بلقنة الشرق الأوسط


الشرق الأوسط مصطلح جغرافي وسياسي قديم ، استخدم على فترات زمنية مختلفة ، وبمسميات مختلفة ، مثل الصحاري الكلاسيكية ، وجنوب غرب أسيا ، والشرق القريب ، والشرق القديم ، والشرق الأدنى ، والليفانت وهو مصطلح روماني قديم يشير إلى سكان البحر المتوسط الشرقي ( سوريا ولبنان وفلسطين ) ، أما مصطلح الشرق الأوسط فهو مصطلح انجليزي استعماري استخدمه الانجليز في أواخر القرن التاسع عشر ، للدلالة على الدولة العثمانية ، بامتدادها في البلقان وألبانيا وشمال اليونان والجزيرة العربية ومصر والسودان وطرابلس ، وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى أدخل الانجليز إيران وأفغانستان وباكستان في مصطلح الشرق الأوسط ، فصار مصطلح الشرق الأوسط ذات أبعاد أكبر من كونها جغرافية أو سياسية ، فقد أصبح يشير إلى العالم الإسلامي بصورة أكبر وأدق .

في أوائل القرن العشرين تفاعلت عدة قوى عالمية احتلالية للسيطرة على قلب الشرق الأوسط بوصفه الحلقة الأهم في تأمين طرق التجارة العالمية ، لسيطرتها على الممرات المائية الرئيسية في العالم ، لذلك تنافست عليه القوى الراغبة في تأمين أو تهديدات المستعمرات الأوروبية ، وقد بلغت هذه التفاعلات والمنافسة درجة شديدة من التعقيد والتشابك جعلت الصراع الأوروبي في النهاية يصل لقناعة التفاوض والتقاسم ، فكانت اتفاقية سايكس بيكو سازانوف سنة 1916 الشهيرة ، بين انجلترا وفرنسا وروسيا القيصرية للتفاهم على اقتسام قلب الشرق الأوسط بعد التخلص من الدولة العثمانية .

وعلى الرغم من انكشاف أمر الاتفاقية السرية بعد سقوط روسيا القيصرية ، إلا إن محتوى اتفاقية سايكس-بيكو تم التأكيد عليه مجدداً في مؤتمر سان ريمو عام 1920. بعدها، أقر مجلس عصبة الأمم وثائق الانتداب على المناطق المعنية في 1922. لإرضاء أتاتورك واستكمالاً لمخطط تقسيم وإضعاف سورية، عقدت في 1923 اتفاقية جديدة عرفت باسم معاهدة لوزان لتعديل الحدود التي أقرت في معاهدة سيفر. تم بموجب معاهدة لوزان التنازل عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا الأتاتوركية  إضافة إلى بعض المناطق التي كانت قد أعطيت لليونان في المعاهدة السابقة.وقسمت هذه الاتفاقية وما تبعها سوريا الكبرى أو المشرق العربي إلى دول وكيانات سياسية كرست الحدود المرسومة بموجب هذه الاتفاقية والاتفاقيات الناجمة .

ومن الأمور العجيبة أن في نفس العام الذي وقعت فيه اتفاقية سايكس بيكو ، ولد المستشرق الصهيوني الأشهر " برنارد لويس " في بلد منشأ الاتفاقية المشئومة ؛ لندن ، ليكون بعد ذلك أشهر عرابّي هذه الاتفاقية ومطورها ومدخل أهم وأخطر التعديلات فيها . تخرَّج " لويس "في جامعة لندن 1936م، وعمل فيها مدرس في قسم التاريخ للدراسات الشرقية الإفريقية . كتب "لويس" كثيرًا عن العالم الإسلامي ، وتداخل في تاريخ الإسلام والمسلمين ، فكتب عن كلِّ ما يسيء للتاريخ الإسلامي متعمدًا، فكتب عن الحشاشين، وأصول الإسماعيلية، والقرامطة، وكتب في التاريخ الحديث نازعًا النزعة الصهيونية التي يصرح بها ويؤكدها. وكان " لويس " شديد العداء للعرب والمسلمين ، واصفا إياهم بكل سلبية ونقيصة ، ويعتبر بحق الأب الروحي للحروب الصليبية التي شنتها إدارة بوش الصغير على العالم الإسلامي .

" لويس " هاجر من أوروبا إلى أمريكا في السبعينيات من القرن الماضي ، وكانت كتاباته وأفكاره لا تخفى على الأمريكان ، فمنح الجنسية بعد وصوله بقليل ، والتحق بالعمل السياسي بمعسكر المحافظين الجدد ، والتقت أفكاره مع أفكار الصهاينة الآخرين " كسينجر " و " بريجنسكي " وهما من أهم مؤسسي الفكر الأمريكي المحافظ ، والأكثر تأثيرا في سياساتها الخارجية . ففي عام 1980م والحرب العراقية الإيرانية مستعرة صرح مستشار الأمن القومي الأمريكي "بريجنسكي" بقوله: "إن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن '1980م' هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم علي هامش الخليجية الأولي التي حدثت بين العراق وإيران تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود "سايكس- بيكو "  . وعقب إطلاق هذا التصريح وبتكليف من وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" بدأ المؤرخ الصهيوني " لويس " بوضع مشروعه الشهير الخاص بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية جميعًا كلا علي حدة، ومنها العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان وإيران وتركيا وأفغانستان وباكستان والسعودية ودول الخليج ودول الشمال الإفريقي. وتفتيت كل منها إلي مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية ، شريطة أن تكون هذه الكيانات ضعيفة ومتباينة مذهبيا وطائفيا وعرقيا ، حتى يسهل إشعال الصراع بينها ، وإبقائها تحت السيطرة والهيمنة الغربية .

برنارد لويس لعب دور العرّاب الصهيوني الذي صاغ للمحافظين الجدد في إدارة الرئيس بوش الابن إستراتيجيتهم في العداء الشديد للإسلام والمسلمين، وقد شارك لويس في وضع إستراتيجية الغزو الأمريكي للعراق؛ حيث ذكرت الصحيفة الأمريكية "وول ستريت جرنال في عدد خاص صدر سنة 2006 بمناسبة مرور تسعين سنة على مولد " برنارد لويس " ذكرت " أن "لويس" كان مع الرئيس بوش الابن ونائبه تشيني، خلال اختفاء الاثنين علي إثر حادثة ارتطام الطائرة بالمركز الاقتصادي العالمي، وخلال هذه الاجتماعات ابتدع لويس للغزو مبرراته وأهدافه التي ضمَّنها في مقولات "صراع الحضارات" و"الإرهاب الإسلامي" ، وقد قدم لويس الكثير من الذخيرة الأيدلوجية لإدارة بوش في قضايا الشرق الأوسط والحرب علي الإرهاب؛ حتى إنه يُعتبر بحقٍّ منظرًا لسياسة التدخل والهيمنة الأمريكية في المنطقة ، بحسب وصف الصحيفة نفسها .

مشروع برنارد لويس دخل حيز التنفيذ الفعلي بعد اندلاع الثورة السورية ضد نظام الأسد ، فرغم مأساوية ووحشية الأحداث في سوريا إلا إنها بقدر الله عز وجل قد أصبحت محطة فارقة ، ونقطة فاصلة ، على المستوى الإقليمي والدولي ، فبعد أن اتضح جليا أن الميدان السوري قد أصبح ملعبا لتنافس القوى الإقليمية والدولية على فرض الأجندات وتمرير المصالح وفرض المطالب ، من ثم كانت جنيف الأولي والثانية . وعلى الرغم من كون الفكرة قديمة إلا إن ضربة الكيماوي كانت محطة التسريع لهذه الفكرة . فانتقلت العلاقة الأميركية - الروسية من قطيعةٍ بين أوباما وبوتين في قمة العشرين في بيترسبورج (5 سبتمبر) إلى عناقٍ بين كيري ولافروف في لقاء جنيف (12 سبتمبر)، واتصالُ أوباما المباشَر بالرئيس الإيراني حسن روحاني (15 سبتمبر )، وتصريحُ خامنئي عن أن الدين يُحرِّم اقتناءَ السلاحِ النووي (18 سبتمبر )، وطرحَ موضوع السلاح النووي الإسرائيلي على التصويت في اجتماع منظمة الحد من انتشار الأسلحة النووية في فيينا (20 سبتمبر ) ، أي في غضون أسبوعين فقط ، تم حل مشكلات عالقة منذ سنوات طويلة ،وكلها مبادراتٌ استثنائية ومصيرية ومترابطة لا تحدث من دون تحضير سرّي مسبّق.

إن اتفاق كيري - لافروف في جنيف سبتمبر 2013 يَحلّ واقعياً مكانَ اتفاقية سايكس - بيكو القديمة  كإطار لتقاسم النفوذ الأميركي - الروسي في الشرق الأوسط. والخلافات التي تظهر الآن وغداً بين واشنطن وموسكو تنحصر بكيفية تنفيذ الاتفاق ولن تؤثر على الاتفاق بحدِّ ذاته. ومن يراجع التاريخ، يجدْ أنّ الفرنسيين والبريطانيين اختلفوا كثيراً بعد اتفاقية سايكس بيكو، واستمرت الاتفاقية. لأن الهدف الأساسي من اتفاق أمريكا وروسيا هو الهيمنة على العالم الإسلامي والشرق الأوسط بتمزيقه طائفيا وعرقيا ومذهبيا ، على غرار التجربة البلقانية في أوروبا ، أو الصومالية في أفريقيا ، واقتسام هذه الغنيمة الممزقة على غرار تقسيم مناطق النفوذ في حقبة الحرب الباردة ، لذلك تم التخلص من كل المعوقات التي تحول من تمرير هذه الخطة الشريرة ، بالانقلاب العسكري في مصر ، وإجهاض الثورة السورية ، والتخطيط للانقلاب على أردوغان في تركيا ، وباستنزاف ثروات الخليج بتوريطهم في الإنفاق الجنوني من أجل البحث عن توازن وهمي للقوى في المنطقة ، ليبقى الأمريكان والروس في النهاية سادة الموقف ، وذلك على حطام العالم الإسلامي ، ولكن سيفشل سعيهم بإذن الله ، وستحبط كل مؤامراتهم وخططهم الآثمة بفضل الله عز وجل ، ثم سواعد المخلصين من أبناء هذه الأمة .



كاتب المقالة : المفكرة
تاريخ النشر : 16/01/2014
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com