التفسير والإسرائليات (3)



التفسير والإسرائيليات
( 3 )

ويرجع الضعف والوضع في التفسير بالمأثور إلى أسباب أهمها
1- ما دسه الزنادقة من اليهود والفرس والرومان وغيرهم في الرواية الإسلامية ، فقد دخل هؤلاء الإسلام وهم يضمرون له الشر والعداوة والكيد ، وتستروا بالإسلام ، بل بالغ بعضهم في التستر فتظاهر بحب آل بيت النبي ، ولما كانوا لا يمكنهم مواجهة سلطان الإسلام لا عن طريق الحرب والعداوة السافرة ، ولا عن طريق الحجة والبرهان ، فقد توصلوا إلى أغراضهم الدنيئة عن طريق الوضع ، والاختلاق ، والدس في المرويات الإسلامية على النبي وعن الصحابة ، والتابعين ، وكان للتفسير ولا ريب كفل من هذا ، وكان هذا الصنف من أخبث الوضاعين ، فقد وضعوا على النبي أحاديث يخالفها المحسوس ، أو يناقضها المعقول ، أو تشهد أذواق الحكماء بسخافتها ، وإسفافها ، مما لا يليق بالعقلاء.
2- الخلافات السياسية والمذهبية : فقد سولت هذه الخلافات لأرقاء الدين ، وضعفاء الإيمان أن يضعوا أحاديث تؤيد مذاهبهم ، وأحاديث في فضائل متبوعيهم ، وفي مثالب مخالفيهم ،
وذلك : كما فعل الشيعة ، ولا سيما الروافض ، فقد وضعوا في فضل سيدنا علي وآله أحاديث كثيرة ، ونسبوا إليه كل علم وفضل ، وفيها ما يتعلق بتفسير بعض آيات القرآن ، وبأسباب النزول ، كما وضعوا أحاديث في ذم السادة : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وغيرهم.
وكذلك : فعل أنصار العباسين ، فقد وضعوا على ابن عباس روايات كثيرة ، ولا سيما في تفسير القرآن ، وصوروه بصورة العالم بكل شيء وقولوه ما لم يقل ، كما وضعوا أحاديث في مثالب الأمويين وذمهم ، وقابلهم أنصار الأمويين بالمثل ، فضلا عن أعقل العقلاء ، وإنما ينصبون بذلك المكيدة لضعفاء الأحلام ، وأرقاء الدين ، حتى يقعوا في ريبة فتتزلزل من نفوسهم عقيدة : أن الإسلام تنزيل من حكيم عليم.
3- القُصَّاص : فقد كانت هناك فئة تقص بالمساجد ، وتذكر الناس ، وترغبهم ، وترهبهم ، ولما كان هؤلاء ليسوا من أهل العلم بالحديث ، وكان غرضهم من ذكر القصص استمالة العوام ، فقد اختلقوا بعض القصص الباطل ، وروجوا البعض الآخر بذكرهم له ، وفي هذا الكثير من الإسرائيليات والخرافات والأباطيل ، وقد تلقفها الناس منهم ؛ لأن من طبيعة العوام الميل إلى العجائب والغرائب.
وقد حدثت بدعة القص في آخر عهد الفاروق : عمر رضي الله عنه ، وقد كان ملهما حقا ، حينما أبى أن يقص قاص في المسجد ، وفيما بعد صار حرفة ، ودخل فيه من لا خلاق له في العلم ، وقد ساعدهم على الاختلاق : أنهم لم يكونوا من أهل الحديث.
4- بعض الزهاد والمتصوفة : فقد استباح هؤلاء لأنفسهم وضع الأحاديث ، والقصص في الترغيب ، والترهيب ، ونحوهما ، وتأولوا في الحديث المتواتر المعروف :"من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" ، وقالوا : إنما تكذب للنبي ولا نكذب عليه
5- النقل عن أهل الكتاب الذين أسلموا ككعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبد الله بن سلام ، وتميم الداري وأمثالهم ، وقد حمل هؤلاء الكثير من المرويات المكذوبة ، والخرافات الباطلة ، الموجودة في التوراة وشروحها ، وكتبهم القديمة التي تلقوها عن أحبارهم ورهبانهم جيلا بعد جيل ، وخلفا عن سلف ،
ولم تكن هذه الإسرائيليات والمرويات مما يتعلق بأصول الدين ، والحلال والحرام ، وهي التي جرى العلماء من الصحابة والتابعين ، فمن بعدهم على التثبت منها ، والتحري عن رواتها ، وإنما كانت فيما يتعلق بالقصص ، وأخبار الأمم الماضية ، والملاحم، والفتن ، وبدء الخلق ، وأسرار الكون ، وأحوال يوم القيامة.
وقد تنبه إلى هذا بعض الأئمة القدامى ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، المتوفى سنة 728هـ ، في أثناء الكلام عن تفاسير الصحابة ، قال : "وهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، في تفسيره عن هذين الرجلين : ابن مسعود ، وابن عباس ، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب ، التي أباحها رسول الله حيث قال : "بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين ( الزاملة البعير الذي يحمل عليه -يعني حمل بعيرين) من كتب أهل الكتاب ، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث ، من الإذن في ذلك ، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد ( مقدمة في أصول التفسير ص 45) ،
وقال أيضًا في رده على البكري ، منكرًا عليه استدلاله بالحديث الذي يرويه ، عن استشفاع آدم بالنبي : هذا الحديث ، وأمثاله لا يُحتج به في إثبات حكم شرعي ، لم يسبقه أحد من الأئمة إليه..... فإن هذا الحديث لم ينقله أحد عن النبي لا بإسناد حسن ، ولا صحيح ، بل ولا ضعيف يستأنس به ، ويعتضد به ، من أخذ ذلك عن مسلمة أهل الكتاب أو غير مسلمتهم كما روي : أن عبد الله بن عمرو وقعت له صحف يوم اليرموك من الإسرائيليات ، وكان يحدث منها بأشياء (الرد على البكري ص 6.)
وقد وافق ابن تيمية على مقالته أحد تلاميذه ، وهو : الإمام الحافظ المفسر ابن كثير ، فذكر نحوا من ذلك في مقدمة تفسيره.
وقد جاء بعد ابن تيمية : الإمام العالم المؤرخ ، واضع أساس علم الاجتماع : عبد الرحمن بن خلدون ، المتوفى سنة 808 ، فأبان عن ذلك بأوفى وأتم في هذا في مقدمته المشهورة في أثناء الكلام عن علوم القرآن من التفسير والقراءات ، قال : "وصار التفسير على صنفين تفسير نقلي ، مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف ، وهي : معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ، ومقاصد الآي ، وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين ،
وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا ، إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث ، والسمين ، والمقبول ، والمردود.والسبب في ذلك : أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ، ولا علم ، وإنما غلبت عليهم البداوة ، والأمية ،
وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات ، وبدء الخليقة وأسرار الوجود ؛ فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ، ويستفيدون منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ، ومن تبع دينهم من النصارى ،
وأهل الكتاب الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ، ومعظمهم من حمير ، الذين أخذوا بدين اليهودية ، فلما أسلموا بقوا علي ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان( أحداثه المشهورة) ، والملاحم ، وأمثال ذلك ، وهؤلاء مثل : كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبد الله بن سلام ، وأمثالهم ،
فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم ، وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام ، فتتحرى فيها الصحة التي يجب بها العمل ويتساهل المفسرون في مثل ذلك ، وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها -كما قلنا- عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك ،
إلا أنهم بعُد صيتهم ، وعظمت أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة ، فتلقيت بالقبول من يومئذ"مقدمة ابن خلدون : بحث التفسير ص 368 ط الأزهرية
وفي كتب التفسير من هذه الإسرائيليات طامات وظلمات ، والكثير منها لم ينبِّه ناقلوه على أصله ، ولم يوقف على قائله ، فكانت مثارا للشك ، والطعن ، والتقول على الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم.
خطورة رفع هذه الإسرائيليات إلى النبي

ولو أن هذه الإسرائيليات ولا سيما المكذوب والباطل منها وقف بها عند قائليها ، لكان الأمر محتملا بعض الشيء ، ولكن الشناعة وكبر الإثم : أن بعض الزنادقة ، والوضاعين وضعفاء الإيمان ، قد رفعوا هذه الإسرائيليات إلى المعصوم ونسبوها إليه صراحة ، وهنا يكون الضرر الفاحش والجناية الكبرى على الإسلام والتجني الآثم على النبي ؛ فإن نسبة الغلط ، أو الخطأ أو الكذب إلى الراوي أيا كان أهون بكثير من نسبة ذلك إلى النبي .
وإن ما اشتملت عليه بعض الإسرائيليات من الخرافات ، والأباطيل ليصد أي إنسان -مهما بلغ من التسامح في هذا العصر الذي نعيش فيه -عن الدخول في الإسلام ، ويحمله على أن ينظر إليه نظرة الشك ، والارتياب.
ولهذا : ركز المبشرون والمستشرقون طعونهم في الإسلام ونبيه على مثل هذه الإسرائيليات والموضوعات ؛ لأنهم وجدوا فيها ما يسعفهم على ما نصبوا أنفسهم له من الطعن في الإسلام ، وإرضاء لصليبيتهم التي رضعوها في لبان أمهاتهم.
وهذه الأباطيل والخرافات مهما بلغ إسنادها من السلامة من الطعن فيه ، لا نشك في تبرئة ساحة النبي صلى الله عليه وسلم عنها : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.
الموقوف من الإسرائيليات على الصحابة والتابعين

ولو أن هذه الإسرائيليات جاءت مروية صراحة عن كعب الأحبار أو وهب بن منبه ، أو عبد الله بن سلام ، وأضرابهم ، لدلت بعزوها إليهم أنها مما حملوه ، وتلقوه عن كتبهم ورؤسائهم قبل إسلامهم ، ثم لم يزالوا يذكرونه بعد إسلامهم. وأنها ليست مما تلقوه عن النبي أو الصحابة ، ولكانت تشير بنسبتها إليهم إلى مصدرها ، ومن أين جاءت وأن الرواية الإسلامية بريئة منها.
ولكن بعض هذه الإسرائيليات بل الكثير منها جاء موقوفا على الصحابة ، ومنسوبا إليهم رضي الله عنهم فيظن من لا يعلم حقيقة الأمر ، ومن ليس من أهل العلم بالحديث أنها متلقاة عن النبي ؛ لأنها من الأمور التي لا مجال للرأي فيها ، فلها حكم المرفوع إلى النبي ، وإن لم تكن مرفوعة واضحة.



كاتب المقالة : الشيخ / محمد فرج الأصفر
تاريخ النشر : 10/10/2010
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com