الوصـول في علــم الإصـول ( 2 )


الباب الثاني

الحكــــم

تعريف الحكم: هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الاقتضاء(الطلب) أو التخيير(التسوية) أو المتعلق بالأعم من أفعال المكلفين على جهة الوضع (الحكم الوضعي).

شرح التعريف:

الخطاب: هو في اللغة عبارة عن توجيه الكلام المفيد إلى الغير بحيث يسمعه. لكن الخطاب هنا بهذا المعنى أمراً اعتبارياً لا يتصف بالوجود كما يتصف به الحكم بعد البعثة حيث يقال: الحكم موجود فكان المراد به الكلام المخاطب به.

خطاب الله تعالى: عبارة عن كلامه النفسي المدلول عليه بالكلام اللفظي سواء كان قرآناً أو سنه أو إجماعاً، أو قياساً أو غير ذلك من سائر الأدلة، حيث أنها معرفة لخطاب الله تعالى كاشفة عن أحكامه وليس مثبته لها.

بأفعال المكلفين: يراد بالأفعال ما صدر عن المكلف من قول أو فعل أو اعتقاد، والمكلفين جمع مكلف ويراد به البالغ العاقل الذي بلغته الدعوة.

على جهة الاقتضاء أو التخيير: الاقتضاء معناه (الطلب) سواء كان طلب فعل أو طلب ترك، وسواء كان كل منهما جازماً أو غير جازم.

أما التخيير فمعناه (التسوية) بين الفعل والترك فشمل ذلك الأحكام الخمسة (الايجاب والندب والتحريم والكراهة والإباحة).

أو المتعلق بالأعم: معطوف على قوله: المتعلق بأفعال المكلفين والأعم من أفعال المكلفين هو الذي يشملها وغيرها.

أما الوضع: فهو الجعل على نحو خاص كعجل الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو صحيحاً أو فاسداً أو في التريف للتنويع فهي تفيد أن الحكم نوعان:

(أ) نوع خاص بأفعال المكلفين.    (ب) ونوع يشمل أعمال المكلفين وغيرهم

الفرق بين الحكم عند الأصوليين والفقهاء:

قول الأصوليون: يرى بأن الحكم هو نفس الخطاب الذي وجهه الشارع طالباً به من المكلف فعل أمر من الأمور. أو الكف عنها. أو مخيراً بين أن يفعل

وألا يفعل، أو جاعلاً شيئاً من الأشياء سبباً، أو شرطا ً، أو مانعاً أو صحيحاً أو فاسداً.

فنحو (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا. ولا تقربوا الزنا. كتب عليكم الصيام) وما ماثلها أحكام عند الأصوليين باعتبار أنها دالة على الخطاب النفسي المتعلق بفعل المكلف أو الأعم منه

قول الفقهاء: فيرون أن الحكم هو أثر ذلك الخطاب الذي هو عبارة عن شرطية الطهارة للصلاة. والحرمة للزنا. والوجوب للصوم.

أركان الحكم

الحكم له أركان يتوقف عليها وجوده في الخارج وهي ثلاثة:

1ـ الحاكم            2ـ المحكوم عليه       3ـ المحكوم به

1ـ الحاكم:

تعريف الحاكم

ذهب العلماء جميعاً معتزلة وأشاعرة إلى القول بأن الحاكم بمعنى منشئ الحكم ومصدره هو الله وحده تبارك وتعالى ، فلا حكم إلا ما حكم به ، ولا شرع إلا ما شرعه ، وهذا محل إجماع المسلمين

الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في معرفة الحكم ومظهرة

ذهب المعتزلة : وفريق من الجعفرية إلى أن العقل قد يستقل بمعرفة الأحكام التكليفية وإدراكها. ويجئ الشرع مؤكداً لحكم العقل فيما يعلمه العقل بالضرورة كالعلم بحسن الصدق النافع أو بالنظر كحسن الصدق الضار. أما ما لا يعلمه العقل بالضرورة ولا بالنظر كصوم آخر يوم من رمضان وتحريم صوم أول يوم من شوال. فالشرائع تكو مظهرة لحكمه لمعنى حقه علينا.

وذهب الأشاعرة: وقول جمهور الأصوليين إلى أن المعرف للأحكام التكليفية . وترتب الثواب على الفعل والعقاب على الترك إنما هو الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي. ولا سبيل لمعرفته بدونه.

لكننا إذا دققنا النظر في خلافهم وجدناه يرجع إلى خلاف آخر بينهم هو : هل العقل يدرك في الأفعال حسناً وقبحاً. أو أنه لا يدرك فيها شيئا من ذلك.

قول الماتريدية : وما ذهب إليه محققوا الحنفية وبعض الأصوليين ، وفريق من الجعفرية وغيرهم. بأن الأفعال حسناً وقبحاً يستطيع العقل إدراكها في معظم الأفعال بناء على ما في الفعل من صفات ، وما يترتب عليه من مصالح ومفاسد ، ولكن لا يلزم من كون الفعل حسناً حسب إدراك العقل أن يأمر به الشرع ، ولا يلزم من كون الفعل قبيحاً أن ينهى عنه الشرع ، لأن العقول مهما نضجت فهي قاصرة ، ومهما اتسعت فهي ناقصة.وعلى هذا فكل ما يمكن أن يقال: هو أن ما في الفعل من حسن يدركه العقل ، يجعل الفعل صالحاً لأن يأمر به الشرع ، وأن ما في الفعل من قبح يدركة العقل يجعل الفعل صالحاً لأن ينهى عنه الشرع، ولا يقال: إن الحسن والقبح موجبان لحكم الله بالأمر والنهي. وبنوا على ذلك: أن الله لا يدرك بدون وساطة رسول وتبليغه ، ومن ثم : فلا حكم لله في أفعال العباد قبل بعثة الرسل أو قبل بلوغ الدعوة ، وحيث لا حكم فلا تكليف ، وحيث لا تكليف فلا ثواب ولا عقاب.

القول المختار: القول الثالث هو الراجح المؤيد بالكتاب وبالعقل ، أما الكتاب ففيه آيات كثيرة تدل على أن الله إنما يأمر بما هو حسن وينهي عما هو قبيح ، والحسن والقبح ثابتان للأفعال قبل الأمر والنهي ، ومنها قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النحل: 90

وقال تعالى: (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) الأعراف: 157

فما أمر به الشارع من عدل وإحسان ومعروف ، وما نهاهم عنه من فحشاء ومنكر وبغي ، وما أحل لهم من طيبات ، وما حرم عليهم من خبائث ، كل هذه الأوصاف الحسنة أو القبيحة: كانت ثابته للأفعال قبل ورود حكم الشرع فيها ، مما يدل على أن للإفعال حسناً وقبحاً ذاتين.

والعقل يدرك حسن بعض الأفعال وقبح البعض الآخر بالضرورة : كحسن العدل والصدق ، وقبح الظلم والكذب ، ولكن حكم الله لا يعرف إلا عن طريق الرسول ، فما لم يأت رسول يبلغ الناس حكم الله ، فلا يثبت في أفعال الناس حكم بالإيجاب أو التحريم بدليل قوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) الأسراء: 15

فلا عذاب قبل بعثة الرسول أو بلوغ الدعوة ، وحيث لا عذاب فلا تكليف ، وحيث لا تكليف فلا حكم لله في أفعال العباد على وجه طلب الفعل أو التخيير بينهما.

2ـ المحكوم عليه:

تعريف المحكوم عليه: هو المكلف الذي تعلق الخطاب بفعله .

شروط صحة التكليف:

يشترط في الإنسان حتى يصح تكليفه شرعاً : أن يكو قادراً ، بنفسه أو بالواسطة على فهم خطاب التكليف الموجه إليه ، ويتصور معناه بالقدر الذي يتوقف عليه بالامتثال ، لأن الغرض من التكليف الطاعة والامتثال ، ومن لا قدرة له على الفهم لا يمكنه الامتثال. والقدرة على الفهم إنما تكون بالعقل ، ويكون خطاب الشارع مما يمكن فهمه ومعرفة المراد منه . ولما كان العقل أمراً باطناً لا يدرك بالحس ، وغير منضبط ، مقام العقل لأنه مظنته ، وجعل مناط التكليف بلوغ الإنسان عاقلاً ، وحط عنه التكليف قبله تخفيفاً عنه. ودليل ذلك ، قوله عليه الصلاة والسلام : "رفع القلم عن ثلاثة ، عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق "، وفي رواية حتى يعقل . فإذا بلغ الإنسان الحلم ، وكانت أقواله وأفعاله جارية على حسب المألوف المعتاد بين الناس ، مما يستدل به على سلامة عقله ، حكم بتكليفه لتحقق شرط التكليف : وهو البلوغ عاقلاً . فالمكلف إذن هو البال العاقل دوه غيره من صبي عاقل أو بالغ غير عاقل.

وعلى هذا لا يكلف المجنون ولا الصغير مميزاً كان أو غير مميز . أما ما ذهب إليه جمهور الفقهاء : من لزوم الزكاة في مال المجنون والصغير ، وما

ذهب إليه جميع الفقهاء : من وجوب نفقة القريب والزوجة وضمان المتلفات عليهما ، فليس ذلك تكليفاً للصغير والمجنون ، وإنما هو تكليف لوليهما

بأداء هذه الحقوق من مالهما ، وإنما وجبت هذه الحقوق عليهما لأنهما يملكان أهليه وجوب

وللحديث بقية

في

السلسلة الإصولية



كاتب المقالة : الشيخ / محمد فرج الأصفر
تاريخ النشر : 08/11/2013
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com