طفل المغارة


لست من المولعين بهذه الفترة من العام، فالأعياد تحبطني، وهذا الكمّ من الفرح والاحتفال يخيفني، إذ أجدني دائماً أفكّر في الـ ما بعد، أي في تلك اللحظة التي ستنتهي فيها هذه "الهدنات" الصغيرة القسرية التي ننتزعها عنوة من الحياة، وينبغي لنا، بعد انتهائها، العودة إلى روتيننا، والخوض مجدداً في المعارك التي يزجّنا فيها كل نهار. ننزع عنا ملابسنا الجميلة، ونوضّب موائد الاحتفال، نفكّك شجرة الميلاد وزينتها والمغارة، نطويها ونضعها في أكياس النايلون، وفي العلب المخصصة لها، ثم نرفعها إلى العلّيات، مستأنفين المشاغل والهموم نفسها التي سيورثها عامُنا المنصرم إلى العام الجديد.
صغيرةً، حين كانوا يذكّروننا بأن العيد ليس ملابس جديدة وهدايا وسكاكر وحلويات، بل هو ميلاد الطفل يسوع الذي سيصير السيد المسيح. كنت أغافل الجميع، كي أحشر رأسي في المغارة الصغيرة التي تصنعها والدتي من ذاك الورق الخاص المصنوع للمناسبة، ثم أزمّ عيني، فلا أعود أرى إلا شخوصها، الطفل الوليد عارياً في برد الشتاء، أمّه مريم، ويوسف والده الذي ليس والده، هاربيْن خائفيْن عليه من هيرودوس الذي يريد ذبح كل أطفال بيت لحم، البهائم المجتمعة من حوله، وهي تدفئه بأنفاسها، ثم ملوك المجوس القادمين إليه من أماكن بعيدة، محمّلين بالثمين. وحين أمعن النظر في وجهه الجميل، وابتسامته الكرزية وأطرافه الصغيرة، كنت أهدأ وأستكين، إلى أن تأتيني صورته، وقد كبر ثلاثة وثلاثين عاماً، فأراه منبوذاً، مقهوراً، يجرّ صليبه وحيداً على طريق الجلجلة، والجموع تهتف ضده، وأصدقاؤه يتخلّون عنه ويتنصّلون، والسوط يُعمل في جلده أثلاماً من لحم ودماء، والمسامير تُدقّ في أطرافه، والشوك يُغرز في جبهته، والحربة تطعنه في الصدر... يخطر لي أن أسرقه من المغارة، لأخفيه في أحد مخابئي السرّية، فأخلّصه، أمد يدي المرتجفة، وأطبطب عليه، وأبكي، لأنه لا يعرف بعد، ما سيؤول إليه.
بلى يعرف، كانت الراهبة تؤكد لنا، فهو الإله، وهو الذي اختار هذا المصير، والإله عليم بكل صغيرة وكبيرة، وهي مشيئته، ولولاه لما كانت هنالك حياة. وأجدني أهمس: ولِمَ لم يفده الرب الذي هو أبوه، حين رآه يعاني كل تلك الآلام؟ ولم لم يستجب له، حين استنجد به وناداه منازعاً، "إيل، إيل، لم شبقتني؟"، وأيّ ربّ هذا هو الذي يترك ولده الوحيد لأيدي الجلادين والطغاة؟ وأكاد أصرخ في وجهها إنه قاس غليظ القلب لا ينجد الضعفاء، حتى أسمعها تقول "وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الآب"، فتهدأ هواجسي، وأغمض عينيّ، لأستعيده في الأيقونة التي تظهره مستكين الملامح في ثوبه الأبيض، معلّقا في الفضاء...
إلى اليوم، وأنا في العمر الذي لي، ما زال منظر الطفل في المغارة يثير فيّ ذلك الشجن البعيد، إذ يحضرني الألم، والقسوة، وذلك الشعور بالوحدة، حين يتخلى عنك الجميع. واليوم، حين أرى طفلتي تدخل رأسها مثلي في المغارة، أخشى اللحظة التي ستدرك فيها ما سيلي قصة الميلاد. ثم أطمئن نفسي، وأنا أعدّ عتادي وذخيرتي، ردّا على سؤالها عن معنى كل ذلك العذاب. فهو الإله الضحية، أو الإله الضعيف الذي لا يتوعّد، ولا يتهدّد، لا ينتقم ويسامح دوماً، ويحبّ فوق الاحتمال. وهو الذي ثار على المؤسسة الدينية، وانتقد الكهنة وانقلب عليهم، ودخل الهيكل، وهاجم من وما فيه، أوليس القائل "إنما جُعل السبت لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت". وهو الذي لم يلعن المرأة الفاحشة، بل قال لمن أرادوا رجمها، "من كان منكم بلا خطيئة، فليرجمها بحجر". وهو الذي تحدث بلغة البسطاء، وكان دوماً مع الفقراء والضعفاء والمنبوذين والأطفال. وأخيراً، هو الذي انطفأ جميلاً، وأسلم روحه إلى السماء. 



كاتب المقالة : نجوى بركات
تاريخ النشر : 30/12/2014
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com