نيويورك تايمز تكشف أكذوبة حيادية مراكز الأبحاث الأميريكية


نشرت نيويورك تايمز تقريرا مطولا يقول إن مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة التي تحظى دراساتها باهتمام دولي كبير -على أساس أنها دراسات علمية مرموقة- ليست محايدة أو مستقلة كما يتبادر للأذهان، وإن المانحين والمتبرعين يفرضون أجندتهم على نتائج أبحاث هذه المراكز.

وأوردت الصحيفة بتقريرها -القائم على جهد استقصائي كثيف- العديد من الأمثلة على ما ذهبت إليه، ومن ذلك العلاقة بين معهد بروكنغز للأبحاث بواشنطن، وهو أحد أكثر المعاهد البحثية المرموقة في العالم، ولينار كوربوريشن إحدى أكبر الشركات الأميركية العاملة في مجال تشييد المنازل.

وذكر التقرير أن شركة لينار كانت ترغب في تصديق السلطات المختصة على تنفيذها لمشروع عقاري في سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا تبلغ تكلفته ثمانية مليارات دولار، واستخدمت معهد بروكنغز كصوت له ثقل في الدفاع عن فكرة المشروع والترويج لها، وتبرعت لينار للمعهد بمبلغ أربعمئة ألف دولار معفاة من الضرائب.

مجموعات الضغط
ولم ينفذ المعهد فقط حملة "بحثية" لصالح المشروع، بل ذهب أبعد من ذلك بتعيينه المدير التنفيذي المسؤول عن مشروع
سان فرانسيسكو كوفي بونر في وظيفة كبير باحثين بالمعهد.

"مسودات الدراسات بهذه المراكز يتم إرسالها إلى المتبرعين ليوافقوا على الشكل النهائي لأي تقرير يصدر عن الدراسة أو البحث"

وقال التقرير الذي أعدته الصحيفة بالاشتراك مع مركز نيو إنغلاند للصحافة الاستقصائية إن مراكز الأبحاث والتي تسمي نفسها "الجامعات بدون طلاب" لديها نفوذ في نقاشات السياسات الحكومية لأنها تُعتبر ألا مصالح مالية لديها بهذه السياسات "لكن هذه الفكرة بعيدة عن الصواب لأن هذه المراكز وفي مطاردتها للتمويل تستعين بقدرتها على الترويج لأجندة الشركات والمانحين، وبالتالي تزيل الخط الفاصل بين مراكز الأبحاث "غير المنحازة" ومجموعات الضغط.

وأشار إلى أن معديه راجعوا آلاف المذكرات الداخلية والمراسلات السرية بين معهد بروكنغز ومانحين آخرين غير شركة لينار مثل "جي.بي مورغان تشيس" أكبر مصرف بالولايات المتحدة، وشركة "كي.كي.آر" العالمية للاستثمار ومايكروسوفت وهيتاشي اليابانية.

فوائد التبرع
وقالت نيويورك تايمز إن الدعم المالي من هذه الجهات لبروكنغز يأتي في كثير من الأحيان بعد تأكيدات من المعهد بأنه سيقدم "فوائد التبرع" بما في ذلك التجهيز للمناسبات التي تبرز المسؤولين عن الجهة المتبرعة مع مسؤولين حكوميين.

وأضاف التقرير أن ترتيبات مماثلة تقوم بها كثير من مراكز الأبحاث في قضايا تتباين ما بين المبيعات العسكرية إلى دول أجنبية والتجارة الدولية ونظم إدارة الطرق السريعة والتطوير العقاري، حيث تتحول مراكز الأبحاث إلى وسائل لتجسيد نفوذ الجهات المانحة.

ونقل عن السيناتورة الديمقراطية بولاية ماساشوسيتس إليزابيث وارين -والتي تنتقد في العادة التبرعات السرية من الشركات لمراكز الأبحاث- قولها إن هذا يحدث في الشركات العملاقة التي تعتبر أن إنفاقها بضعة عشرات من ملايين الدولارات للتأثير على صناعة القرار بواشنطن أمر يستحق لأنه يعود عليها بالمليارات.

مصالح ضيقة
وأشارت الصحيفة إلى أن واشنطن ظلت تشهد في السنوات الأخيرة تكاثرا ملحوظا لمراكز الأبحاث، خاصة المعاهد الصغيرة ذات المصالح الضيقة المرتبطة بصناعات محددة، مع تطور ضخم للمراكز الكبيرة.

فقد تضاعفت الميزانية السنوية لمعهد بروكنغز لتبلغ مئة مليون دولار خلال العقد الأخير، كما أن معهد أميركان إنتربرايز يقوم بتشييد مقر له بواشنطن تبلغ تكلفته ثمانين مليونا على الأقل، وهو قريب من مبنى مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية الذي كلف هو الآخر مئة مليون.

وقال التقرير إن شروط المانحين بأن يحقق البحث الذي يتبرعون لتنفيذه أهدافا محددة يهدد حيادية هذه المراكز في نقاشات السياسات في الكونغرس والبيت الأبيض ووسائل الإعلام.

ونسب إلى مسؤولي هذه المراكز نفيهم الشديد لتصويرهم على أنهم أدوات للشركات، وتأكيدهم على أن الأمر ينجم ببساطة من "توافق الأهداف بين الشركات ومراكز البحث مثل مساعدة المدن بالتنمية الاقتصادية".

دفاع واعتراف
ونفى الدبلوماسي الأميركي السابق مارتن إنديك نائب الرئيس التنفيذي لمعهد بروكنغز تلك التهم قائلا إنهم لا يساومون باستقامتهم ويحافظون على قيمهم العليا المتمثلة في إتقان العمل وعدم الانحياز والاستقلال بالإضافة إلى التأثير، لكنه اعترف في نفس الوقت بأن تعيين المسؤول بشركة لينار كوفي بونر ككبير باحثين بالمركز بأنه خلق انطباعا بأن هناك تعارض مصالح، مضيفا أن بروكنغز ومن أجل الشفافية قرر مؤخرا منع أي جهة من التبرع لهم سرا.

وأضاف التقرير أنه وبمراجعة وثائق من أكثر من عشرة معاهد ومراكز بحثية فإن الفوائد التي تحصل عليها الشركات التي تحاول التخفي وراء سلطة مراكز الأبحاث لا يمكن إخفاؤها، موضحا أن النتائج التي تصل إليها تقارير وأبحاث هذه المراكز يتم نقاشها مع المتبرعين قبل إكمال البحث.

"التقرير عرض عشرات الأمثلة لتبرعات مرفقة بطلبات لأبحاث محددة من جهات محددة شهيرة ومرموقة ونتائج توصلت إليها أبحاث بعينها تتوافق مع طلبات الجهات المانحة في شتى المجالات بما فيها الصحية "

وقال إن مسودات الدراسات بهذه المراكز يتم إرسالها إلى المتبرعين ليوافقوا على الشكل النهائي لأي تقرير يصدر عن الدراسة أو البحث.

تبرعات مشروطة
ونسب إلى كبيرة الباحثين بمركز ستيمسون بواشنطن قولها إن مانحين محتملين ضغطوا عليها عندما حاولت جمع تبرعات لبحث حول الاستخدامات العسكرية للطائرات المسيرة المسلحة، مشيرة إلى أن أحدهم سألها: هل تودين القول إن الطائرات المسيرة سيئة؟ نحن لا نقوم بتمويل من أو ما يقول إن الطائرات المسيرة سيئة.

التقرير عرض عشرات الأمثلة لتبرعات مرفقة بطلبات لأبحاث محددة من جهات محددة شهيرة ومرموقة، ونتائج توصلت إليها أبحاث بعينها تتوافق مع طلبات الجهات المانحة في شتى المجالات بما فيها الصحية.

ومن الأمثلة التي تستحق الذكر شركة "جنرال أتوميكس" التي تصنع طائرات بريديتر المسيرة ووجهت بانخفاض مبيعاتها بعد انخفاض وتيرة الحروب في كل من العراق وأفغانستان، ورغبتها في تغيير إدارة أوباما سياستها حتى تسمح بالبيع لدول أخرى، وقد طلبت من مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن مساعدتها مقابل إصدارها دراسة تقنع بها إدارة أوباما.

وأعد المركز بالفعل دراسة بعنوان "العوائق السياسية للتصدير" بعيدا عن لغة مجموعات الضغط، لكنها تؤدي إلى نفس النتيجة.

هذا مثال واحد من أمثلة عديدة تضمنها التقرير ليؤكد أن مراكز البحث التي تصف نفسها بـ "العلمية" و"المستقلة" و"غير المنحازة" بعيدة عن هذه الصفات التي يبدو أنها مجرد أكذوبة تم الترويج لها وانطلت على الجميع.           



كاتب المقالة :
تاريخ النشر : 08/08/2016
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com