فشل بوتين الأكبر في سوريا


عندما نشرت روسيا قواتها في سوريا خلال شهر سبتمبر الماضي، بدا أن الخطوة لها مبررات كثيرة ، فهي جزءاً من سياستها العالمية الأوسع نطاقاً الرامية إلى استعادة أمجاد القوة الروسية خارج فلك الاتحاد السوفيتي القديم، وإعادة التوازن إلى علاقاتها الدولية على حساب أمريكا، والخروج من حصار أمريكا والناتو في أوكرانيا وجورجيا وبوابات روسيا الغربية ، فضلاً عن تعزيز حضورها في منطقة يبدو أن الإدارة الأمريكية الحالية تخطط للخروج من مستنقعها بعد أن أغرقتها في مشاكل لا تنتهي من صراعات طائفية وسياسية واقتصادية.

لكي تتكلّل هذه السياسة بالنجاح، كان لا بدّ من نصر عسكري ميداني، بقوة نيران ضخمة ، وتنسيق وتفاوض مع القوى الإقليمية المعنية بالملف السوري ، سواءاً الداعمة منها لنظام الأسد المتداعي مثل إيران ووكلائها في سوريا، والأخرى الرافضة لبقائه ، والساعية للتخلص منه ، مثل تركيا ودول الخليج ، وذلك كله بالتزامن مع القيام بترتيبات خاصة من شأنها أن تحدّ من دور الولايات المتحدة في الحرب. بالجملة روسيا دخلت سوريا بإجراءات وتكتيكات قتالية وسياسية ودبلوماسية وتجسسية ، من أجل الوصول لأهدافها الكلية من عدوانها على بلاد الشام.

محصلة العام الأول:

بناء نظام إقليمي جديد ، تحجيم الدور الأمريكي  ، تثبيت حكم الأسد ، القضاء على المجاهدين والمعارضة السورية ، حصار تركيا وتقليص نفوذها الإقليمي ، هذه هي أهم الأهداف الروسية من العدوان على سوريا ، فما الذي تحقق منها بعد عام من الاحتلال ؟

بناء نظام إقليمي جديد:

 روسيا اعتمدت في تحقيق هذا الهدف على شراكة إستراتيجية مع إيران التي تحتفظ بقوة عسكرية غير نظامية كبيرة في سوريا تقدر بستين ألف مقاتل شيعي محشودين من أفغانستان وباكستان والعراق وأذربيجان واليمن ، فضلاً عن مليشيات حزب الله اللبناني  وخلال الحرب السورية تبادلت الدولتان المعلومات الاستخباراتية والتخطيط العسكري المنسق. وكانت روسيا قد زودت إيران بصواريخ سطح-جو متطورة. وقبل فترة وجيزة من تدخل روسيا في سوريا، أدى الجنرال قاسم سليماني، قائد قوات الحرس الثوري الإيراني، زيارة إلى موسكو ، للتنسيق والتحضير للغزو الروسي لسوريا .

وتُعتبر هذه المساعدات الإيرانية ضرورية لشنّ هجمات الحفاظ على نظام الأسد ، إذ إن الجيش النظامي السوري منهك وعاجز عن تجنيد عناصر بشكل فعّال. واضطلعت القوات الجوية الروسية القوية بدور أساسي في دعم تلك القوات البرية. وكما أظهرت المعارك في حلب مؤخراً، التعاون والتكامل بين الميليشيات الشيعية و«فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني والقوات الجوية الروسية بشكل جيد في مساعدة نظام بشار الأسد على تحقيق انتصارات على أرض المعركة. وبالإضافة إلى ذلك، تقوم طهران وموسكو بتقسيم سوريا نوعاً ما إلى منطقتيْ سيطرة على أرض الواقع: جنوب غرب البلاد للإيرانيين وشمال غرب البلاد وتدمر للروس. وعلى الرغم من أن القوات التي تعمل بالوكالة عن إيران تشارك بالطبع في الحملات المنفّذة شمال غرب سوريا، إلا أن روسيا نادراً ما تتدخّل في الجنوب.  

في العقود الأخيرة، كانت تمتلك أمريكا فقط، وبعض حلفائها، ترخيصا مطلقا لاستخدام قاعدة عسكرية في إحدى بلدان الشرق الأوسط لمهاجمة أهداف في بلد آخر. إلا أن روسيا صارت تمتلك، اليوم، نفس هذا الامتياز. فقد استخدمت روسيا قاعدة جوية إيرانية لقصف أهداف عسكرية في سوريا. وقد سرب بعض القادة الإيرانيون أن القيام بمناورات بحرية إيرانية روسية مشتركة واستخدام روسيا لقواعد بحرية الإيرانية في الخليج العربي، قد يتواصل في المستقبل. هذه التطورات الخطيرة والجديدة المتمثلة في ظهور محور عسكري روسي إيراني يمكن أن يزعزع آمال تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، ويسمح لروسيا من تحقيق طموحاتها العالمية مستقبلا.

إنقاذ نظام الأسد:

 بعد العام الأول لدخول روسيا، استعاد نظام الأسد الثقة بعد الانتكاسات التي مُني بها في ربيع عام 2015، عندما خسر إدلب وتدمر. وعلى الرغم من ضآلة المكاسب على الأرض فأن المناطق التي استعادها الأسد قليلة العدد (حيث تشكّل أقل من 2 في المائة من الأراضي التي خسرها منذ عام 2011)، إلا أنها تُعتبر مهمة إستراتيجياً. فقد أصبح الآن مركز النظام العلوي والقواعد العسكرية الروسية الموجودة هناك بمنأى عن هجمات المعارضة ، كما تمّ استئصال قواعد المعارَضة حول دمشق تدريجياً، كما حصل في داريا والغوطة الشرقية ، كما استطاع الروس تجميد الموقف في حلب التي تعتبر قلب المعارضة النابض وأشد النقاط اشتعالا بالقتال ، رغم التكلفة الباهظة للحفاظ على هذا الموقف القتالي .

وإذا كان هدف الروس تحقيق استقرار النظام ومساعدته على الصمود، فهم بالتأكيد قد سجلوا نجاحاً في هذا الشأن. فالأسد باق في السلطة لبعض الوقت على الأقل، واللاعبون الدوليون والإقليميون بدءوا يغيرون موقفهم منه وباتوا أكثر تقبلاً لمشاركته في العملية الانتقالية. بل واعتباره شريكاً في الحلف الدولي لمحاربة الإرهاب !!

تحجيم الدور التركي:

العلاقات بين روسيا وتركيا اتسمت بالمد والجزر في السنوات الأخيرة ، غير أن كانت في مجملها كانت إستراتيجية وهامة للطرفين ، حتى جاءت لحظة الدخول الروسي لسوريا ، فتوترت العلاقة بشدة بين الطرفين ، فدعم الروس والأتراك طرفي الصراع في سوريا ، وبلغ الصراع والاحتقان مداه بعد إسقاط تركيا لطائرة روسية مقاتلة في نوفمبر الماضي ، مما أدى لوصول العلاقات بينهما لأعلى مستويات التوتر وأصبحا على شفا القطيعة التامة . وإمعاناً في حصار تركيا دعم الروس خصم تركيا التاريخي ؛ الأكراد ، وساعدوهم بقوة من أجل إقامة كيان لهم في الشمال السوري على الحدود التركية .

ورغم هذا التوتر الكبير إلا إن المصلحة الراجحة بين الطرفين ، والخداع الأمريكي لهما ، دفعهما للتقارب مرة أخرى ، خاصة بعد فشل الانقلاب العسكري في تركيا والذي اتضح أنه مدعوم بقوة من المخابرات الأمريكية ، وأن المخابرات الروسية كان لها دور في إفشاله ، بعد أن وردت أخبار بإبلاغ الروس لأردوجان بموعد الانقلاب قبلها بساعتين، وتبادلات الزيارات ، وأثمرت التسوية الروسية-التركية عن تسهيل التدخل التركي في جرابلس ، والأسابيع المقبلة ستظهر ما إذا كان التفاهم بين أنقرة وروسيا سيؤتي ثماره في منطقة إعزاز- منبج الحدودية أم لا ؟!

تقديرات العام الثاني:

إجمالاً الروس حققوا نجاحاً يتناسب مع التكلفة التقديرية للحرب في عامها الأول ، فهي قد تكبدت قرابة المليار والنصف من الدولارات ، وعدد القتلى من الجنود النظاميين قليل جداً – فقط عشرين مقاتلاً – أما القتلى من المرتزقة فهم بالمئات ، لأنهم كانوا في خطوط القتال الأولى . وهذا التقدير المبدئي سيدفع الروس حتماً لمواصلة احتلالهم لسوريا ، من أجل الانتهاء من باقي أهدافهم الكلية ، فأهم الأهداف على الإطلاق لم يتحقق بعد ، فالمعارضة الإسلامية مازالت موجودة وقائمة في ميدان القتال ، ودويلة الأكراد لم تر النور بعد ، وربما يتلكأ الروس في قيامها من أجل ضمان استمرار التبعية الكردية لهم في سوريا ، وإصلاح الخطأ الإستراتيجي البالغ الذي ارتكبه بوتين بالموافقة على دخول الأتراك في شمال سوريا .

 وعلى أبواب السنة الثانية من التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، ستعمل روسيا على تدعيم وجودها العسكري في سوريا ، وإحكام السيطرة الميدانية على مناطق المعارضة ، ومن أجل ذلك تدفع موسكو بمزيد من التعزيزات إلى هذه الحرب، تدفع بأكثر من 3 آلاف مجنَّد روسي إلى ريف حلب، وحاملة طائرات إلى البحر المتوسط، فقد قال وزير الدفاع سيرجي شويجو إنه ستُرسل حاملة الطائرات "أميرال كوزينتسوف" للانضمام إلى السفن الحربية الروسية المنتشرة في المنطقة، تضاف إلى "ست سفن حربية وثلاث أو أربع سفن إمداد في شرق البحر المتوسط". وهذه المرة الأولى التي تنضم فيها حاملة الطائرات الروسية في القتال بسوريا إلى السفن الروسية المنتشرة في المنطقة بعد خضوعها لعملية تجديد.

 كما أن سلاح الجو الروسي يستعد لتجربة أسلحة وأنظمة استهداف جديدة في إطار مهمات قتالية في سوريا. وقال إن حاملة الطائرات ستنقل في نوفمبر مقاتلات من طراز "أس يو 33" و"ميج 29 كي يو بي" وهليكوبترات "كي أي-52 كي كاتران"،  كما أن المقاتلات الميج ستستخدم نوعاً جديداً من الصواريخ من طراز أكس-38 للقضاء على الجهاديين الذين يعتبرهم الروس خصهم السياسي والأيديولوجي والتاريخي الأهم والأبرز في معركة احتلال سوريا . وبقاؤهم حتى اليوم هو أكبر تحد للغطرسة الروسية وغرور القوة، وهو ما يراه كثير من المراقبين أنه الفشل الذي يحاول بوتين تجاهله.



كاتب المقالة : شريف عبدالعزيز
تاريخ النشر : 26/09/2016
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com