ليلة القبض على آل مبارك وبراءة الجيش المصري


ـ من الأمور العجيبة حقا في كتاب الله عز وجل، والتي تكشف مدى عظمة وروعة الحكمة الإلهية في هذا الكتاب الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، أن أكثر الشخصيات التي ذكرت في كتاب الله عز وجل، هي شخصية فرعون لعنه الله، فقد ذكره الله في القرآن 76 مرة، في حين أن أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن هو موسي عليه السلام،  و قد ذكر 38 مرة، أي أن فرعون ذكر ضعفه بالضبط،وذلك لحكمة عظيمة وهي أن نموذج الحاكم الفرعوني سيظل قائما ومتكررا عبر التاريخ، سيظل قدوة للطغاة، ومرشدا للظلمة، وإماما للمستبدين، وستكرر قصته،ربما بصور وأسماء وتفصيلات مختلفة، ولكن يبقى في النهاية نفس المنهج، ونفس الطريقة والأسلوب في إدارة و حكم البلاد .

ــ ومن الآيات الباهرة التي تتكلم عن مصير فرعون، قوله عز وجل " فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية  وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون " (يونس 92) وكنت أتعجب من هذه الآية تحديدا، ولما قرأت تفسيرها زال  عجبي، وازداد إيماني بعظمة ربي وحكمته، فقد قال المفسرون في تفسير هذه الآية  : أن قوم فرعون قد شكوا في غرقه، بعد أن أطبق عليه البحر، وابتلعه وجنوده في لحظات، وقالوا : إن فرعون إله لا يمكن أن يغرق، وأنه حي وأن البحر قد انشق لجلاله عظمته، ولا يمكن أن يموت إله هكذا ؟! وهذا من ضعف عقولهم، وشدة رعبهم وخشيتهم من فرعون الذي استعبدهم سنين، وقهرهم لعهود، فاستولى على نفوسهم وأسر قلوبهم ببطشه وجبروته، لذلك رفعه الله عز وجل بعد موته على أمواج البحر جثة هامدة ليراه الجميع، و يستيقن من شك في موته، أو اعتقد رجعته، وليكون آية وعبرة للعالمين على مر العصور .

أسعد ليلة عند المصريين

ـ ليلة لم تشهد مصر والمنطقة العربية بأسرها ليلة مثلها على مر تاريخها المعاصر؛ ليلة ستظل محفورة في تاريخ المصريين والعرب عبر العصور، يتناقلون أخبارها وتفاصيلها من الآباء إلى الأبناء والأحفاد ؛ إنها ليلة القبض على آل مبارك، ليلة ارتدى في صباحها نجلا الرئيس المشلوح " حسني مبارك"، علاء وجمال، ملابس الحبس الاحتياطي، بعد ترحيلهما لسجن مزرعة "طرة " بالقاهرة، في نفس السجن ونفس العنابر التي طالما ألقى فيها آل مبارك الأبرياء والشرفاء والأحرار من أبناء الوطن، وقد بدأ التحقيق مع الرئيس المشلوح حسني مبارك ونجليه علاء وجمال يوم الثلاثاء، من قبل المستشار مصطفى سليمان، والذي كلفه النائب العام،بالسفر إلى سيناء، والتحقيق مع مبارك، نظراً لخطورة حضوره ونجليه للقاهرة، وبعد ساعات طويلة ومرهقة ومذلة أيما إذلال لآل مبارك صدرت الأوامر بحبس الثلاثة مبارك ونجليه 15 يوما على ذمة التحقيقات في قضايا عديدة، أبرزها قتل المتظاهرين  الأبرياء في ثورة 25 يناير .  

قلق الشعب المشروع 

ـ   هذه الليلة السعيدة، كانت مصر مرت بأحداث كثيرة ومتوترة منذ نجاح الثورة المباركة في إجبار طاغية العصر وفرعون عصره وأوانه على التنحي وترك منصبه الذي احتله وتسلط به على الشعب المصري طيلة ثلاثين سنة، سامه خلالها بكل أنواع القهر والظلم والطغيان، حتى بلغ الكتاب أجله، وحق عليه القول، فجاءته من حيث لم يحتسب، وأخذه المولى أخذ عزيز مقتدر، ولكن كان لبقاء المشلوح مبارك وأبنائه في البلاد دون محاكمة أو مساءلة طوال الأسابيع الثمانية الماضية، مبعث قلق وتوتر لدى كثير من المصريين الذين بدأت الأخبار المزعجة تقض مضاجعهم، وتوقظهم شيئا فشيئا من حلمهم الجميل، فأنباء الثورة المضادة كل يوم تجعل بال كثير من المصريين منشغلا بمستقبل البلاد، ومدى الدور الذي يلعبه آل مبارك المشلوح في تأجيج الاضطرابات والقلاقل في البلاد، بعد أن أصبحت الفلتان الأمني شعار المرحلة في ظل إصرار كثير من كوادر الداخلية على عدم النزول إلي الشارع ونجدة المصريين، تأديبا لهم على موقفهم من الداخلية أيام الثورة المباركة .

ــ ومع استمرار التظاهرات الفئوية، وحوادث البلطجة والخروقات الكثيرة، مع عجز الحكومة عن وقف التدهور الأمني والاقتصادي وحل المشاكل الثقيلة التي تعاني منها البلاد من آثار الحكم البائد،  أصبح قلق المصريين  ماثلا للعيان، وأصبح الحديث عن الثورة المضادة التي يقودها آل مبارك وأعوانه من شرم الشيخ ظاهرة تتردد يوميا على صفحات الجرائد وأحاديث المصريين في أماكن عملهم وتجمعاتهم العادية .

ــ ومما جعل تخوف وقلق الشعب مشروعا ومبررا، ما اعتبره الكثيرون  تباطأ من جانب الجيش المصري في  التعامل مع بقايا النظام البائد ورموزه التي كانت ما زالت حتى أيام قليلة حرة طليقة تمارس أعمالها، وتعربد على حالها وعادتها في البلاد طولا وعرضا، خاصة رؤوس الفساد وسدنة الحكم المباركي أمثال، زكريا عزمي كاتم الأسرار والسكرتير الخاص لمبارك، وصفوت الشريف مهندس النظام ورجل المخابرات الذي يمسك في يديه بكل مفاتيح البلاد، وفتحي سرور ترزي القوانين، ورئيس مجلس الشعب المصري لواحد وعشرين مرة متتالية !، وهؤلاء كان بقاؤهم بمثابة  التحدي لمشاعر الشعب المصري الذي اتهم هؤلاء الثلاثة تحديدا بإفساد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر . 

ــ ثم جاءت أحداث جمعة التطهير وما وقع فيها من اعتداءات من بلطجية وأتباع لرجل الأعمال إبراهيم كامل أحد رموز الحكم البائد، على الجيش والمتظاهرين، من أجل إحداث فتنة وقتال  بين الجيش والشعب، لتكون ضربة قاضية للثورة تجهضها وتعود بالبلاد إلي الأيام النحسات لمبارك وأسرته، لتزيد من مخاوف الشعب والجيش على حد السواء، ثم اكتملت فصول القلق والتوتر بالخطاب الاستفزازي الذي ألقاه حسني مبارك من منفاه الاختياري في شرم الشيخ، بكل عنجهية واستكبار وبنبرة تفيض تحديا واستعلاء  وتهديد ووعيد، جاء هذا الخطاب ليرسخ  المفهوم الرائج عند كثير من الناس  بأن مبارك لن يحاكم ولن يوجه إليه اتهام، وأنه مازال يحكم البلاد ولكن من وراء الستار، وأنه سوف يعود وسوف ينتقم من كل من تآمر عليه، إلى آخر هذه الهواجس التي سيطرت على الشارع المصري في أعقاب خطابه الأخير، وهي نفس الهواجس التي مر بها من قبل المصريون الأوائل مع فرعون موسي لعنه الله .

براءة الجيش المصري

ـ الأيام التي مرت بعد الثورة بميزان الزمان والوقت هي أيام قليلة ومعدودات، ولكنها كانت طويلة ومقلقة للمصريين، خاصة مع تزايد المخاوف من تحول الجيش المصري من جيش إنقاذ إلي جيش احتلال، يقوم بنفس الدور الذي قام به إنقلابيو الجيش المصري سنة 1952، وأصبح السؤال الذي يتردد ليل نهار، لماذا لم يتم القبض على هؤلاء الثلاثة الكبار ؟ ولماذا لم تبدأ إجراءات محاكمة مبارك وأسرته؟ رغم مئات البلاغات المقدمة ضدهم، والمدعومة بالمستندات والوثائق الدالة على ذلك؟ وبدأت الأقلام والتحليلات تهمس بدور مريب ما يلعبه الجيش المصري، وبدأ الحديث تتصاعد وتيرته عن اتهام قادة المجلس العسكري بأنهم متورطون في منظومة الفساد السابقة، وأن تورطهم هذا يمنعهم من الإقدام على محاكمة مبارك وأسرته وأعوانه، ثم تنامي الكلام والاتهام لقادة الجيش لما هو أخطر من ذلك، وهو أنهم قد عقدوا صفقة سرية مع حسني مبارك، يقوم فيها مبارك بالتخلي عن الحكم لصالح المجلس العسكري، وفي المقابل يقوم المجلس العسكري بتأمين رجاله وأتباعه المهمين مثل عزمي والشريف وسرور وغيرهم لفترة من الوقت  من أجل التخلص من كل الأدلة والوثائق التي تدين مبارك وأسرته ونظامه، كما يقومون بنقل وتأمين المليارات الكثيرة لآل مبارك في عمليات وصفقات اقتصادية دولية،و تغيير أسماء وأكواد رؤوس الأموال  في البورصة المصرية، كما صرح بذلك رئيس البورصة المصرية دكتور خالد سري منذ أسابيع،  بحيث يصعب جدا ملاحقة هذه الأموال، على أن يدعي مبارك المرض للحصول على إذن سفر من المجلس العسكري، يغادر بعده البلاد إلي حيث استقرت ملياراته، ليتمتع بها وأسرته ما بقي من عمره البائس .

ــ وهكذا تصور الكثيرون سيناريو الأيام الماضية، وروجوا له على أنه حقيقة ثابتة، وذلك دون أدلة قطعية أو قرائن ثبوتية،  وربما يكونوا معذورين فيما ذهبوا إليه من تصورات، لأن نظرية المؤامرة ما زالت تسيطر على طريقة الكثيرين من المحللين في التفكير و التحليل ، بسبب تأثرهم بالجو التآمري الذي كانت عليه البلاد في أيام الطاغية مبارك، ثم اتضح أن كل هذا محض خيال، و الحقيقة غير ذلك تماما، وأن تباطؤ الجيش كان له ما يبرره، فالمجلس العسكري كان له رؤية خاصة، ومنهجية معينة ومحسوبة يسير عليها من أجل الوصول لأهدافه بأقل خسائر ممكنة، فقد رأي المجلس العسكري أن البدء سريعا في محاكمة مبارك، كان سيكون له عواقب وخيمة، في ظل وجود مؤثرات داخلية وخارجية كثيرة، تضغط من أجل طي هذا الملف الشائك وغلقه للأبد،  وفي ظل عدم اكتمال أوراق الاتهام، ربما تنتهي المحاكمة ببراءة مبارك، وهو الأمر الذي كان سيشعل البلاد طولا وعرضا، خاصة وأن القانون المصري يخلو من مواد تعاقب على الجرائم السياسية، وبالتالي لن يمكن محاكمته عليها،  وفي ظل وجود بقايا النظام البائد والكثير من أتباعه، ممن كانوا سيشعلون البلاد نارا من أدناها إلي أقصاها، من أجل الدفاع عن وجودهم،  وفي ظل عدم استقرار الأوضاع الأمنية والاقتصادية في البلاد، ومبارك كما يقولون تحت أيديهم وقيد الإقامة الجبرية، ولن يفلت منهم، وأن محاكمته ما هي إلا مسألة وقت حتى تستقر الأوضاع وتهدأ الاضطرابات اليومية في مصر .

اعتذار مستحق

ــ حقيقة وبعد ليلة أمس التي باتها آل مبارك بشر ليلة وباتها المصريون بخير ليلة، كان حق على كل من اتهم أو شك أو ارتاب في دور الجيش المصري تجاه الثورة والشعب المصري، أن يقدم رسالة اعتذار وشهادة براءة للجيش المصري وقادة المجلس العسكري، علي سوء الظن بهم  واتهامهم بلا بينة أو دليل سوى الظنون والشكوك ، ثم شهادة شكر لهم على صبرهم واحتمالهم لأذى الأقلام المسكونة بنظرية المؤامرة والتي ظنت أن للجيش المصري دورا ما أو صفقة ما مع الطاغية المشلوح مبارك .

وأخيرا نهمس في آذان كل من ظن أن مبارك فوق القانون، وأنه بعيد عن الحساب والعقاب، وأنه المعصوم الذي  لا يستطيع أحد أن يمسه بسوء أو يجرؤ على اتهامه والتحقيق معه، ها هو فرعون العصر وطاغية الزمان يري بأم عينيه مهانته وإذلاله وسجن ولديه واقتيادهم والقيود في أيديهم إلى غياهب السجون، وسبحان من جعلنا نري الآيات والعبر وأخبار القرآن الكريم ماثلة متجسدة في شخوص وأحداث أمام أعييننا .



كاتب المقالة : كتبه/ شريف عبد العزيز
تاريخ النشر : 16/04/2011
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com