الجيوش العربية في عصر الثورات الشعبية


تلعب المؤسسة العسكرية فى كل دول العالم الدور الرئيسي فى ترسيخ الاستقرار والأمن والأمان لما تحظى به من تقدير وإجماع بين طوائف الشعب وباقي المؤسسات الحاكمة الأخرى فى الدولة. هذه المكانة المرموقة التى تكتسبها المؤسسة العسكرية لم تأت من فراغ لذا تضخ لها كافة الموارد وتسخر جميع الإمكانيات لها بالشكل الذي يضمن تعاظم قوتها وتفوقها إقليمياً ودولياً. غير أن المؤسسة العسكرية المعنية بشئون الجيش فى الدول العربية تم تغيير مسارها وتحويل هدفها وأصبحت لسنوات طويلة الضمانة الوحيدة لبقاء الأنظمة الاستبدادية الحاكمة واستمرارها، وتحولها من أداة لحماية الشعب إلى سوط يسلط عليه لقمعه وقتله. هذه الرؤية تجلت بوضوح فى عصر الثورات العربية المعاصرة، بعد أن أصبحت فيه ورقة الجيش هي الورقة الرابحة والرئيسية فى حسم وتحديد مستقبل الدول العربية فى ظل الثورات العربية المتتالية، والتى كانت وبحق أقوى اختبار للجيوش العربية التى أُنفق عليها المليارات من الدولارات واستنزفت الكثير من الموارد العربية لتقويتها وتدعيمها، ليس إلا لهدف واحد هو حماية الشعوب العربية من أعداء الأمة المتربصين بها من كل صوب وحدب.

لكن هناك حقيقة ثابتة أكدتها الثورات العربية التي اندلعت شرارتها الأولى من تونس، واشتعل لهيبها من قلب ميدان التحرير بالقاهرة، وواصلت مسيرتها فى كل من ليبيا واليمن وسوريا وهى أنها أماطت اللثام عن حقيقة الدور المنوط بالجيوش العربية، فبعضها تحول إلى أداة قتل وإبادة فى يد بعض الأنظمة العربية الاستبدادية( سوريا وليبيا) والبعض الآخر كان نموذجاً للوطنية والانتماء القومي وأصبح بمثابة الدرع الواقي والقوة الحامية للثورة الشعبية (مصر وتونس). هذا التباين الحاد فى مواقف الجيوش العربية من التعامل مع ثورة الشعوب العربية التى عانت الذل والقهر عقود طويلة، يؤكد على أهمية الدور المحوري للمؤسسة العسكرية فى وطننا العربي سواء كان سلباً أو إيجاباً. ولعل هذين النموذجين يعتبران تجسيداً واقعياً لأبعاد الدور المنوط بالجيوش العربية التى نعوّل عليها كثيراً لاستعادة كرامة الأمة وتحرير أراضيها المحتلة من دنس اليهود الصهاينة فى فلسطين والجولان، والروافض الفرس فى جزر الإمارات العربية المتحدة وفى العراق، وهنا يبرز أمامنا نموذجين على النقيض تماماً للجيوش العربية:

* جيوش سخّرت كل إمكانياتها وقوتها العسكرية لحماية شعوبها فى مواجهة صناديد الحكم وطواغيته.

* جيوش أخرى وضعت نفسها فى نعل الأنظمة العربية الاستبدادية لتكون سلاحها الفتاك لقتل أبناء شعبهم بدون رحمة أو شفقة.

فالجيشين المصري والتونسي ضرباً مثالاً عظيماً فى الانتماء للوطن والشعب وليس للنظام الحاكم وكرسي السلطة، وكانا العنصر المحوري فى نجاح ثورتي الشعب التونسي والمصري ضد أطغى وأعتى الأنظمة الاستبدادية ليس فقط فى العالم العربي فحسب بل فى العالم كله، وبخاصة النظام المصري بقيادة حسني مبارك الذي كان ينتمي للمؤسسة العسكرية وخدم فى صفوفها سنوات طويلة، فلم يكن احد يتصور أن يتخلى الجيش بهذه السهولة عنه ويختار الوقوف إلى جانب الشعب المصري مسانداً لمطالبه المشروعة وحامياً لثورته المباركة، على الرغم من الأحاديث التى كانت تتردد بشأن حرص الرئيس المصري المخلوع على اختيار القيادات العسكرية الموالية له فقط لتولي المناصب القيادية فى الجيش لضمان ولائهم له. ولكي ندرك مدى القوة العسكرية التى يتمتع بها الجيش المصري نشير إلى احتلاله للمرتبة العاشرة ضمن قائمة أكبر الجيوش فى العالم بواقع1,109,000 فرد بين نظاميين واحتياط ومدنيين يخدمون بالجيش، ويمثلون نحو 6% من إجمالي سكان مصر؛ لكن أبناء القوات المسلحة المصرية، ذلك الجيش العربي الوحيد الذي ألحق هزيمة مدوية بالجيش الصهيوني طوال تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي أصروا على حماية الشعب المصري من طغيان وعدوان نظام مبارك الذي لم يرتدع عن قتل المصريين فى محاولة يائسة لبقاء نظامه الفاسد المترهل؛ بهذا الموقف المشرف سطّر الجيش المصري صفحة جديدة بيضاء فى تاريخه العسكري الناصع، مؤكداً على أن دوره هو لحماية الشعب المصري، وليس لقتله أو إبادته، كما يفعل الجيش السوري والليبي الذين تحولا إلى مدفع وبندقية فى يد نظام استبدادي متسلط لقتل أبناء الشعب السوري والليبي لضمان بقاء الطغاة بشار الأسد ومعمر القذافي على كرسيهما المترنح.

إن ما يرتكبه الجيشين السوري والليبي، وبعيداً عن عدسات الإعلام الجيش اليمني أيضاً حتى كتابة تلك السطور ضد شعوبهم التى تتطلع إلى الحرية من الظلم والاستبداد الذي استمر لسنوات وعقود طويلة لهو جريمة شنيعة تعاقب عليها الإنسانية والتاريخ الذي سيشهد بتصويب الجيش السوري لمدفعياته ودباباته ضد أبناء الشعب السوري فى مدينة درعا معقل الثورة الشعبية ضد نظام بشار الأسد، بدلاً من أن يوجهها إلى تل أبيب أو جنود جيش الاحتلال الصهيوني القابع على هضبة الجولان المحتلة لأكثر من أربعين عاماً. كما سيتذكر التاريخ قيام القوات الجوية الليبية بقصف الثوار فى بنغازي ومصراته بالطائرات الحربية من أجل بقاء الزعيم المهووس معمر القذافي فى خيمته بطرابلس، بدلاً من العمل على تطوير ليبيا الثرية بمواردها الطبيعية، والتى استنفذ القذافي وأنجاله مقدراتها ومواردها وإنفاقها على الأندية والملاهي الأوروبية.

هذين النموذجين المتناقضين يحتمان علينا ضرورة إعادة فحص مستقبل الجيوش العربية فى عصر الثوارت الشعبية، وهو ما يستلزم منا كشعوب عربية إيجاد الطرق والسبل لجعل تلك الجيش فى خدمتها وتحقيق مصالحها وأهدافها وليس لقتلها وقمعها، وهو ما يجب أن يتحقق من خلال النقاط التالية :

- ضرورة فصل المؤسسة العسكرية عن النظام الحاكم وضمان استقلاليتها، وتغيير وتيرة رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة، كما كان الحال فى مصر وسوريا وليبيا. هذا الفصل يؤكد ولاء الجيش للشعب فقط ولشرعيته، وليس للنظام الحاكم.

- الاستقلالية المطلقة للمؤسسة العسكرية، وتحديد مهامها بضرورة الحفاظ على أمن وسلامة والوطن ضد أي عدوان خارجي، وعدم توريطها فى أية نزاعات داخلية، لحسم كفة فريق على كفة فريق آخر.

- الحفاظ على هيبة المؤسسة العسكرية واعتبارها مصدراً للإجماع الشعبي بكل اتجاهاته وتياراته.

- حتمية تدعيم المشاركة والتعاون بين أبناء الشعب والجيوش العربية وبخاصة فى سوريا وليبيا واليمن بعد الشرخ الكبير والفجوة الواسعة التى نتجت عن مساندة تلك الجيوش للأنظمة الحاكمة ضد شعوبها.

ونؤكد على أن ليس هناك أدنى شك فى الدور الحيوي الذي تلعبه الجيوش العربية فى مواجهة أعداء الأمة والذي تجلى بوضوح خلال حرب السادس من أكتوبر عام1973، خاصة إذا ما أدركنا أن حجم إنفاق الدول العربية على جيوشها يفوق ما تنفقه باقي دول العالم على جيوشها، لكن أبدية الأنظمة العربية وتخليدها على كراسي الحكم، جعلها تعتقد أن دور الجيوش العربية هو لحمايتها ولضمان بقائها، وليس لحماية شعوبهم وللدفاع عنهم. ومع ذلك يبدو أن الثورات العربية الأخيرة قد غيّرت كثير من المفاهيم، وبرهنت على أن رغبة الشعوب هى الأساس، وأن الجيوش العربية التى تعمل لصالح الأنظمة الفاسدة لقمع الثورات ضدها ستدرك مدى الخطأ الفادح الذي وقعت فيه، وستعود لصوابها بلا محالة لتكون الدرع الحامي لشعوبها فى مواجهة الأنظمة التى خططت للسيطرة على تلك الجيوش، من منطلق مفهوم أن من يسيطر على الجيش هو الذي يسيطر على البلاد. فعلى الرغم من سعى تلك الأنظمة الفاسدة لتحويل جيوش بلادها على جنود شرطة لحمايتهم، لكن استفاقة هذه الجيوش ستكون قريبة، ولا شك أن هناك منشقين من الجيشين السوري والليبي وأيضاً اليمني رفضوا الانصياع لأوامر تلك الأنظمة الاستبدادية، رافضين توجيه سلاحهم فى نحور أبناء شعوبهم، وأن القائمين حالياً على قيادة تلك الجيوش مجموعة من المرتزقة الذين لا يهمهم سوى البقاء والاستفادة من استمرار تلك الأنظمة التى يخدمونها على حساب شعوبهم.



كاتب المقالة : د.سامح عباس
تاريخ النشر : 04/05/2011
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com