عام على مجزرة القرن


حتى تكون مواطنًا مصريًّا عاصر وشاهد المجازر المروعة والمشاهد المأساوية التي جرت على أرض مصر خلال العام الماضي، فحتمًا أنت تحتاج إلى طاقة نفسية كبرى حتى تستطيع أن تتجاوز هذه الأحداث العظام، وتتعايش معها كسائر المؤلمات التي هي سمة من سمات الحياة البشرية. أما لو كنت كاتبًا أو مفكرًا أو مشتغلًا بالهمِّ والشأن المصري، فأنت وقتها تحتاج لمداد قلم العلامة ابن الأثير رحمه الله صاحب الفريدة التاريخية الشهيرة "الكامل في التاريخ"، وهو يصف حاله وحال الأمة في بداية الاكتساح المغولي لبلاد الإسلام، فقد كتب يقول رحمه الله بكل حساسية وألم نفسي يعتصر قلبه: "ولقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة، استعظامًا لها وكارهًا لذكرها، فأنا أقدم رجلًا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا.." فانظر إلى الحالة النفسية لابن الأثير على الرغم من كونه لم ير الحادثة ولم يشاهد صورها المروعة، إنما كل هذا التأثير والألم النفسي بالسماع عن خبر المجازر التي ارتكبها المغول، فكيف بمن شاهدها حية على الهواء مباشرة؟

كان يوم الأربعاء 14 أغسطس سنة 2013 لحظة فارقة في تاريخ مصر والمصريين والمنطقة بأسرها، لحظة انهارت فيها كل الثوابت الدينية والمبادئ والقيم الاجتماعية والإنسانية، فلم تعد مصر ولا المنطقة كلها كما كانت، فقد أدخلها الانقلاب العسكري في نفق مظلم لا تعرف نهايته، وسواء صمد الانقلاب أم انهار فإن ما جرى في 14 أغسطس قد قضى بصورة كبيرة على مصر القديمة. فقد تسممت الأجواء المصرية، وتمزقت الوشائج الاجتماعية وانفصمت العرى الإنسانية بصورة غير مسبوقة، وانسدت آفاق الخروج من الأزمة في ظل القيادة الحالية على وأد كل محاولات الإصلاح منذ 3 يوليو حتى اليوم، فقادة الانقلاب وداعموه وممولوه قد بنوا خطتهم منذ البداية على خلق وضعية إستراتيجية مستمرة الهدف منها هو إبادة التيار الإسلامي وليس فقط إبعاده عن المشهد السياسي، والأرقام خير شاهد على هذه الفرضية.

فالأرقام ـ رغم تباينها ـ ذات دلالات مرعبة عن مصر الجديدة، وبعيدًا عن الأرقام الرسمية التي لا تقدم إلا وجهة نظر الانقلاب بكل فجاجة وغباوة فحسب، فإن الجهات المحايدة والمستقلة قدمت أرقامًا مخيفة عن مصر خلال عام من مجزرة القرن، فموقع ويكي ثورة المستقل أعلن أنه فى يوم 14 اغسطس قتل 932 شخصًا جرى توثيق حالاتهم وأن هناك 133 آخرين تم حصرهم بلا وثائق رسمية إضافة إلى 29 قتيلًا مجهول الهوية + 80 جثة مجهولة البيانات في مستشفيات وزارة الصحة + 81 حالة وفاة جرى الحديث عنها دون توفر بيانات كافية عنها، والمرصد المصري للحقوق والحريات القريب من الإخوان وثق 1162 حالة قتلى سقطوا في يوم 14 أغسطس، وأورد على موقعه قائمة بأسمائهم كاملة وأعمارهم وعناوينهم، ومنذ 3 يوليو 2013 وحتى 31 يناير من عام 2014 سقط 3248 قتيلًا. وحتى 28 فبراير وصل عدد المصابين إلى 18.535 شخصًا وحتى 15 مايو من العام الحالي وصل عدد المقبوض عليهم والملاحقين قضائيًّا 41.163 شخصًا، وأحيل أوراق 1200 شخص للمفتي لأخذ رأيه في إعدامهم. ثم جاء التقرير الذي أصدرته منظمة هيومن رايتس ووتش يوم الثلاثاء ليكشف عن مدى بشاعة مجزرة القرن، واصفًا إياها بأنها أكبر عملية قتل جماعي للمتظاهرين في العالم، وأبشع مجزرة في التاريخ الحديث ـ لعله يقصد القرن الحادي والعشرين ــ وقالت المنظمة: إنها "استندت في تقريرها الذي نشر في 188 صفحة، تحت عنوان «حسب الخطة: مذبحة رابعة والقتل الجماعي للمتظاهرين في مصر»، على تحقيق استمر عامًا كاملًا". وذكر بيان «هيومان رايتس»، أن "وقائع القتل الممنهج وواسع النطاق لما لا يقل عن 1150 متظاهرًا بأيدي قوات الأمن المصرية في يوليو وأغسطس من عام 2013، ترقى على الأرجح إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية" ، وأشار البيان إلى أن "قوات الجيش والشرطة قامت على نحو ممنهج بإطلاق الذخيرة الحية على حشود من المتظاهرين المعارضين لخلع الجيش في 3 يوليو لمحمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب في مصر، في ست مظاهرات بين 5 يوليو و17 أغسطس 2013″، بحسب البيان.

14 أغسطس كان واحدة من أقسى تجليات الحكم السلطوي الديكتاتوري الذي يصل ضيقه بالمعارضة لاستباحة الدماء والأعراض والأموال وسائر الحرمات، والذي طار أثره وعم ضرره على المنطقة بأسرها، وكان فاتحة عهد الثورات المضادة التي انطلقت من مصر إلى تونس إلى ليبيا إلى اليمن، في انتفاضة لقوى الاستبداد الإقليمية والدولية لؤاد التجارب الوليدة للحرية والنزاهة والشفافية، أيضًا كان 14 أغسطس فاتحة عهد الهجوم على الإسلام والنيل من ثوابته وقيمه ومنهجه ونظمه تحت غطاء محاربة الإرهاب، وكشف مخططات الإخوان، فمن ينظر لحملات الإعلام في شيطنة الإخوان نجدها قد تجاوزت لحد النيل من الشريعة الإسلامية نفسها، وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة . فتنة ولا أبا بكر لها!

ورغم وحشية المجازر وآثارها الخطيرة محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا إلا أن من رحم المحنة وتولد المنحة، فقد أدرك الإسلاميون أخيرًا عبثية المسارات الديمقراطية التي لا تؤمن إلا بالخيار العلماني فقط، وكانت أحداث 14 أغسطس وما بعدها كاشفة لكثير من المخططات والمؤامرات، كما أنها كانت ممحصة ومميزة للصفوف بصورة لم تعرفها الحركة الإسلامية منذ نشأتها، فالفرز والاستبدال يعملان على أشدهما في إقليم الثورات العربية، فرز طال الجميع، فرز للقيادات والساسة والأحزاب والمنظمات والشيوخ والدعاة والمناهج والأفكار، فرز من القمة إلى القاع، فرز سقط فيه فقه الخنوع والخضوع للطغاة باسم الإمام المتغلب، والأبرز من ذلك تحول الربيع العربي من الاحتجاج السلمي إلى المفاصلة الجهادية بقرار سياسي من الثوار، ولا بفتوى فقهية من العلماء، وإنما جاء ذلك التحول نتيجة طبيعية للديناميكية الاجتماعية. فللجسد الاجتماعي قدرته على الصبر والتحمل، كما للجسد الفردي قدرته على ذلك.

الأثر الذي تركته مجازر رابعة والنهضة في الوعي المصري والعربي لا يقل بحال عن الأثر الذي شكله سقوط طليطلة على يد ألفونسو السادس سنة 479 هـ، ولا الأثر الذي شكله سقوط بيت المقدس على يد الصليبيين سنة 491هـ، ولا أثر اكتساح المغول لبغداد سنة 656 هـ، فكلها وغيرها مثلت محطات فارقة في تاريخ الأمة وشعوبها، وتركت جروحًا غائرة في النفسية المصرية والعربية، ولكنها حتمًا ستكون كبوة بعدها هبة ونهضة، فدهاء ألفونسو في الاستيلاء على طليطلة، حرَّك يوسف بن تاشفين فكانت الزلاقة بعدها، ووحشية الصليبيين في قتل 70 ألف مسلم في بيت المقدس، بعث الأمة من سباتها فكان عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، وهمجية وبربرية المغول في بغداد استنهضت قطز والمماليك فكانت عين جالوت، وسيأتي اليوم الذي نكتب فيه تاريخ القصاص كما نكتب فيه الآن تاريخ المجزرة، ولا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون.



كاتب المقالة : حازم البارودي
تاريخ النشر : 15/08/2014
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com