صراع رجال أمريكا في فلسطين


أخيرًا وبعد عدة أسابيع من الشد والجذب، والضغط الأمريكي والأوروبي و"الإسرائيلي" المتواصل على محمود عباس وحركة فتح، تم قبول استقالة سلام فياض رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، والمعنى الأدق والأحرى إقالته وليس استقالته، ليضع محمود عباس حدًّا للتكهنات الدائرة، والتصريحات الأمريكية المتتالية، حول بقاء فياض في منصبه، لتصل المنافسة بين الرجلين على الزعامة إلى محطته النهائية. فما الذي أدى بالعلاقة المتينة والوثيقة بين الرجلين إلى هذا المصير الدراماتيكي؟ ولماذا هذا التصلب العباسي في مواجهة الضغوط الأمريكية؟

خلاصة القول من أحداث الأسابيع الأخيرة في المنظمة الفلسطينية الأم: إنه صراع بين رجال أمريكا في فلسطين، انتهى لصالح من استطاع أن يحشد خلفه أكبر قدر ممكن من الكوادر والقيادات التاريخية والمؤثرة، ولمن استطاع أن يستفيد من أخطاء الطرف الآخر، ولمن استطاع أن يوظف الاستعجال الأمريكي لصالحه، فليس سلام فياض بأكثر أمريكية من محمود عباس، وليس محمود عباس بأكثر وطنية من سلام فياض، كلاهما سواء، مشروع أمريكي ناجح، تربى وترعرع في الحضن الأمريكي الدافئ.

محمود عباس هو الشخص الذي استخدمه الأمريكان والصهاينة من قبل للضغط على الراحل ياسر عرفات، ثم الإطاحة به في أحداث المقاطعة الشهيرة سنة 2003، بعدما ما قرر الأمريكان والصهاينة قطع التعامل مع عرفات، فكان عباس هو الخيار المفضل لهم، ومن ثم كانت الضغوط على ياسر عرفات، لتعيينه كرئيس للوزراء، وعلى رغم امتعاض عرفات من فكرة رئاسة الوزراء إلا أنه عينه كرئيس للوزراء سنة 2003، إلا أن الصراع بينه وبين رئيس السلطة ياسر عرفات حول الصلاحيات والنفوذ قد ظهر للعلن، وألمح عباس أنه سيستقيل من منصبه إن لم تتوفر له صلاحيات رئيس الوزراء، وكانت المحصلة أن قدم استقالته من منصبه، فوجهت أمريكا وإنجلترا اللائمة على ياسر عرفات لتخطيه منصب رئيس الوزراء، وهي نفس الأطراف التي تضغط الآن، فأجبر عرفات على التواري من المشهد الفلسطيني كله لأول مرة منذ الخمسينيات، ليحل محمود عباس مكانه ابتداء من 9 يناير 2005، كرئيس للسلطة الفلسطينية، وعلى الرغم من انتهاء ولايته في 2009، إلا أنه ما زال حتى الآن هو الرئيس المعترف به دوليًّا بفضل الدعم الأمريكي والأوروبي، تقديرًا لدوره الكبير في الحفاظ على أمن الكيان "الإسرائيلي"، ومحاصرة وخنق حركة حماس في غزة العزة.

أما سلام فياض فهو رجل أمريكا الأول في فلسطين بلا منازع، فهو صناعة أمريكية صرفة، لم يتلبس بما تلبس به غيره من كوادر فتح من أفكار شيوعية ومغامرات راديكالية وتنظيمات سرية وحسابات عشائرية، فهو أصغر سنًّا من كوادر وقيادات فتح الكبار، فهو أصغر مثلاً من محمود عباس بـ17 سنة، تلقى تعليمه في الجامعات والمدارس الأمريكية، فقد حصل سلام فياض على درجة البكالوريوس في الهندسة من الجامعة الأمريكية في بيروت في عام 1975م، ثم انتقل إلى أمريكا حيث حصل في عام 1980 على درجة الماجستير في المحاسبة من جامعة سانت ادوارد في ولاية تكساس، وفي عام 1986م حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة تكساس، أما حياته العملية فتكشف عن الرعاية الأمريكية الخاصة به منذ البداية، فبعد حصوله على الدكتوراه في الاقتصاد مباشرة، عمل في رئاسة البنك الدولي في واشنطن، حيث تقلد وظيفة مساعد المدير التنفيذي، ثم بعد ذلك تمت ترقيته بسرعة غريبة إلى منصب مستشار المدير التنفيذي، واستمر في هذه الوظيفة من عام 1992 وحتى عام 1995م، وبعد توقيع اتفاقية أوسلو في عام 1993م، تم تحويل وظيفة الدكتور سلام فياض من البنك الدولي إلى صندوق النقد الدولي، وتولي منصب الممثل المقيم في القدس لصندوق النقد الدولي كممثل للسلطة الفلسطينية، واستمر عمله خلال الفترة من عام 1995م وحتى عام 2001م، بعد ذلك تحول إلى البنك العربي في وظيفة المدير الإقليمي للبنك لدى السلطة الفلسطينية.

في عام 2002، وبضغط مكثف من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، قام الزعيم الفلسطيني الراحل عرفات، بتعيين سلام فياض في منصب وزير المالية الفلسطيني، وبعد تعيينه كوزير وافقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على تقديم المزيد من المعونات والمساعدات، بحيث وصل حجم الميزانية المتاحة أمامه مبلغ 1،28 مليار دولار، إضافة إلى منصب وزير المالية، فقد تولى سلام فياض منصب وزير الزراعة، ووزير السياحة، ووزير الاقتصاد الوطني، ووزير الطاقة، ووزير التخطيط. حتى وصف بالرجل الخارق الذي يجمع كل الصلاحيات في يديه، وذلك كله بإيعاز مباشر من أمريكا وأوروبا، وذلك حتى يلعب سلام فياض دور المراقب والمشرف المالي والإداري على السلطة الفلسطينية بالنيابة عن أمريكا و"إسرائيل" وأوروبا.

العلاقة بين محمود عباس وسلام فياض كانت على ما يرام؛ فكلا الرجلين يعلم حقيقة الآخر تمامًا، ويعرف كيف أتى إلى منصبه، ومن يدعمه، وما هو المطلوب منه تحديدًا، لذلك كان التفاهم المصلحي والتبادل المنفعي هو شعار العلاقة بين الرجلين، والإطار الذي يحكم علاقة الرئيس برئيس وزرائه، حتى كانت الزيارة المشئومة لباراك أوباما، ومشروعه الذي حمله للمنطقة من أجل إنهاء القضية الفلسطينية، وهو حل الدولة الفلسطينية وفقًا للمفهوم الأمريكي و"الإسرائيلي"، دويلة منزوعة السلاح، حبيسة لا حدود لها، لا تحتفظ بجيش ولا قوات نظامية، لا تنتظم في نطاق جغرافي متصل، بل بؤر متناثرة في الضفة وفي غزة، والأنكى من ذلك لا يسمح فيها بعودة اللاجئين الفلسطينيين بالخارج، والمشتتين من عشرات السنين بعيدًا عن ديارهم.

وحتى يلقى هذا الحل الأمريكي للدويلة المشوهة قبولاً، فقد حمل أوباما معه عروضًا اقتصادية وحوافز مالية ضخمة، اعتمد عليها في إقناع الرافضين لحل الدولتين، واستبق وزير خارجيته جون كيري الزيارة بثلاث زيارات متتالية إلى رام الله وتل أبيب، من أجل إحياء مسار المفاوضات، والتنسيق بين الطرفين على اعتماد التنمية الاقتصادية كخطوة أولى نحو المصالحة السياسية، ومن شدة وثوق أوباما في نجاح خطته الآثمة، قرر أن يقدم على خطوة لم يقدر عليها أي رئيس أمريكي من قبل، وهي الذهاب إلى القدس، والإعلان عن كونها العاصمة الأبدية للكيان الصهيوني، في خطوة مرت مرور الكرام على منطقة مشتعلة من أقصاها لأدناها بخلافات داخلية كثيرة، وأيضًا أقدم أوباما في زيارته تلك على الاجتماع مع سلام فياض منفردًا، والثناء عليه بصورة استفزت محمود عباس، خاصة بعد أن وصفه أوباما بصديق أمريكا المقرب جدًّا، والحليف الوثيق للأسرة الدولية الذي يجب الاعتماد عليه في المرحلة القادمة، في إشارة أحسن عباس التقاطها، أن ثمة أمورًا يجري ترتيبها من الجانب الأمريكي و"الإسرائيلي" بخصوص مستقبل السلطة الفلسطينية، خاصة وأن أسلوب فياض في الحكم قد شهد تغييرًا ملحوظًا في الفترة الأخيرة، وتوسعت صلاحياته، وتخطت قراراته قرارات محمود عباس، خاصة في أزمة وزير المالية نبيل قسيس الذي أطاح به فياض رغمًا عن أنف محمود عباس، فتيقنت شكوك عباس تجاه النوايا الأمريكية، ومن ثم كان تصرفه السريع بإقالة فياض، وصموده المستغرب في وجهه الضغط الأمريكي والأوروبي.

العديد من المكالمات الهاتفية من جون كيري من أجل إقناع محمود عباس برفض استقالة فياض، وتطويق الأزمة وإنهائها بأي شكل، مع تهديدات ضمنية بوقف مسار المفاوضات الجديد، وإعادة النظر في المنح والمساعدات للسلطة، في الوقت التي تعاني فيه من أزمات مالية هي الأشد منذ سنة 1994، ومع ذلك عباس مصرٌّ على إقالة فياض، وبدا أن هذا الإلحاح الأمريكي على إبقاء فياض هو نوع من الغباء السياسي، أدى إلى حرق رجلهم المفضل وصديقهم الأثير في السلطة، مما حدا ببعض المحللين بالتشكيك في الأمر برمته، واعتبار مع جرى مع فياض هو نوع من التضحية بالرجل، وحرقه سياسيًّا بعد انتهاء مهامه، من أجل تدعيم وتقوية مكانة محمود عباس في ملف المصالحة الفلسطينية، خاصة وأن محمود عباس لا يمانع في حل الدولتين بالمفهوم الأمريكي، لذلك لا مانع عند أمريكا مطلقًا أن يرحل فياض ويبقى عباس، أو العكس، ما دام كلاهما سيخضع للإرادة الأمريكية وينفذ الأجندة بحذافيرها.

محمود عباس استفاد برصيد التجربة، وفارق الخبرة، في صراعه مع فياض، ولم يقع في نفس أخطاء عرفات، عندما حدثت نفس المكيدة من قبل، فاستطاع عباس أن يحشد رجال فتح الكبار في صفه مثل عزام الأحمد وعريقات ونبيل عمرو وأمين مقبول وغيرهم، ليبرهن للأمريكان والأوروبيين أن مفاتيح اللعبة ما زالت في يديه، وأنه الوحيد القادر على السيطرة على المنظمة الأم في فلسطين، وأن على من يريد أن ينافسه في هذا المقام أن يرحل سريعًا، وهو تم مع فياض، ولم يتناطح فيه عنزان، ولم تبد أمريكا عينًا حمراء من أجله، ولا هددت "إسرائيل" بحصار أو مقاطعة من أجل إعادته لمنصبه، وكذلك المجتمع الأوروبي، وغاية أمر الجميع الأسف البارد على رحيل الرجل.

أما شعارات الصداقة والشراكة والمحالفة، فكل الشعارات الأمريكية تستخدمها أمريكا لخداع الحمقى والمغفلين واستغلالهم، ولا عزاء للشرفاء في زمن العبيد والعملاء.



كاتب المقالة : شريف عبد العزيز
تاريخ النشر : 20/04/2013
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com