رحلة إلى عالم الأهوال


المصادفة وحدها قادتني إلى عالم الأهوال المسكوت عليه في عصر مبارك. ذلك أنني منذ تساءلت فيما كتبته يوم 15/4 عن أعداد الذين قتلوا في زنازين المخابرات العامة. لم يتوقف رنين الهاتف في بيتي من جانب أسر ضحايا تلك المرحلة الكئيبة والمروعة. ولاحظت أن البعض عاتبوني لأنني لم أتحدث عن ضحايا سجون وزارة الداخلية.

ولأن عددًا منهم تركوا لي أرقام هواتفهم، فإن ذلك أتاح لي أن أشرح لهم أن سياق الحديث لم يكن ضحايا سنوات الدم في التسعينيات، ولكنه كان عن محتويات ملف رئيس المخابرات الذي ترشح رئيسًا للجمهورية بعد 15 شهرًا من الثورة على النظام الذي كان بمثابة الوجه الآخر له.

استوقفني في واحد من تلك الاتصالات أن محدثي ذكر أن ثمة جهدًا يبذل منذ عدة أشهر لحصر ضحايا تلك المرحلة، سواء الذين مروا منهم بزنازين المخابرات العامة أو بالسجون التابعة لوزارة الداخلية، وفهمت من المتحدث أنه واحد من فريق عمل يجمع المعلومات المتعلقة بالموضوع.

وحين طلبت منه مزيدًا من التفاصيل، فإنه دلني على آخرين ممن تتجمع لديهم تباعًا نتائج البحث وتدقيق المعلومات في المحافظات المختلفة، التي تدخل مرحلتها الأخيرة هذه الأيام.

فهمت أيضًا أن الأغلبية الساحقة من هؤلاء (95٪ كما يقولون) من أعضاء الجماعة الإسلامية الذين اقتيدوا إلى السجون تباعًا في الفترة ابتداءً من عام 92 وحتى عام 2006، بسبب سلسلة العمليات الإرهابية التي قاموا بها حينذاك. وهي التي يقولون الآن: إنهم دفعوا إليها بعدما لجأت أجهزة الأمن إلى تصفية بعض عناصرهم جسديًّا، فاستنفروا للدفاع عن أنفسهم، ويقرون الآن بأن العنف الذي استخدموه كان خطأ وقعوا فيه، واعترفوا بذلك في إعلانهم عن مبادرة وقف العنف في عام 97، ثم في بحوث «المراجعات» التي صدرت تباعًا في أربعة كتب منشورة. وبعد الثورة حين سقط نظام مبارك، وانفتح أمام الجميع باب الدعوة إلى التغيير بالطرق السلمية والقانونية، فإنهم شكلوا حزب «البناء والتنمية»، الذي يقوده الدكتور صفوت عبدالغني (وكيل المؤسسين) الذي قضى 20 سنة متقطعة في السجن وعلمت منه أن للحزب الآن 15 نائبًا في مجلس الشعب ونائبين في مجلس الشورى.

قبل الدخول في أي تفاصيل، أسجل أنني لست في وارد تقييم تجربة التسعينيات، ولا تبرير موقف الأطراف المختلفة خلالها. وأشدد على أنني ضد استخدام العنف أسلوبًا في تغيير النظام السياسي في ظل الدولة الوطنية، كما أنني مع التعامل الحازم مع كل من يخالف القانون خصوصًا إذا تعلق الأمر بالنظام العام للمجتمع وأمنه. لذلك فليس لدي أي تعاطف مع موقف جماعات العنف أيًّا كانت مسمياتها، لكني متعاطف مع إنسانية عناصرها. ودعوتي إلى التشدد والحزم في التعامل معهم لها شرط واحد هو أن يتم ذلك في حدود القانون.

قال لي الدكتور صفوت عبدالغني: إن الاعتقالات في صفوف الجماعة بدأت عام 1986 في عهد اللواء زكي بدر وزير الداخلية، ولكنها كانت لعدة أشهر، إلا أن مدد الاعتقال طالت وارتبطت بالتصفية الجسدية ابتداءً من عام 1992 في عهد اللواء حسن الألفي؛ إذ في ذلك العام قتل رجال أمن الدولة عضوًا في الجماعة اسمه عرفة درويش حين كان يخطب على منبر الجمعة في ديروط، الأمر الذي أثار الأهالي الذين اشتبكوا مع الشرطة آنذاك، وحين جاء اللواء حبيب العادلي في سنة 95 حدثت الاستباحة الكبرى لعناصر الجماعة.

ذكر الدكتور صفوت أيضًا أن عملية التوثيق الراهنة بيَّنت أن الذين تم اعتقالهم من أعضاء الجماعة تراوح بين 22 و23 ألف شخص، من هؤلاء قتل ما يزيد على ثلاثة آلاف، ونفذ حكم الإعدام في 131 آخرين، والذين تمت تصفيتهم في السجون كانوا 450 شخصًا. وهؤلاء إما أطلق عليهم الرصاص وإما ماتوا من التعذيب أو أصيبوا بأمراض داخل السجن لم يعالجوا منها. وأقلهم ماتوا قدرًا. أما الباقون فقد قتل أغلبهم بإطلاق الرصاص عليهم عمدًا أثناء الملاحقات أو من باب الترويع والتأديب، ومنهم من قتل أثناء الاشتباكات التي وقعت مع الأجهزة الأمنية. إضافة إلى هؤلاء، تم رصد 50 حالة اختفاء لناشطين في الحركة. وهي لشباب اختطفوا من الشوارع أو من مقار أعمالهم ولم يظهر لهم أثر منذ أكثر من عشرين عامًا.

أغلب الضحايا من الوجه القبلي. وأعلى نسبة من القتلى من أبناء مركز ديروط بمحافظة أسيوط ومركز ملوي بالمنيا. أما أغلب المختطفين فهم من محافظتي قنا وأسوان. وذلك كله تم توثيقه وحصره، بعد مسح الذين وجدوا في ثمانية سجون كبيرة موزعة على أنحاء مصر، بعضها أنشئ خصيصًا لاستيعابهم. وعملية المسح والتوثيق هذه حددت أسماء الضحايا والتهم التي وجهت إليهم. والسجون التي وزعوا عليها. كما تضمنت أسماء ضباط جهاز أمن الدولة الذين أشرفوا على تعذيبهم أثناء التحقيق معهم وضباط السجون الذين واصلوا المهمة بعد ذلك بعد انتقال المحتجزين من سلخانات الداخلية إلى بقية السجون. (يقولون: إن 80٪ من أولئك الضباط لا يزالون موجودين ويؤدون عملهم في الجهاز بعد تغيير اسمه إلى الأمن الوطني بدلاً من أمن الدولة).



كاتب المقالة : فهمي هويدي
تاريخ النشر : 24/04/2012
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com