"شارلي إيبدو".. بين الجريمة والانتقام وما وراءهما


لم يكن الهجوم المفاجئ، وغير المتوقع، على صحيفة "شارلي إيبدو" الفرنسية التي نشرت الرسوم المسيئة للنبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، في عام 2012، إلا جزءًا جديدًا من مسلسل مشبوه مريب لم تتضح بعد تفاصيله، إلا أن نتائجه واضحة للعيان لا تحتاج إلى خبير أو باحث ليستشرفها أو يستكشفها، فاضطهاد المسلمين هو النتيجة الأبرز لهذه الهجمات، ولكن سنحاول في السطور التالية إعادة تفكيك وتركيب المعلومات المتاحة وتحليلها.

قضية الرسوم المسيئة:

برزت قضية الرسوم المسيئة لأول مرة في 30 سبتمبر 2005، حيث قامت صحيفة "يولاندس بوستن" الدانماركية بنشر 12 صورة كاريكاتيرية للرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وفي 10 يناير 2006 قامت الصحيفة النرويجية "Magazinet" والصحيفة الألمانية "دي فيلت" والصحيفة الفرنسية "France Soir" وصحف أخرى في أوروبا بإعادة نشر تلك الرسوم، وبررت الصحف الأجنبية نشر تلك الرسوم بما أسموه "حرية الرأي والتعبير"، ولا يتسع للمجال لمناقشة هذا المبدأ.

أثارت هذه الرسوم عاصفة كبيرة في العالم الإسلامي، وخرجت التظاهرات المنددة والرافضة لتلك الرسوم في جل العواصم العربية والإسلامية، وكذلك شاركت الجاليات والأقليات الإسلامية في الاحتجاج على تلك الرسوم، واتخذت بعض الاحتجاجات طابعًا عنيفًا في بعض العواصم، ثم تمت السيطرة عليها، وسرعان ما هدأت الأمور، ومضت الأعوام حتى ظهر الفيلم المسيء للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وما تلاه من احتجاجات وأعمال عنف في بعض الدول مثل مصر وليبيا، فقامت الصحيفة الفرنسية "شارلي إيبدو" بإعادة نشر الرسوم المسيئة.

الصحف الدنماركية والفرنسية وغيرها من الصحف التي نشرت الرسوم المسيئة لا تفرق بين النبي الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، وغيره من الأنبياء الكرام وعلى رأسهم المسيح عيسى ابن مريم، الذي يعد في معتقدهم ابن الإله. وما فعلوه –وهو إساءة كبيرة وجريمة فظيعة لا مبرر لها- هو منطق تجاري بحت لا يحترم قيمًا ولا أعرافًا، ولكنه المال والربح الذي تسعى إليه كل وسائل الإعلام، وقد جنت هذه الصحف والمجلات الكثير من الأموال جراء نشر تلك الرسوم وتغطية تداعياتها في أوروبا والعالم الإسلامي كله.

الانتقام:

خلال تسع سنوات مضت لم تتعرض أي صحيفة أو مجلة نشرت الرسوم المسيئة لهجوم مسلح مثل الهجوم الأخير، على الرغم من أنه كانت هناك توقعات وتهديدات بذلك، لكنَّ شيئًا من ذلك لم يقع، وبعد حوالي تسع سنوات، هاجم شابان صحيفة فرنسية لم تكن أول من نشرت الرسوم، بل نشرتها بعد أعوام عدة من انتشارها في صحف أخرى، وتركا أول من نشر الرسوم وسن تلك السنة السيئة.

سارع الكثير من المسلمين بإظهار البهجة والفرح بهذه العملية، لا حُبًّا في العنف ولا رغبة فيه، ولكن تشفيًا فيمن تطاول على مقام الرسول الكريم وتجرأ على إهانته والإساءة إليه، ورغم أن المجرمين رسامي الكاريكاتير يستحقون القتل على جريمتهم بل يستحقون ما هو أكثر من ذلك، لكن الأمر أكبر من ذلك بكثير ولن يمر هكذا مرور الكرام.

إن ما حدث لصحيفة "شارلي إيبدو" يدفعنا إلى إثارة العديد من التساؤلات المشروعة والتي لا يجب التغاضي عنها أو تجاهلها، ومن هذه التساؤلات: لماذا فرنسا وليست الدنمارك؟ ولماذا شارلي إيبدو؟ وما سر التوقيت؟ خاصة أن القضية ليست مثارة على الإطلاق في وقتنا هذا، وهل الجهات التي تبنت هذه العملية لا تهدف لشيء من وراء ذلك العمل غير الانتقام للرسول الكريم صلى الله عليه سلم؟

بتتبع أخبار عملية "شارلي إيبدو" نجد هناك طرفين ظهرا في خلفية المشهد، الأول هو تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية "اليمن خصوصًا"، حين اعترف أحد الشقيقين "كواشي" خلال مداخلة هاتفية بأن تنظيم القاعدة بجزيرة العرب هو من أرسله قبل فترة للانتقام من الصحيفة والعاملين فيها لتطاولهم على مقام الرسول الكريم بنشر الرسوم المسيئة، فيما ظهر طرف آخر وهو تنظيم "داعش" حيث كشف "أميدي كوليبالي" منفذ الهجوم على المتجر اليهودي في باريس بعد هجوم "شارلي إيبدو" أنه على صلة بتنظيم داعش، وأن العملية التي قام بها كانت بأوامر من "أبو بكر البغدادي" زعيم التنظيم، وأنه كان هناك تنسيق مع الأخوين كواشي لتنفيذ العمليات بالتزامن.

وتأتي هذه العملية في وقت يشتد فيه الصراع بين تنظيمي القاعدة وداعش، وبدون الخوض في تفاصيل كثيرة، فإنه لا مجال للاتفاق بين الطرفين في الوقت الحالي، فكيف يتم التنسيق على هذا المستوى العالي بين طرفين متنازعين يرى كل منهما أنه الأحق، بل إن أحدهما يرى الآخر متمردًا رافضًا للبيعة. هل يعقل أن يتفق في فرنسا الذين يقتتلون في سوريا ويهرقون في ذلك دماء المسلمين يتفقون في فرنسا؟!، تساؤل مهم يجب البحث عن إجابة له، ولكن ما ورد في وسائل الإعلام من بيانات التبني لهذه العملية من قبل تنظيم القاعدة في اليمن وتنظيم داعش، لا يشير إطلاقًا إلى وجود تنسيق بينهما في العملية.

التوقيت الخطأ:

على فرضية أن العملية جاءت للانتقام للرسول الكريم، يمكن القول: إن توقيت العملية غاية في السوء بالنسبة للمسلمين في أوروبا بصفة عامة، حيث تتزامن العملية مع تصاعد موجة جديدة من العداء للمسلمين في أوروبا، ولعل ما يحدث في ألمانيا من مظاهرات شبه يومية يشارك فيها عشرات الآلاف هو خير دليل على تلك الموجة، وعلى الرغم من رفض قادة ألمانيا لهذه التظاهرات والتوجهات، لعلمهم بخطورتها على استقرار بلدانهم وليس حبًّا في الإسلام والمسلمين، إلا أن حركة "بيغيدا" التي تتزعم تلك الموجة لا تلقي بالًا لهذه المواقف وتستمر في حشد الألمان ومن خلفهم الأوروبيين وراء شعاراتها وأهدافها.

كما تأتي هذه العملية في وقت حرج بالنسبة للثورة السورية؛ إذ إن ما حدث يستدعي الدول الغربية ضد الثوار السوريين، ويدفعهم إلى التقارب أكثر وأكثر مع النظام السوري، وهو ما يعني تأزم الوضع في سوريا أكثر مما هو عليه، ولن يكون بمقدور السوريين بعد اليوم إقناع الدول الغربية بممارسة أي نوع من الضغوط أو فرض أي عقوبات على النظام السوري.

فرنسا وداعش:

وحول اختيار المكان، ولماذا فرنسا تحديدًا؟ يمكننا أن نشير إلى أن الكثير من الدول الأوروبية شاركت في الحرب التي يشنها التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، إلا أن لفرنسا دورًا كبيرًا في هذا التحالف، وقد تشكل التحالف على أراضيها إثر الاجتماع الذي عقد في العاصمة باريس في شهر ديسمبر الماضي، وكانت من أوائل الدول التي شاركت طائراتها في قصف مواقع التنظيم.

وبذلك يمكن اعتبارها ضربة وصفعة قوية على وجه التحالف الدولي الذي يعلن أنه حقق نتائج إيجابية في سوريا، فإذا بالتنظيم يوجه لهم الضربات في عواصمهم، وهي رسالة ذات معنى ومغزى، فالتنظيم لم يعد محصورًا في سوريا والعراق، وأنه إذا أراد العالم الغربي مواجهة التنظيم فلتكن ساحات المواجهة مفتوحة في كل مكان وعلى رأسها عواصم العالم الغربي.

ولكن يبقى التساؤل الآخر: لماذا "شارلي إيبدو" دون غيرها من الصحف والمجلات الفرنسية التي شاركتها نفس الجريمة، وهي مجلة ساخرة تعتمد أساسًا على الرسوم الساخرة والكاريكاتيرات لجذب القراء؟!.

تداعيات العملية:

حدث ما حدث إذن، وقتل منفذو العملية أربعة من رسامي الكاريكاتير بالمجلة وعددًا آخر من العاملين بها، وشفوا غليلهم وانتقموا للنبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، كما أعلنوا، ولكن هل تحقق مرادهم حقًّا؟ وهل توقفت الإساءة للنبي الكريم؟ وهل حقق داعش أي هدف من وراء تلك العملية يستطيع البناء عليه؟!

إن السنوات التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من عمليات مسلحة في الدول الأوروبية ونتائجها، تشير بوضوح إلى أن هذا النوع من العمليات يكون له تأثير سلبي للغاية على صورة الإسلام وأوضاع المسلمين في تلك الدول، كما أنه يتسبب في حروب تهرق فيها دماء آلاف المسلمين، وما حدث في أفغانستان ليس عنا ببعيد، وذلك لا يعني أنه لم يكن ثمة أطماع كبيرة سابقة ولا تزال.

إن مثل هذه العمليات لا تغني ولا تسمن من جوع، خاصة إذا جاءت في مثل هذه الظروف، وسوف يعتبرها الغربيون نوعًا من التحدي الذي لن يقبلوا بالهزيمة فيه، ولهذا سارعت عدة صحف ومجلات غربية بإعادة نشر الرسوم التي نشرتها الصحيفة التي تعرضت للهجوم بعده مباشرة، بل إن الصحيفة نفسها سارعت بالإعلان عن استمرارها في نشر الرسوم، وأصدرت عددها الأول بعد الهجوم يحمل رسومًا مسيئة أخرى، ليس باللغة الفرنسية فقط، بل بعدة لغات حول العالم، هذا بخلاف عشرات الاعتداءات على المسلمين ومساجدهم في فرنسا وأوروبا بعد العملية، مع تصاعد الدعوات المطالبة بترحيل المسلمين.

إن ثمة قاعدة معروفة لدى أهل العلم الشرعي، تقول: إنه لا يجوز أن ينهى الإنسان عن منكر إذا أدى إلى منكر أكبر منه، ومن المعلوم حتمًا أن الإساءة للرسول منكر كبير وجرم عظيم يستحق صاحبه القتل، لكن إذا كان الانتقام سيؤدي إلى تكرار الإساءة بشكل أكبر مما كان عليه أول مرة، بل والتضييق على المسلمين وحرق مساجدهم والاعتداء عليها وانتهاك حرماتهم والتعرض لنسائهم وربما إراقة دماء بعض المسلمين، فإنه لا يجوز الانتقام في هذه الحالة بهذه الطريقة، ولعل أهل العلم يوضحون ذلك بالتفصيل.

خلاصة القول: إن هذه العملية مشبوهة، ولها أهداف غير التي أعلنت، وإن الانتقام لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يصح بهذه الطريقة وفي مثل هذه الظروف، وإن وراء هذه العملية ما وراءها من تداعيات خطيرة على المسلمين في أوروبا وغيرها.



كاتب المقالة : مجدي داود
تاريخ النشر : 23/01/2015
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com