التفسير والإسرائليات (4)


 
التفسير والإسرائيليات
( 4 )

لقد كان أئمة علم أصول الحديث ، والرواية ، أبعد نظرًا ، وآصل تفكيرًا ، وأوسع اطلاعًا ، وأدق في تقعيدهم لقواعد النقد في الرواية حينما قالوا : إن الموقوف على الصحابة يكون له
حكم المرفوع إلى النبي بشرطين
1- أن يكون مما لا مجال للرأي فيه.
2- أن لا يكون راويه معروفًا بالأخذ عن أهل الكتاب الذين أسلموا وبرواية الإسرائيليات ،
ومن ثم : يجد الباحث الحصيف المنصف مخارج لهذه الروايات الموقوفة على الصحابة ، وهي في نفسها مكذوبة وباطلة فهي
* إما إسرائيليات ، أخذها بعض الصحابة الذين رووها ، عن أهل الكتاب الذين أسلموا ؛ ورووها ليعلم ما فيها من الغرائب والعجائب ، ولم ينبهوا على كذبها وبطلانها اعتمادا على ظهور كذبها وبطلانها ، ولعلهم نبهوا إلى كذبها وعدم صحتها ، ولكن الرواة لم ينقلوا هذا عنهم ،
* وإما أن تكون مدسوسة على الصحابة ، وضعها عليهم الزنادقة ، والملحدون ، كي يظهروا الإسلام وحملته بهذا المظهر المنتقد المشين ،
* وأما ما يحتمل الصدق والكذب منها ، وليس فيه ما يصدم نقلًا صحيحًا ، أو عقلا سليمًا ، فذكروه لما فهموه من الإذن لهم في روايتها من قوله : "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" ، وهذا النوع أقل خطرًا من الأول ، إلا أنه لا فائدة تُذكَر من الاشتعال به ، بل كان حجابا لجمال القرآن ، وتفسيره الصحيح.
وكذلك جاء الكثير جدًّا من هذه الإسرائيليات عن التابعين ، واحتمال أخذها عن أهل الكتاب الذين أسلموا ، أكثر من احتمال أخذها عن الصحابة ، فمنشؤها في الحقيقة هو ما ذكر لك ، وهي : التوراة وشروحها ، والتلمود وحواشيه ، وما تلقوه عن أحبارهم ، ورؤسائهم الذين افتروا ، وحرفوا وبدلوا ، ورواتها الأول ، هم : كعب الأحبار ، ووهب بن منبه وأمثالهما ؛
والنبي والصحابة رضوان الله عليهم بريئون من هذا. ويجوز أن يكون بعضها مما ألصق بالتابعين ، ونسب إليهم زورا ولا سيما أن أسانيد معظمها لا تخلو من ضعيف أو مجهول ، أو متهم بالكذب ، أو الوضع ، أو معروف بالزندقة ، أو مغمور في دينه وعقيدته.
بعض الإسرائيليات قد يصح السند إليها
ولعل قائلا يقول : أما ما ذكرت من احتمال أن تكون هذه الروايات الإسرائيلية مختلقة ، موضوعة على بعض الصحابة والتابعين ، فهو إنما يتجه في الروايات التي في سندها ضعيف أو مجهول ، أو وضاع ، أو متهم بالكذب ، أو سيء الحفظ ، يخلط بين المرويات ، ولا يميز ، أو نحو ذلك ،
ولكن بعض هذه الروايات حكم عليها بعض حفاظ الحديث بأنها صحيحة السند أو حسنة السند ، أو إسنادها جيد ، أو ثابت ، ونحو ذلك ، فماذا تقول فيها ؟!
والجواب : أنه لا منافاة بين كونها صحيحة السند ، أو حسنة السند أو ثابتة السند ، وبين كونها من إسرائيليات بني إسرائيل ، وخرافاتهم ، وأكاذيبهم فهي صحيحة السند إلى ابن عباس ، أو عبد الله بن عمرو بن العاص ، أو إلى مجاهد ، أو عكرمة ، أو سعيد بن جبير وغيرهم ، ولكنها ليست متلقاة عن النبي ، لا بالذات ، ولا بالواسطة ولكنها متلقاة عن أهل الكتاب الذين أسلموا ، فثبوتها إلى من رويت عنه شيء ، وكونها مكذوبة في نفسها ، أو باطلة ، أو خرافة ، شيء آخر ، ومثل ذلك : الآراء والمذاهب الفاسدة اليوم ، فهي ثابتة عن أصحابها ، ومن آرائهم ولا شك ، ولكنها في نفسها فكرة باطلة ، أو مذهب فاسد.
وأحب أن أنبه هنا إلى حقيقة ، وهي : أنه ليس معنى أن هذه الإسرائيليات المكذوبات والباطلات مروية عن كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبد الله بن سلام ، وأمثالهم أنها من وضعهم ، واختلاقهم ، كما زعم ذلك بعض الناس اليوم ، وإنما معنى ذلك : أنهم هم الذين رووها ، ونقلوها لبعض الصحابة والتابعين من كتب أهل الكتاب ومعارفهم ، وليسوا هم الذين اختلقوها ، وإنما اختلقها ، وافتجرها أسلافهم القدماء.
وللحديث بقيه في السلسلة إن شاء الله وقدر اللقاء والبقاء



كاتب المقالة : الشيخ / محمد فرج الأصفر
تاريخ النشر : 10/10/2010
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com