واسطيـة الإسلام بين بدعة التكفـير والإرجـاء ( 1 )


إن الحمد لله، نحمدُه ونستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا،

من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه ،

بعثه اللهُ رحمةً للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً. بلّغ الرسالة وأدّى الامانة ونصحَ الأمّةَ فجزاهُ اللهُ خيرَ ما جزى نبياً من أنبيائه.

صلواتُ اللهِ وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ، وعلى صحابته وآل بيته ، وعلى من أحبهم إلى يوم الدين.

أما بعــــد

فإن الله تعالى حفظ هذا الدين بحفظ مصدريه الكتاب والسنة، ومن تمام المحافظة على الدين، ما جاء في الشرع من التحذير من الفرق الغوية، وأهل الضلالات البدعية ، التي فرقت شمل الأمة، وجانبت السنة، وزادت في الدين ما ليس منه. ومن الفرق التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم أمته المرجئة والخوارج ، ومن نهج نهجهم ، ومشي على ضربهم ، وقال بقولهم

ومن عجيب ما سمعنا في هذا الزمان ممن لبسوا لباس العلماء ومسوح الفقهاء ،وهم من الجهلاء ، وأصحاب البدع والضلالات ، لأنهم خالفوا منهج أهل السنة والجماعة ، ودين رب الأرض والسموات، فقالوا بقول السفهاء أهل الإرجاء (لا يضر مع الإيمان شيء) ، أو قالوا بقول الغلاة من الخوارج (فكفروا المخالف بارتكاب المعاصي والكبائر). واتبعهم الجاهلون والمغرر بهم من الواهمين أصحاب الهوى والقلوب الهاوية والذين لا حظ لهم في العلم والفهم والدين. فشرعت في كتابة هذا المقال حتى يعلم القاصي والداني بالفرق بين الفريقين ، ويتعلم الجاهل ، ويعود المغرور ويتوقف المفتون عن الأقوال التي تخالف منهج أهل السنة والجماعة من المنقول والمعقول.

خطر التكفير:

لا يسارع في التكفير من كان عنده مُسكَة من ورع ودين، أو شذرة من علم ويقين، ذلك بأن التكفير وبيل العاقبة، بشع الثمرة، تتصدع له القلوب المؤمنة، وتفزعُ منه النفوس المطمئنة. وذلك لما يترتب عليه من أحكام عديدة، ووجوه من الوعيد شديدة، كوجوب اللعنة، والغضب ، والطبع على القلب، وحبوط الأعمال، والخزي والعار، وعدم المغفرة، ثم الخلود أبد الآبدين في عذاب من رجز أليم، هذا إلى جانب مفارقة الزوجات ، وعداوة الأهل والأصحاب ، واستحقاق القتل، وعدم الميراث، وتحريم الصلاة عليه، وإبعاد دفنه عن مقابر المسلمين، إلى غير ذلك مما هو مزبور في مصنفات الفقه ودواوين الأحكام.

عن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه)متفق عليه

عَنْ أَبي هُريرةَ ُقالَ قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُم عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقوَى هَهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِه ثَلاَثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وعِرْضُهُ)رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) رواه البخاري

قال العلاء بن زياد التابعي: (ما يضرك شهدت على مسلم بكفر أو قتلته). حلية الأولياء

وقال أبو حماد الغزاليٍ: (والذي ينبغي الاحتراز منه: "التكفير" ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطاُ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم). الاقتصاد في الاعتقاد

وقال ابن أبي العز الحنفي: (واعلم رحمك الله وإيانا، أن باب التكفير وعدم التكفير، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه، في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم، على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية). شرح الطحاوية

الخوارج وبدعة التكفير:

من أبرز سمات الخوارج أنهم كفروا المسلمين بما ليس بمكفر شرعاً، فإنهم فهموا من بعض نصوص الوعيد أن من وقع منه هذا الذنب، فإنه يكون كافراً مخلداً في نار جهنم، وهذا من أكبر أسباب خروجهم عن جماعة المسلمين، وبروزهم على المسلمين بالسيف والقتل.

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: ( الخوارج يكفرون من زنى أو من سرق، أو سفك الدم، بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر!! والمسلم لا يكفر إلا بالشرك) انتهى كلامه

منهج أهل السنة في الرد على بدعة التكفير:

إن سبب التكفير عند الخوراج هو أن الكفر شيء واحد وهكذا الشرك والنفاق والظلم والفسوق، بل إنهم يكفرون بالذنوب التي لم تسمى في الشرع كفراً ولا شركاً. ولو أنهم فصلوا بين الكفر الأكبر والأصغر، والشرك الأكبر والأصغر، والنفاق الأكبر والأصغر، والظلم الأكبر والأصغر ، والفسق الأكبر والأصغر، لما وقعوا في التكفير. ولفرقوا بين من أقر بالألوهية وصد منه نوع كفر أصغر، أو شرك أصغر وبين من وقع منه نوع كفر أكبر ، أو شرك أكبر ولوافقوا أهل السنة والجماعة في التفصيل ، وخرجوا من التكفير .

قول السلف في التكفير بالذنوب والمعاصي:

نص العلماء من السلف والخلف على أن من أصول أهل السنة عدم التكفير بكل الذنوب.

قال أبو حنيفة: (ولا نكفر مسلماً بذنب من الذنوب وإن كانت كبيرة، إذا لم يستحلها، ولا نزيل عنه اسم الإيمان، ونسميه مؤمناً حقيقة، ويجوز أن يكون مومناً فاسقاً غير كافر). الفقه الأكبر

وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: (وإن الذي عندنا في هذا الباب كله: أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيماناً ولا توجب كفراً، ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله). الإيمان

وقال الإمام الطحاوي: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لم عمله). العقيدة الطحاوية

وقال ابن بطة: (وقد أجمعت العلماء لا خلاف بينهم أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ، ولا نخرجه من الإسلام بمعصية ، نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء). الإبانة الصغرى

وقال النووي: (واعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل الأهواء والبدع). شرح النووي

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إنه قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة، أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعمل، إذا كان فعلاً منهياً عنه، مثل الزنا، والسرقة وشر الخمر، ما ليم يتضمن ترك الإيمان). مجموع الفتاوى

فدلت النصوص وأقوال الأئمة على أن المسلم لا يكفر بمجرد ارتكابه للذنوب، سواء كانت هذه الذنوب متعلقة بترك المأمورات أو فعل المحظورات.

ولكن ينبغي مراعاة أن لا يكون الذنب منصوصاً على الكفر به كفراً أكبر، أو مما ينافي الإيمان بالله . ولذلك امتنع بعض العلماء من إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب بل قال: لا نكفرهم بكل ذنب كما يفعل الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب.

ومما ينبغي مراعاته أيضاً دخول البدع تحت هذه القاعدة إذ البدع من جملة المعاصي وهي متفاوتة بحسب تفاوت المعاصي فكما أنه لا يكفر بكل ذنب فكذلك لا يكفر بكل بدعة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( المقصود هنا أنه لا يجعل أحد بمجرد ذنب بذنبه ولا ببدعة ابتدعها ولو دعا الناس إليها كافراً في الباطن، إلا إذا كان منافقاً، فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول، وما جاء به ، وقد غلط في بعض من تأول من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم لا على بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين). مجموع الفتاوى

وللحديث بقية

إن قدر الله البقاء واللقاء



كاتب المقالة : الشيخ / محمد فرج الأصفر
تاريخ النشر : 20/09/2013
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com