انفجار القدس.. وأسوأ كوابيس تل أبيب!


ذلك الانفجار الذي هز القدس الغربية منذ ساعات والذي أسقط عشرات الجرحى والقتلى لم يكن انفجارًا كسابقيه من الانفجارات، فقد فجر مع أشلاء القتلى والجرحى الكثير من المفاجآت لتل أبيب، تلك المفاجآت من شأنها أن تغير التركيبة الأمنية للمنطقة بكاملها، ففي خضم أزمة الكيان الصهيوني في عصر الثورات العربية، جاء ذلك الانفجار النوعي ليؤكد على أن القادم أسوأ لإسرائيل، بالرغم مما أعلنه مسئولوها في صفاقة عن نيتهم لتوجيه ضربة عسكرية لغزة، إلا أن السياق الاستراتيجي الذي بدأ يتكشف اليوم يؤكد أن القادم أسوأ لتل أبيب.

فأولى دلالات ذلك التفجير أن تقدمًا نوعيًا طرأ على عمليات المقاومة الفلسطينية، فهذا التفجير لم يكن تفجيرًا استشهاديًا، ولكنه على الأرجح تفجير لعبوة ناسفة كانت موضوعة في كابينة هاتف على جانبي الطريق كما أشارت وسائل الإعلام، وقام منفذ العملية بتفجيرها عن بعد؛ وهو ما يعني أن خبرات عملياتية تم نقلها إلى داخل الكيان الصهيوني في القدس الغربية التي تعد من أهم نقاط التماس في المشروع الصهيوني من أجل تهويد القدس وتكريس الاحتلال، فبالرغم من صغر حجم العبوة الناسفة، والتي ربما يتراوح وزنها ما بين كيلو إلى اثنين كيلو جرام، إلا أن طريقة التنفيذ هي التي تعد نقلة نوعية، فلا يعلم حتى الآن إذا كان المنفذ جاء من خارج الكيان الصهيوني واستطاع اختراق الدفاعات، أم أنه جاء من داخل إسرائيل نفسها، وهنا تأتي المفاجأة الثانية في حال تأكدها، وهي أن الكابوس الذي ظلت إسرائيل دائمًا تخشى وقوعه هو تحول الفلسطينيين داخل الخط الأخضر إلى عمليات المقاومة المسلحة إذا كان التفجير من الداخل، أو أن المقاومة بدأت تنشط في الضفة الغربية التي تسيطر عليها حركة فتح، وأنها أصبحت قادرة على الاختراق داخل الكيان الصهيوني، وكلا الاحتمالين يمثل كابوسًا لتل أبيب.

كما أن تلك العملية جاءت أيضًا في الوقت الذي كانت إسرائيل تختبر فيه توجيه ضربة عسكرية إلى قطاع غزة، وربما كانت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى روسيا من أجل حشد الرأي العام  الدولي وتقوية الموقف الإسرائيلي في حال توجيهه لتلك الضربة العسكرية، التي تأتي ردًا على عدد من عمليات القصف الصاروخي للكيان الصهيوني، وذلك بعد تصريحات نائب وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم من أن إسرائيل قد تجد نفسها "مجبرة" على شن عملية عسكرية أخرى على غزة بعد عملية الرصاص المصبوب من أجل تحييد حركة حماس، وكانت زيارة نتنياهو إلى روسيا تهدف إلى إظهار أنها من أجل استئناف عملية السلام وأنه من المتوقع عقد لقاء مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ولكن يبدو أن تلك الزيارة أيضًا كانت تريد تدخلاً دبلوماسيًا روسيا لتخفيف وطأة العملية عند تركيا في حال قامت إسرائيل باجتياح غزة.

وقد تم التخطيط لتلك الزيارة أيضًا في ظل انشغال العالمين العربي والإسلامي بربيع الثورات العربية، وانكفاء جميع الدول حول ذاتها في مصر وليبيا وتونس واليمن والبحرين وسوريا والمغرب، والدول العربية الأخرى ليست بمنأى عن الثورات هي الأخرى، فكان التوقيت هو الأمثل لتوجيه ضربة لقطاع غزة، وصرح شالوم أيضًا أنه يعلم أن عملية إسرائيلية على قطاع غزة يمكن أن تشعل الموقف في المنطقة، ولكن يبدو أن ذلك كان بمثابة بالون اختبار لقياس ردود الأفعال، وخاصة تلك القادمة من تركيا ومصر.

ولكن جاء الكابوس الثالث للكيان الصهيوني، وهو التحذير المصري على لسان وزير الخارجية نبيل العربي لإسرائيل من توجيه ضربة انتقامية لقطاع غزة، وهو الأمر الذي لم يكن يحدث في السابق مطلقًا، اللهم إلا في صورة عبارات خانعة تعطي ضوءًا أخضر أكثر مما تردع، ولكن التحذير هذه المرة جاء واضحًا، ومن رجل طالما كان له مواقف معادية للكيان الصهيوني، واعتبرت إسرائيل قدومه إلى حقيبة الخارجية المصرية بمثابة الكابوس، فقد صرح وزير الخارجية المصري نبيل العربي قائلاً في بيان أن "إسرائيل ينبغي ألا تندفع إلى تنفيذ أي عمليات عسكرية في غزة"، ودعا إسرائيل إلى "ضبط النفس وحذرها من الاندفاع الى عملية عسكرية في غزة"، كما حذر من إعطاء اسرائيل أي ذريعة لاستخدام العنف، مضيفا أن مصر ترفض وتدين العنف ضد المدنيين.

والسياق العام للأحداث يسمح لمصر بأن تتخذ مواقف دبلوماسية أكثر قوة مقارنة بالنظام السابق الذي كان مخنوقًا بأحبال من الفساد والصفقات السياسية والاقتصادية والأمنية مع الكيان الصهيوني، تتراوح بين رشاوى صفقات الغاز بين كبار المسئولين في الدولة وصفقات سياسية مقابل تنفيذ مشروعات أمنية إسرائيلية على أرض سيناء، وذلك التزاوج بين المصالح الإسرائيلية والحكومة السابقة كان يكبل أيديها عن اتخاذ أية قرارات تتسم بالكرامة وتتناسب مع وضع مصر ورغبات شعبها، حتى لو كان ذلك يؤدي إلى زيادة غليان الشارع المصري وسخط قادات الجيش الذين كانوا يترقبون من بعيد في حذر وعدم رضا بسبب الضعف الواضح الذي أصبحت عليه الدبلوماسية المصرية نتيجة لذلك التحالف النكد، ولكن الوضع الداخلي الآن يسمح لمصر بإطلاق التصريحات النارية؛ فعلى عكس ما يعتقده البعض من أن الجيش المصري "غارق" في الشأن الداخلي، فإن تهديدات مصرية لإسرائيل في ذلك الوقت من شأنها أن تجمع اللحمة الوطنية مرة ثانية، وتشد أنظار المصريين بجميع فئاتهم إلى ذلك التلاسن الذي يهدد بنشوب مواجهة بين الطرفين، وهذا يصب في النهاية في مصلحة الجيش المصري وفي مصلحة الاستقرار الداخلي، ويعطي شرعية للجيش لاتخاذ أية إجراءات من شأنها تهدئة الداخل المصري.

أما تركيا فقد حذرت هي الأخرى من المساس بالفلسطينيين، والأتراك لا يزالون يكتمون بين أضلاعهم غضب الاعتداء على السفينة التركية آفي مرمرة في المياه الدولية ومصرع 19 تركيًا قتلهم الإسرائيليون بدم بارد وهم يرددون لهم: "وان مينيت" أي "دقيقة واحدة"؛ تلك العبارة التي قالها إردوجان للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في دافوس، وهي إهانة للكرامة التركية لم تنسها بعد، وقد حانت اللحظة المناسبة للرد التركي على الصلف الإسرائيلي، فقد أطلق إردوجان في السابق تهديدات لإسرائيل لعدم المساس بغزة، واليوم حانت ساعة الاختبار الحقيقي لجميع الأطراف في المنطقة.

ومجمل المشهد يشير إلى أن الكيان الصهيوني اليوم في وضع أضعف دبلوماسيًا وسياسيًا، وأن شرعيته في تناقص حتى في العالم الغربي، بعد أن نجحت الحملات العربية والإسلامية في تجييش الشعوب الغربية من أجل القضية الفلسطينية، وإظهار القمع والعدوان الصهيوني في أبشع صوره، مما حدا بعدد من الجامعات والمؤسسات الغربية إلى مقاطعة الكيان الصهيوني، وهي الحملة الدبلوماسية الأشرس ضد الكيان منذ اغتصابه لأرض فلسطين، والوضع الإسرائيلي اليوم وصفه وزير الدفاع إيهود باراك عندما قال أن بلاده تواجه زلزالاً شرق أوسطيًا و"تسونامي" دبلوماسيًا، وقال "إن عام 2011 يحمل مصيرا محتوما لإسرائيل في ظل ما تواجهه من "زلزال" من الطراز الأول يضرب النظم العربية، ومواجهتها لـ"تسونامي" دبلوماسي متصاعد ضد إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط"، وذلك قبل ساعات من وقوع عملية القدس.

كما أضاف أن "هذا المصير سيبلغ مداه في سبتمبر المقبل بوجود النية للاعتراف بدولة فلسطين على حدود عام 1967 وما سيتبع ذلك من جهود واسعة تهدف إلى نزع الشرعية عن إسرائيل"، وكل ذلك يمثل تحديًا غير مسبوق، وعلى أكثر من جبهة، للكيان الصهيوني، فإذا صح التعبير، فإن الكابوس الأعظم على الإطلاق لإسرائيل هو الاعتراف العالمي بدولة فلسطينية، فهذا يعيطيها حصانة شرعية بالأمم المتحدة، وأي اعتداء عليها يعتبر اعتداءً على دولة ذات سيادة، وليس فقط "توغلاً" إسرائيليًا في "أراض" فلسطينية.

وبعد شرح السياق الاستراتيجي للوضع الصهيوني وبالعودة إلى تفجير اليوم الأربعاء في القدس الغربية فإن ذلك التحول النوعي في عمليات المقاومة سبقه تحولاً آخر؛ وهو القصف الصاروخي من غزة والذي وصل إلى أشدود وبئر السبع، ومغتصبتي أشكيلون وسديروت، بالإضافة إلى العملية التي استهدفت خمسة أفراد من أسرة صهيونية في مغتصبة إيتلمار بالقرب من الضفة الغربية، وكل ذلك جاء على يد جماعات غير حركة حماس، وقال الناطق باسم حركة الجهاد الإسلامي في 23 مارس أنهم سوف يبدأون في استهداف مدنًا داخل الأراضي الإسرائيلية مع دخول الحركة "مرحلة جديدة من المقاومة".

وعلى الجانب الآخر تقع الولايات المتحدة في ورطة بتدخلها العسكري في ليبيا، بالإضافة إلى تورطها في حربي العراق وأفغانستان حتى الآن، ولا تريد الولايات المتحدة بحال من الأحوال أن تشتعل المنطقة أو تتسع رقعة التوتر بدخول مصر وتركيا على الخط في حال قيام إسرائيل بشن حرب جديدة على قطاع غزة، وكل ذلك السياق يضع الكيان الصهيوني في مأزق يمنعه من شن حرب واسعة على غزة، بالرغم من أنه ربما يستمر في قيامه بشن عدة ضربات محدودة وقصف لبعض المواقع، وهذا في النهاية يضعف قوة "الردع" الصهيوينة التي طالما تمتعت بها في السابق بغطاء من النظام المصري السابق، وكل تلك الأحداث تؤكد أن سياقًا استراتيجيًا مختلفًا يتم تشكله اليوم، ويجب على كل دول المنطقة أن تعيد حساباتها الاستراتيجية للتوائم مع ذلك الشرق الأوسط الجديد.





كاتب المقالة : محمد سليمان الزواوي
تاريخ النشر : 25/03/2011
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com