الجزائر.. الاحتجاجات ووعي الإرادة


ما كان مظاهراتٍ متفرقةً، خرج فيها طلابٌ وشبانٌ آخرون، قبل أسبوعين، أصبح الآن مليونيةً خرجت فيها كل أطياف الشعب الجزائري في العاصمة ومدن أخرى، رفضاً لترشُّح الرئيس، عبدالعزيز بوتفليقة، لولاية رئاسية خامسة. لا يبدو هذا الحادث غير متوقّع، فهو يمثل، ليس الاحتجاج على ترشُّح رئيسٍ عاجزٍ، فحسب، بل على خطط لإدامة استئثار الطبقة السياسية بالحكم عبر "صورة" بوتفليقة التي تنوب عن حضوره. وليس انتشار مقولة "إن ترشَّح فاز" سوى دليل على وعي الشعب بورطته مع العهود المتتالية، وعلى أن وعي الإرادة ربما كان ينتظر لحظة إعلان ترشيح الرجل لكي يظهر، ثم يستقي من الحضور الجماهيري قوته، حتى يتكرَّس ويكون استثنائياً.
ومع إيداع ملف ترشُّح بوتفليقة المجلس الدُّستوري، مع ما شابَ هذا الأمر من لغط إجرائي، يتعلّق بالدستور الذي يُحتِّم على المرشَّح إيداع الملف شخصيّاً، توفِّر السلطة للمحتجين أسباب استمرار الاحتجاج. وبالنظر إلى حقيقة أنه ليس لدى النظام ما يقدّمه للشعب، يزداد الخوف من دخول البلاد حال جمودٍ يكرِّس النظام استمرارها بالرصاص. وبالنظر أيضاً إلى حقيقة أنه لا يمكن للمحتجّين التراجع، لأن ذلك سينتج عنه توحُّش النظام في قمعه وتفقيره الشعب، امتدت المظاهرات إلى الجامعات، وإلى مناطق جديدة، علاوة على احتمال اتساع رقعتها بعد إيداع 
 بوتفليقة ملفّ ترشُّحه.
يعد  حرية الإرادة هذه التي يعد وعي الإرادة شرطها الضروري، من أجل تحقيق الجماهير الحرية المنشودة والعدالة، بعد عقودٍ من حكم الحزب الواحد، وعقديْن من حكم الفرد زادا من اليأس الذي يسيطر على الشارع الجزائري. ويبدو أن حرية الإرادة التي تراكمت عوامل تكوّنها، كان للحادث الحالي فضلٌ في تجلِّيها، حين كسر المحتجون جدار الخوف، وهم الذين لم يغفلوا عن تهديدات رئيس حملة ترشيح بوتفليقة، المُقال، باستخدام الرصاص في وجه المتظاهرين. كما أنهم لم يغفلوا عما اقترفته هذه السلطة من جرائم بحق البلاد، حين عمّمت الفساد، وفرضت القمع، وصادرت حرية التعبير.
ولم تكسر هذه الجماهير جدار الخوف، فحسب، بل إنها، على ما يبدو، قد كسرت جدار الصمت أيضاً حين أرادت أن تقول "لا" لهذا الترشيح، عاكسةً حال الغضب التي تعتمل في صدورها. اكتشفت زيف ما سوَّقته السلطة خلال سني بوتفليقة عن إنجازاتٍ ونجاحاتٍ وانتصاراتٍ، حين استفاقت على واقع التفقير والتهجير وتدمير الاقتصاد وتقاسم البلاد حصصاً بين جنرالات الجيش وسماسرة العقود. ويعزّز خروج المظاهرات، بهذه الأعداد الضخمة من المشاركين، القدرة لدى الجماهير على المضي في فعل التغيير، فارضةً واقعاً جديداً، متسلِّحةً باكتشافها عدوّها، هذا الاكتشاف وهذه المعرفة الضروريين لتعزيز ممارسة حريتها بالمضي بخيارها التغييري.
عرف أبناء الشعب الجزائري أن ما يريده أقطاب النظام من ترشيح بوتفليقة، وإعادة تنصيبه رئيساً، هو أبعد من إبقائه في الحكم، من أجل ضمان استمرار وجودهم وتحكُّمهم بالبلاد وأبناء الشعب. هم يريدون رمزاً عاجزاً لاتخاذ عجزه حجةً دائمةً أنه سبب الركود الاقتصادي والعجز التجاري، وسبب العجز عن تحقيق تنمية وزيادة استثمارات الدولة لإيجاد فرص عمل للجيل الجديد، علاوة على كونه سبباً في عدم القدرة على مكافحة الفساد، فهكذا يصبح من السهل لديها إلصاق كل التجاوزات وحالات الفشل برجلٍ مريضٍ لا يقوى على محاسبة المسيئين، مع أنها  
مسوّقة إياه رمزاً لنظافة الكف.
فتح الشباب الجزائري الذي كان عماد الاحتجاجات التي انطلقت، في 22 فبراير/ شباط الماضي، عيونه، فوجد البطالة تنتظره في ظل اقتصادٍ على شفا الانهيار، وفسادٍ يشلُّ البلاد،
ويهمِّش الشباب، ويحرمه من أملٍ في حياةٍ كريمةٍ في بلاده الغنية بالموارد، فكانت موجات الهجرة الجماعية إلى أوروبا، عبر قوارب الموت، سبيله لتحقيق فرصةٍ في عيشٍ بعيد عن العوَز، بعد أن استبدَّت به حال اليأس والإحباط المزمنة. ومن اللافت أن موجات الهجرة لم تعد تقتصر على الكفاءات أو الشباب، بل شملت كل الفئات العمرية، حتى انتشرت ظاهرة الهجرة الجماعية، والتي تسمّى بلغة الجزائريين "الهربة"، من الفقر والقمع.
أما لماذا تبدو الاحتجاجات الحالية في الجزائر مختلفةً واستثنائية، فأن الشعب لم يحتجّ على ترشُّح بوتفليقة سنة 2014، على الرغم من معرفته بإصابة الرجل بجلطةٍ دماغيةٍ أقعدته، وشلّت قدرته على الحكم، يعطي هذه الاحتجاجات اختلافها واستثنائيتها. ربما يمكن تفسير استنكاف خروج الناس باحتجاجاتٍ في تلك الفترة، بسبب رفع السلطات شعار التخويف من أن الثورات هي سبب الحروب التي تعاني منها غير دولة عربية. إضافة إلى ذلك، هنالك تخويف السلطة الجزائرية الدائم من عودة العشرية السوداء، إن اقتدى الشعب الجزائري بالشعوب  
الثائرة، وطالب بتغيير النظام.
ما يعوَّل عليه في الاحتجاجات هو حقيقة أن الشباب من الجيل الجديد الذي خرج بالتظاهرات لم يشهد سنوات تلك العشرية السوداء، حتى يعتريه الخوف منها. كما يعوَّل على وعيه، وعلى ما بات حقيقةً، أن قمع السلطات الحراكَ السلمي هو سبب الحروب التي تشهدها بعض الدول العربية، وليس ثورات شعوبها. ومع الحقيقة، أو حتى التندّر الدائم، في الشارع الجزائري، بأن هنالك "أشباحاً" يحكمون باسم بوتفليقة، تؤكّد الاحتجاجات أنها ليست موجهةً إلى شخصه، فحسب؛ إذ ساد الوعي بأنه نظام يدير البلاد وفق مبدأ التحاصص، مولياً ظهره لاستحقاقات التنمية والحريات.
يبقى أمام الجزائر ما يبيِّته أقطاب النظام، إن كانوا سيتجاوبون مع المحتجِّين، ويحقّقون مطالبهم بالتغيير، كائناً من كان الرئيس المقبل، أم يبقون على تعنُّتهم ومواجهة المظاهرات بالرصاص، موجِّهين البلاد نحو مستقبلٍ مجهولٍ. تلك ورطةٌ يقع فيها النظام، وتقع فيها المعارضة أيضاً، كونها ليست منتظمةً، ولم تستطع قيادة الحراك، كما فعلت القوى السياسية في السودان، وهو ما يمكن أن يرجِّح كفة النظام القوية، إن لم تتبلور معارضةٌ حقيقية، وتتَّخذ شكلاً للعمل الجماعي، يبعدها عن حال التشظّي وعدم الجدّية التي لحقتها بسبب غياب حياةٍ سياسيةٍ وحرياتٍ إعلاميةٍ.


كاتب المقالة : مالك ونوس
تاريخ النشر : 11/03/2019
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com