موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || النظام السوري.. عوامل الانهيار ورهانات البقاء
اسم المقالة : النظام السوري.. عوامل الانهيار ورهانات البقاء
كاتب المقالة : د. بشير زين العابدين

 

ثمة تشابه كبير بين سرعة تولي بشار الأسد الحكم عام 2000، وبين فقدانه جميع مقومات الاستمرار في الرئاسة عام 2011، فقد كان بإمكان بشار الشاب أن يمثل نموذجاً لحاكم شعبي يدعم الإصلاح ويحارب الفساد، إلا أنه اختار الصورة البائسة للدكتاتور المستبد الذي يقمع المعارضة ويستند إلى أجهزة الأمن، ويوزع مقاليد السلطة وثروات الوطن بين أفراد عائلته ومقربيه.

إلا أنه ليس من الإنصاف اختزال تردي وضع النظام السوري في شخص بشار، الذي ورث حكماً عائلياً غير قابل للإصلاح أو التطوير، خاصة وأن المحافظة على بنية الحكم الشمولي تتطلب السيطرة على مقدرات الدولة وتوزيعها في إطار دائرة مغلقة، ويُعتبر قانون الطوارئ وحكم الحزب الواحد الدعامتان الأساسيتان لاستمرار هذا النمط من الحكم الاستبدادي.

لقد ظهرت علامات تصدع النظام جلية في إعراض الرئيس عن الاستجابة لمطالب الشعب، واتهامهم بالتآمر، واتخاذ إجراءات شكلية تمنع التغيير الحتمي، ومن ثم ارتكاب قوى الأمن جريمة قتل جماعي للمرة السابعة في أقل من ثلاثة أسابيع.

وفي هذه الأثناء كانت السمة البارزة للنظام هي الارتباك المتمثل في: تضارب تصريحات المسئولين، ومخالفة أجهزة الأمن لتعليمات القصر الجمهوري، وتبني سياسة القمع والاعتقال الجماعي، واختزال مشاريع الإصلاح الكبير في نقل بعثي معتّق من منصب وزير الزراعة إلى رئيس للوزراء.

وإذا كان النظام السوري قد اتخذ التدابير الكفيلة بسقوطه في وقت قياسي، فإنه يتعين استعراض أبرز العوامل الداخلية والخارجية المفضية إلى ذلك السقوط، والتي يمكن إيجازها فيما يأتي:

أولاً: العوامل الداخلية

1- العناصر الجديدة في المعادلة السياسية:

تركزت جهود أجهزة الأمن في العقد الماضي على تفكيك المعارضة الداخلية، وعزل الأحزاب السورية في الخارج عن المجتمع، وأسهمت حالة الخلاف المزمن بين أحزاب المعارضة، وفشلها في تشكيل موقف موحد ضد النظام في تعميق عزلتها، مما أقنع بشاراً باستحالة قيام أي حركة شعبية ضده.

ولكن الأحداث الأخيرة أدخلت على المعادلة السياسية عنصراً جديداً لم يحسب له النظام السوري أي حساب، إذ اقتحم الشباب السوري المحايد ساحة العمل السياسي بدافع الرغبة في التغيير السلمي، وليس بدافع الانتماء الحزبي أو الإيديولوجي.

وفي مقابل الارتباك الأمني وتطرف المواقف الرسمية؛ فإن المحتجين قد اتسموا بالنضج من خلال التأكيد على الوحدة الوطنية، والمحافظة على الحراك السلمي، وعدم الانجرار في مواجهات غير محسوبة مع المجموعات التي يدفع بها النظام لنشر الفوضى وارتكاب جرائم القتل.

وكان الشباب السوري قد استلهم التجربة التونسية والمصرية التي أمدتهم بثقة كبيرة في القدرة على الأخذ بزمام المبادرة، فتسببت حركتهم الواعية، ومطالبهم المشروعة، واحتجاجاتهم العفوية في إرباك النظام.

ويذكر أن 77 بالمائة من المجتمع السوري هم دون سن 35، في حين تقدر بعض المصادر أن نسبة الشباب السوري بين سن 15 و35 عاماً تقدر بحوالي 66 بالمائة من أبناء المجتمع. وعلى الرغم من أن أبناء هذه الفئة الشباب قد ترعرعوا في ظل هيمنة البعث وحكم قانون الطوارئ، إلا أنهم استفادوا من ثورة المعلومات، وتوفر وسائل الاتصال، وانتشار القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت، مما أتاح لهم معرفة حقائق مؤلمة منها: أن بلدهم يصنف في المركز 97 عالمياً من حيث جودة الحياة، والمركز 111 لتقدير الناتج المحلي الإجمالي للفرد، والمركز 154 من حيث احترام حقوق الإنسان، وربما أتيح لهم قراءة تقرير منظمة العفو الدولية الذي ذكر أن عدد المعتقلين والمعتقلات في السجون السورية يتجاوز 17 ألف معتقل.

ومن المثير للاهتمام أن تشمل حركة الاحتجاجات معظم أنحاء القطر السوري، بحيث لم يعد من الممكن تصنفيها وفق أي تقسيم عرقي أو عشائري، فالاضطرابات غير المتوقعة في الساحل السوري مثلت خطورة كبيرة على حركة الاستيراد والتصدير، وكان لامتداد حركة الاحتجاج بين الأكراد في المدن الشمالية دلائل خطيرة بالنسبة للنظام الذي فشل في احتوائهم من خلال تقديم الوعود.

ونظراً للتخوف من امتداد حركة الاحتجاجات إلى مدينة حلب التي تعتبر مركز الثقل الاقتصادي؛ فقد سارع النظام إلى شن حملة اعتقالات كبيرة في صفوف المواطنين، واتخذ إجراءات تهدف إلى عزل المدينة من خلال تكثيف التواجد الأمني فيها، وإرسال تعزيزات عسكرية ترابط في تخومها، وقطع خدمة الإنترنت لفترة طويلة عن المدينة وضواحيها.

وتمثل فئة الشباب عنصر التغيير الأكثر حيوية وامتداداً، إذ إنها تنبع من صميم المجتمع السوري، ولا يمكن للقمع أن يوقف هذا الحراك المجتمعي، خاصة وأن بنية المؤسسات الأمنية تعود في تكوينها وطريقة عملها إلى ستينيات القرن المنصرم، ولن ينجح النظام السوري في مواجهة قوى الإصلاح بهذه الأجهزة التي لا تعرف سوى سراديب الاعتقال وأدوات التعذيب.

2- المتغيرات التي طرأت على المؤسسة العسكرية:

إن لجوء النظام إلى استخدام القوة المفرطة مع المحتجين قد جلب إلى الذاكرة أحداث الثمانينيات من القرن الماضي عندما قامت بعض فرق الجيش بارتكاب أعمال قتل جماعي في كل من: جسر الشغور (مارس 1980)، وتدمر (يونيو 1980)، وحلب (يوليو-أغسطس 1980)، ودمشق (أغسطس 1980)، وأخيراً مدينة حماة في شهر فبراير 1982، والتي واجهت حملة عسكرية شاملة أسفرت عن مقتل حوالي 30 ألف نسمة أغلبهم من المدنيين.

وهناك تشابه كبير بين المتهم الرئيس في تلك الأحداث: رفعت الأسد، وبين ابن أخيه ماهر الأسد، فقد كانت معالجة ماهر لأحداث درعا شبيهة بمعالجة رفعت لأحداث مدينة حماة، وقد انتقد الباحث في شؤون الأمن القومي في الكلية الحربية التابعة للجيش الأمريكي أندرو تريل اعتماد بشار على أخيه ماهر الذي وصفه بأنه: "متقلب المزاج ومفرط في العنف".

وعلى الرغم من التشابه الكبير بين ماهر وعمه؛ إلا أنه من الصعب تكرار تجربة الثمانينيات، فقد نقلت المصادر عن أحد ضباط الجيش السوري قوله: "تختلف الأوضاع في سوريا عام 2011 عما كانت عليه عام 1982، فهناك مئات الآلاف من الجنود الذين لم يشهدوا سوى الفساد، واستغلال المناصب من قبل قادتهم، وسيكون من الخطورة لبشار أن يمارس اللعبة نفسها"، وذلك في إشارة إلى المتغيرات الكبيرة التي طرأت على بنية الجيش السوري منذ عام 2004، ومن أبرزها ضعف النزعة العشائرية في ضباط الصف الثاني من قادة الفرق والألوية، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة السنة بين قادة الكتائب من 35 بالمائة إلى 65 بالمائة في غضون خمسة أعوام، وارتفاع نسبتهم في التشكيلات القيادية التابعة للقيادة العامة من 38 بالمائة إلى 54 بالمائة في الفترة نفسها، ويُعزى ذلك التغير إلى تحسن أحوال أبناء طائفة الرئيس وعزوفهم عن الالتحاق بالكليات العسكرية من جهة، ونتيجة للتوسع الأفقي للجيش وزيادة عدد التشكيلات العسكرية الوسطى على مستوى لواء وكتيبة بنسبة 150 بالمائة من جهة أخرى.

وقد تنبهت مصادر الاستخبارات الإسرائيلية إلى خطورة هذه التغييرات على توازن النظام السوري، حيث نبهت تقاريرهم الأمنية الصادرة منذ أيام قلائل إلى ضرورة إقصاء فرق الجيش النظامي عن بؤر التوتر لأنه لا يمكن ضمان ولائها للنظام في حالة المواجهة مع الشعب، ففي الوقت الذي يمكن المحافظة على ولاء فرق النخبة المرابطة في درعا، إلا أنه ليس من الحكمة توريط الفرق الأخرى في عمليات قمع واسعة النطاق في كل من حماة وحمص ومدن الساحل السوري، وإدراكاً لذلك فإن النظام قد قام بتعزيز تواجد فرق النخبة (الحرس الجمهوري، الفرقة المدرعة الثالثة، الفرقة المدرعة الرابعة، سرايا الصراع، القوات الخاصة) في مدينة دمشق وضواحيها، بينما لم تشهد المدن الشمالية تدخلاً فعلياً للجيش في قمع الاحتجاجات كما حصل في درعا وريف دمشق، وقد أكد خبير عسكري غربي أن: "الجيش السوري سينقسم إذا جرت محاولة تكرار مذبحة حماة"، وسربت إحدى الصحف العربية في الأيام الماضية معلومات عن وجود: "ضباط مستعدين للمساهمة بدور فاعل في الإطاحة بنظام الأسد متى طُلب منهم ذلك".

ثانياً: العوامل الخارجية

هناك مشكلة كبيرة بين النظام السوري ومصطلح "الخارج"، الذي يأتي في الغالب مترادفاً مع مصطلح "المؤامرة"، ويمثل كابوساً لرئيس الجمهورية ونوابه ومستشاريه وأعضاء حكومته.

ونتيجة لذلك الخوف؛ فإن نظام الحكم قد دأب على تسخير إمكاناته للحد من تواصل الشعب مع الخارج، عبر تقييد حركة السفر، ومراقبة وسائل الاتصال، وتوجيه النقد لوسائل الإعلام الخارجية التي تقدم طرحاً مغايراً للإعلام الرسمي.

وعلى الصعيد نفسه فإن أي مبادرة سياسية معارضة لا بد وأن توسم بالتواطؤ مع الخارج، ومنها حركة ما سمي: "ربيع دمشق" (2001)، التي تعرضت لهجوم رئيس الجمهورية، ووزيري الدفاع والإعلام آنذاك، الذين وسموا القائمين على الحركة من فنانين ومثقفين بالعمالة وتلقي الأموال من جهات خارجية.

والحقيقة هي أن الدول العربية والغربية لا تمثل تهديداً فعلياً للنظام السوري في الوقت الحالي، فقد أشارت صحيفة "لوموند" إلى أن الأسد لا يخاف من الضغوط الخارجية، فالمجتمع الدولي مشغول بالحملة العسكرية على ليبيا، وتدهور الأوضاع في اليمن، في الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة الإسرائيلية عن رغبتها في استمرار حكم بشار الأسد لأنه لا يشكل أي خطر عليها، كما أن موقف الإدارة الأمريكية لا يزال مقتصراً على التنديد الشفهي بقمع المحتجين.

ويأتي التهديد الحقيقي للنظام السوري من الخارج عبر مصدرين أساسيين هما:

1- أخطاء السياسة الخارجية:

تبلغ حساسية النظام تجاه "الخارج" إلى درجة توجيه أجهزة الأمن لمراقبة المعارضين في الخارج وتصفيتهم، فإدارة الأمن العام التابعة لوزارة الداخلية تنقسم إلى ثلاثة أقسام، يختص واحد منها بالأمن الداخلي، وقسمان للاستخبارات الخارجية وفرع فلسطين، وعلى الصعيد نفسه تتولى شعبة المخابرات العسكرية مهمة مراقبة المعارضين في الخارج، وتنسيق عمليات الاستخبارات خارج القطر السوري، في حين تُعتبر إدارة المخابرات الجوية اليد الضاربة لأجهزة الأمن خارج البلاد، إذ يتواجد عناصرها في السفارات السورية وفي مكاتب خطوط الطيران السوري.

وقد وُجهت أصابع الاتهام إلى أجهزة الأمن السورية في تصفية عدد من المعارضين في الخارج، منهم على سبيل المثال لا الحصر: اللواء محمد عمران (أبريل 1972)، وكمال جنبلاط (مارس 1977)، وصلاح الدين البيطار (يوليو 1980)، ورياض طه (يوليو 1980)، وسليم اللوزي (مارس 1980)، وموسى شعيب (يوليو 1980)، والزعيم البعثي علي الزين (يوليو 1980)، وعبد الوهاب البكري في عمان (يوليو 1980)، والسيدة بنان الطنطاوي التي قتلت في محاولة اغتيال زوجها عصام العطار في ألمانيا (مارس 1981)، ونزار الصباغ في الذي اغتيل في إسبانيا (نوفمبر 1981)، والعميد سعد صايل في البقاع (سبتمبر 1982)، كما اختطف المحامي السوري في قبرص نعمان قواف واقتيد إلى دمشق في فبراير 1982، وتعرض مبنى مجلة الوطن العربي للتفجير في باريس في شهر أبريل 1982. واغتيل الصحفي ميشيل النمري في أثينا في سبتمبر 1985، وقتل مفتي لبنان الشيخ حسن خالد عام 1989، كما توجهت أصابع الاتهام إلى أجهزة الأمن في سلسلة اغتيالات التي أودت بحياة مجموعة من المعارضين للنظام السوري في لبنان عقب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005.

وبالإضافة إلى خشية النظام من ردود الأفعال تجاه جرائم أجهزته الأمنية في أوروبا والدول العربية، فإن عنصر التوتر يتضاعف بسبب النكسات التي تعرضت لها السياسة الخارجية السورية في الفترة: (2000-2011)، إذ إن بشاراً لم يوفق في إدارة الملفات الخارجية التي كان يديرها والده بدهاء، ابتداء من فقدان السيطرة على القضية الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو، ونشاط المعارضة الكردية بعد تسليم أوجلان، والتوتر مع الحدود العراقية إثر الغزو الأمريكي، وإرغام القوات السورية على مغادرة لبنان بعد مقتل الحريري، وتعميق عزلة سوريا عن محيطها العربي نتيجة الإمعان في دعم مشروع التوسع الفارسي.

وانعكس سوء إدارة بشار للملفات الخارجية على بنية نظامه، إذ إنها تسببت في انشقاق نائبه عبد الخليم خدام، ومقتل وزير داخليته اللواء غازي كنعان، واغتيال مجموعة من ضباط الأمن بدمشق، وفي هذه الأثناء كان أهالي المفقودين اللبنانيين في سوريا (يقدر عددهم بحوالي 730 مفقوداً) يعتصمون أمام مقر الأمم المتحدة ببيروت، ويشنون حملة إعلامية تطالب بلجنة تحقيق دولية للكشف عن مصير ذويهم، وعلى شاكلتهم قرر أهالي المعتقلين الأردنيين في سوريا (يقدر عددهم بأكثر من 230 معتقلاً) عام 2008 رفع دعوة قضائية ضد النظام السوري أمام المحكمة الجنائية في بلجيكا، كما أدى اعتقال السلطات السورية للصحفي الفلسطيني مهيب النواتي في 18 يناير 2011، إلى إعادة فتح ملف المفقودين الفلسطينيين في السجون السورية، حيث طالب رئيس جهاز الاستخبارات الفلسطينية الأسبق اللواء توفيق طيراوي بالكشف عن مصير نحو ألفي فلسطيني مفقود في السجون السورية.

ويبدو أن ساعة الحساب قد أزفت بالنسبة للنظام السوري الذي يواجه مجموعة قضايا تتعلق بجرائم ضد الإنسانية، من أبرزها نية المعارضة الليبية مقاضاة النظام السوري في المحاكم الدولية بسبب دعمه للنظام الليبي، ففي 15 مارس 2011 اقتحمت مجموعة من المعارضين الليبين مقر السفارة السورية بباريس، مطالبين السلطات السورية بوقف: "دعم إبادة الشعب الليبي وتحميل دمشق كافة المسؤوليات والتبعات القانونية الدولية الناجمة عن ذلك". ولا شك بأن أعمال القتل الجماعي الموثقة في درعا وفي سائر المدن السورية، سيكون لها تبعات قضائية على أقطاب النظام حتى بعد خروجهم من السلطة.

2- توتر علاقة النظام مع المغتربين السوريين:

لا تتوقف مشكلة النظام مع "الخارج" عند جرائم أجهزته الأمنية وأخطاء سياسته الخارجية، بل تمثل زيادة أعداد المغتربين السوريين وتضاعف فرص تأثيرهم على الوضع الداخلي الخطر الأكبر بالنسبة للحكم؛ ففي الوقت الذي يبلغ فيه عدد سكان سوريا 22.5 مليون نسمة، قدرت بثينة شعبان عام 2007 (وكانت وزيرة شؤون المغتربين آنذاك) عدد المغتربين السوريين بأكثر من 15 مليون نسمة، في حين ترفع بعض المصادر تقديراتهم إلى أكثر من 18 مليون مغترب، ينتشرون في أمريكا اللاتينية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وكندا (500 ألف)، وفي أستراليا (300 ألف)، وفي أوروبا ودول الخليج العربي حيث لا تتوفر أرقام دقيقة لأعدادهم، إلا أن السفارة السورية في أبو ظبي أكدت وجود 140 ألف سوري في دولة الإمارات العربية المتحدة.

وتكمن المشكلة في أن هذا العدد الضخم من المواطنين قد استنشقوا هواء الحرية، وأنفوا حياة الانغلاق والكبت، وهم يمثلون نخبة المجتمع السوري من أطباء وتجار وأكاديميين ومثقفين لم يتمكنوا من تحقيق الحياة الكريمة في وطنهم فلجأوا إلى "الخارج"، وبناء على ذلك فإن النظام يتعامل معهم بخوف وارتياب، حيث يوظف أجهزة الاستخبارات لمراقبتهم وكتابة التقارير الدورية عن أنشطتهم، وتستخدم السفارات السورية خدماتها القنصلية كوسيلة للضغط عليهم، حيث تمتنع عن إجراء معاملاتهم دون موافقات أمنية، وترفض منح المعارضين منهم جوازات السفر.

ونتيجة لهذا التعامل العدائي غير المبرر، فقد أصبح تغيير النظام أولوية عند ملايين المغتربين السوريين الذين حُرموا من أوطانهم عقوداً بسبب التضييق الأمني والاقتصادي، ولا يمكن تجاهل الإمكانات المتوفرة للمغتربين السوريين في دعم جهود تغيير النظام بالوسائل السلمية غير المتاحة لمواطنيهم في الداخل.

رهانات النظام السوري

تنخر عوامل التعرية (الداخلية والخارجية) في بينة النظام السوري، ولكنها لا تزال غير كفيلة بإسقاطه في المنظور القريب، إذ يراهن القصر الجمهوري على ماتبقى لديه من أوراق قليلة تساعده على الاستمرار في السلطة، ومن أبرزها:

1- اللجوء إلى أسلوب القمع، والعقاب الجماعي، وهو الأسلوب الذي اتبعه الأخوان: حافظ ورفعت الأسد ضد المدن السورية المتمردة في ثمانينيات القرن العشرين، إذ تؤكد المصادر المقربة من حافظ أنه أراد أن يجعل من مدينة حماة عبرة لأي فئة تفكر في معارضته، ويبدو أن الأخوان: بشار وماهر قد قررا أن يجعلا من درعا عبرة للمدن السورية الأخرى، حيث تتعرض المدينة ومحيطها لعملية قمع منظم، وتعجز المنظمات الحقوقية وأجهزة الإعلام عن إحصاء عدد القتلى والجرحى والمعتقلين.

2- تقديم حزمة إصلاحات شكلية تضمن بقاء النظام والمؤسسات الأمنية، ومن ذلك تعيين وزير الزراعة البعثي في منصب رئيس الوزراء مما يرسخ حكم الحزب الواحد، وإنهاء حالة الطوارئ مقابل استحداث قانون الإرهاب، وتشكيل اللجان التي تخفف الضغط الإعلامي، وتوفر الغطاء اللازم لإنجاز الخطة الأمنية والقضاء على المحتجين.

3- إثارة الفتن بين أبناء المجتمع، وذلك عبر اللجوء إلى قتل المواطنين العزل، واستهداف بعض أفراد الجيش والشرطة، ودعم العصابات الأمنية التي تهاجم السكان بلباس مدني، ومن ثم اتهام المحتجين باستهداف أمن الوطن تمهيداً لتجريمهم وتبرير عملية القضاء عليهم، وقد سبق للنظام السوري اتباع هذه الأساليب في مواجهة معارضيه.

4- استخدام ورقة التأزيم الإقليمي عبر تحريك الفصائل الموالية في الخارج لتأجيج الأوضاع في كل من لبنان والأراضي الفلسطينية، وتوتير الأوضاع الأمنية في المناطق الحدودية مع العراق، وذلك لصرف الرأي العام عن أعمال القمع المحلي من جهة، والتذكير بأهمية دور النظام في المنطقة وامتلاكه أوراق التصعيد والتهدئة من جهة أخرى. ربما يصمد النظام أمام هذه العوامل، وقد تنجح حيله في تجنب السقوط لبعض الوقت. إلا أنه لا بد من التذكير بأن الحكم الشمولي يحمل في بنيته عوامل سقوطه، فالنظام الفردي يقوم على الحزب الواحد والمرشح الأوحد للرئاسة، ولا يقبل الثنائية ولا التعددية، ونتيجة لذلك فإن أكبر تهديد واجهه حافظ الأسد خلال فترة حكمه تمثل في محاولة انقلاب شقيقه رفعت عليه عام 1984، ويبدو أن التجربة نفسها ستتكرر اليوم؛ إذ يصر بشار على الإمساك بأزمة السلطة لكنه يعجز عن إدارتها، مما يفتح مجال تعددية الأقطاب، وهو أمر لا يحتمله النظام.

يرى ابن خلدون أن أعمار الدول تتحدد في لحظة التأسيس، ويمكن قياسها بقوة الدفعة الأولى، ووفقاً لهذه النظرية فإن النظام الجمهوري-الوراثي الذي ولد في غضون نصف ساعة بمجلس الشعب عام 2000، يجمع في طياته مجموعة تناقضات لا تسمح له بالاستمرار.

والحقيقة هي أن مؤسسات الدولة آنذاك قد أنتجت سقطاً  لاروح فيه، لأن فترة حكم العقد الماضي من عهد بشار كانت تسير بقوة دفع نظام والده الذي قام بالدرجة الأولى على الخوف

تاريخ الاضافة: 04/05/2011
طباعة