمًا عن طريق اختطافهم من الشوارع والمحال ومداهمة منازلهم، وعندما نتأكد أن "إسرائيل" لن تتمكن من قصف غزة مرة ثانية على غرار عملية "الرصاص المصبوب" التي أوقعت آلاف القتلى والجرحى.

إن الكيان الصهيوني في تعامله مع الشعوب العربية يعتمد على سياسة الردع باستخدام القوة المفرطة: ففي لبنان قام بتحطيم جنوبها وبنيتها التحتية لمجرد اختطاف جنديين، وصرح حسن نصر الله أنه لو كان يعلم أن رد فعل "إسرائيل" سيكون بهذه القوة لما قام باختطاف الجنديين، وفي فلسطين قام الكيان الصهيوني بحملة عسكرية على غزة بعد أن قامت المقاومة الفلسطينية باختطاف جلعاد شاليط، وبالرغم من فشله في تحريره إلا أنه قتل وجرح الآلاف؛ لذلك فالكيان يعتمد دائمًا على قوة القهر والقمع والتفوق النيراني ومساندة المجتمع الدولي له، وغض الطرف عن جرائمه.

واليوم فإن نجاح عملية تبادل الأسرى واحتسابها انتصارًا من عدمه تعتمد بصورة أساسية على السياق الجديد الذي نشأ بعد دخول تركيا على الخط في المواجهة مع الكيان الصهيوني منذ عملية الرصاص المصبوب، وبعد نشوء دولة جديدة على الحدود الجنوبية للكيان الصهيوني اسمها "مصر"، تلك الدولة التي تعيد إقامة أركانها مرة ثانية بعد ثورة يناير، والتي تحاول استعادة جزء من قوتها الناعمة وحضورها في المنطقة، بعد أن اختطفها مبارك لثلاثين عامًا.

فتحرير الأسرى هو حدث إيجابي بكل المقاييس، ولكن الأكثر إيجابية هو السياق الذي أحاط بها اليوم من دخول دول جديدة داعمة للقضية الفلسطينية، أو بالأحرى دول جديدة تخصم من قوة الكيان الصهيوني، ويعتمد تقزيم دورها المستقبلي على مدى إجادة الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية لإدارة قواعد لعبة التحالفات والقوة الناعمة في الفترة القليلة القادمة.

فتشير الكثير من المؤشرات إلى تضاؤل قوة الردع الصهيونية في حقبة الثورات العربية، وأن الشعب المصري دخل في المعادلة من جديد بعد أن كان معتقلاً لعقود، فاليوم تعلم تل أبيب أن أي عدوان على غزة سوف يقابل بغضب شعبي عارم، ليس في مصر وحدها، ولكن في بقية العواصم العربية، وأن الكيان الصهيوني يجب أن يتوقع رد فعل مغاير لنظيره في حقبة ما قبل الثورات، وأن اقتحام السفارة "الإسرائيلية" في القاهرة سيمثل نزهة لـ"إسرائيل" مقارنة بما يمكن أن يحدث من غضب شعبي في العواصم العربية إذا ما تم اجتياح غزة ثانية، والولايات المتحدة أيضًا تعلم علم اليقين أنها لن تصبح بمنأى عن الغضب الشعبي هي الأخرى، وأن حالات الغضب العارم سوف تطال مصالحها الممتدة في المنطقة، لذا فإن السياق يتغير، وهو الأهم من صفقة تبادل الأسرى بين الجانبين.

ولكن هذا السياق المتغير لن يغل يد "إسرائيل" عن الاستمرار في اختطاف المواطنين الفلسطينيين يوميًّا ومداهمة منازلهم وابتلاع أراضيهم، في حين أن الردع "الإسرائيلي" في عمليتي لبنان وغزة ربما يجعل القيادة الفلسطينية تحجم في المستقبل القريب عن اختطاف المزيد من الجنود الصهاينة، لذا فإن معادلة الأسرى ستظل تميل في جانب الكيان الصهيوني، حتى يضاف بُعد جديد إلى المعادلة بين الجانبين.

وهذا البعد الجديد ربما يتمثل في إعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد، حتى إذا منع الفيتو الأمريكي قيامها رسميًّا عبر الأمم المتحدة، ولكن دخول تركيا على الخط بدعم الفلسطينيين ماديًّا ومعنويًّا ـ بمشاركة مصر الجديدة وحكومتها المنتخبة ـ ربما يكون له الأثر الأكبر في تقوية الجانب الفلسطيني وخلق سياق أكثر قوة لدعم قضيتهم، ولكن ذلك سيظل مرهونًا بمدى قبول كل من مصر وتركيا ومن يركب في ركبهم بتحمل مخاطر المواجهة مع الكيان الصهيوني الذي تتضاءلت قوته ونفوذ داعمه الأول الولايات المتحدة، مع بدء انسحابها من العراق ودخولها في فترة من إعادة ترتيب الأوراق والأولويات مع حقبة متوقعة من الأزمة المالية والديون الداخلية.

فمخاطر المواجهة مع الكيان الصهيوني ربما تزداد في الفترة القادمة مع دخول لعبة عض الأصابع مرحلتها التالية؛ فتركيا قدمت لائحة اتهام للجنود الصهاينة الذين قتلوا الأتراك على متن أسطول الحرية، وتبرز في الأفق سحب مواجهة على حقول الغاز في البحر المتوسط، كما أن مصر وقعت اتفاقية مشتركة مع تركيا للتنقيب عن الغاز في تلك المنطقة أيضًا، وبرز الدور المصري في صفقة تبادل الأسرى وما يستتبعه من محاولة هيئات الأمن القومي المصرية من استعادة نفوذها مرة ثانية، وهو ما برز في محاولات المخابرات المصرية الظهور بقوة في تلك الصفقة، والإصرار على عقد حوار تليفزيوني مع شاليط فور تحريره، بالرغم مما يمكن أن يستتبعه ذلك من حنق "إسرائيلي"، إلا أن وكالات الأنباء في العالم كلها أظهرت صور شاليط وهو يحاور المذيعة التي ظهر العلم المصري وراءها جليًّا، في مشهد أخرجته المخابرات المصرية لتعود به إلى الصورة من جديد.

فمع صفقة شاليط أرى عدة خطوط تبدأ في التشكل على الأرض، ربما هي خطوط ترسم على مسودة خريطة المنطقة، ولكن من المتوقع أن تتحول تلك الخطوط إلى أسوار وحدود جديدة للأمن القومي المصري، وتداخل النفوذ التركي، فالنفوذ المصري عاد مرة أخرى بعد أن كانت حدوده تتوقف عند البر الغربي من قناة السويس، في حين كانت سيناء عبارة عن مرتع للسياحة "الإسرائيلية"، إلا أن مصر بدأت تتقدم مرة ثانية وتقترب من حدود الكيان الصهيوني سواء عسكريًّا أو سياسيًّا، وبدأت تدفع حدود "إسرائيل" إلى الوراء، وأتوقع مزيدًا من النفوذ البحري المصري في الفترة القادمة في المجاري الملاحية في البحرين الأحمر والمتوسط، وأن شرق المتوسط سوف يشهد صراعًا جديدًا على إعادة رسم مناطق النفوذ.

وفي هذا السياق الجديد، على حماس أن تعمل بصورة جماعية من اليوم، فلم تعد قضيتها تؤثر عليها وحدها، ولم تعد إجراءاتها على الأرض تخصها وحكومتها فقط، ولكن السياق الأوسع سوف يحتم على حماس أن تنسق بين عدة أطراف في المنطقة بدءًا من مصر وانتهاء بتركيا، ومرورًا بعدة دول إقليمية أخرى ربما ترغب في الدخول على خط المواجهة؛ فاختطاف جندي "إسرائيلي" جديد لن يكون قرارًا فلسطينيًّا أو حمساويًّا بعد اليوم، فصفقة تبادل الأسرى من المؤكد أن كواليسها شهدت العديد من المحددات الجديدة، وأن استخبارات دول تركيا ومصر (وربما قطر وسوريا/ إيران) سوف تكون على الخط، فتركيا من المقرر أن تستضيف عدة أسرى محررين، بالإضافة إلى قطر وسوريا، وسوريا تعني إيران؛ حيث إن الوفاق التركي السوري ليس على ما يرام كما يعلم الجميع بعد الثورة السورية، مع استضافة تركيا للمعارضة واعترافها بالمجلس الوطني السوري وإجرائها حوارات معه، في حين أن إيران لا تزال تمتلك نفوذًا على بعض القوى والفصائل الفلسطينية، ولا تزال تحتفظ بأوراقها في غزة والضفة.

لذلك فإن الأيام القادمة ربما تشهد مزيدًا من الدعم المادي والمعنوي من تلك الدول صاحبة المصلحة في فلسطين، وبالرغم من أن الصوت الإيراني سوف يمثل صوتًا "نشازًا" في التركيبة المصرية التركية للنفوذ الإقليمي، إلا أنه من المتوقع أن يستمر التعاون بين تلك الأطراف لدعم القضية الفلسطينية، والمنافسة على النفوذ عن طريق بذل المزيد من الجهد والدعم، أما الكيان الصهيوني فمن جانبه سيحاول تأكيد نفوذه، باعتقال المزيد من الأسرى لإثراء احتياطيه البنكي في حال الأزمات المستقبلية، وبابتلاع المزيد من الأراضي، وباستمرار محاولاته لمنع خروج قرار أممي بإنشاء دولة فلسطين، هذا بالإضافة إلى تأكيد نفوذه في المياه الإقليمية وخاصة شرق المتوسط.

لذا فإن استخبارات الدول ذات المصلحة في فلسطين من المتوقع أن تزيد من ضغوطها من أجل التقارب الفتحاوي الحمساوي، من أجل الخروج بدولة واحدة في النهاية وعقد انتخابات وتوحيد المواقف من جديد، فلا ننسى تصريحات إردوجان الذي قال فيها قبيل زيارته لمصر: إنه يتمنى أن يدخل غزة وفي يده محمود عباس، وتركيا تبذل كل ما في وسعها من أجل نفوذها في فلسطين، وتعلم أنها على حافة مواجهة دبلوماسية وقانونية وتجارية مع الكيان الصهيوني، فالسيارة التركية الآن في حالة التأهب، ويضغط قائدها على بدال البنزين بأقصى قوته، في انتظار رفع المكابح لدخول غزة، انتظارًا للضوء الأخضر المصري صاحب المعابر والبوابات، إلا أن جندي المرور المصري مشغولٌ بأوضاعه الداخلية ومطالبه الفئوية والطائفية، ويعمل بالحد الأدنى من طاقته الدبلوماسية فيما يتعلق بعلاقاته الخارجية.

لذا فإن شكل الصراع الحقيقي سيظل مخبوءًا في رحم الغيب، انتظارًا لمخاض الحكومة المصرية الجديدة وشكلها وهويتها، فالمولود المصري الجديد على حداثة سنه ربما تكون له "كلمة الحسم الإقليمية" في موازين القوى والطريق الذي سيسير فيه الصراع.


 

تاريخ الاضافة: 20/10/2011
طباعة