موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || كرة القدم ، عندما تكون الرياضة أشرف من السياسة
اسم المقالة : كرة القدم ، عندما تكون الرياضة أشرف من السياسة
كاتب المقالة : شريف عبدالعزيز

بينما كان عشرات الآلاف من الأرجنتينيين يملؤون استاد مونومينتال عام ١٩٧٨ وتتعالى صرخاتهم وتشجعياتهم في نهائي كأس العام الذي نظمته الأرجنتين حينها وفازت به أيضا، كان هناك أيضًا على بعد كليومترات قليلة عشرات الآلاف من الشباب الأرجنتيني يعذَّب ويُقتَل ويُشرَّد في أبشع سجون عرفتها القارة اللاتينية.

كان هذا بعد سنتين من وصول الطاغية قائد الجيش الأرجنتيني"فيديلا" للحكم عبر إنقلاب عسكري بدعم كبير من المخابرات الأمريكية على الرئيسة الأرجنتينية المنتخبة " بيرون " أطلق بعده يده الباطشة لتقتل وتعذب وتخطف وتسجن وتخفي كل من تسول له نفسه مواجهته والوقوف أمامه.

لجأ (فيديلا) وبتنسيق ودعم أمريكي  كبير كشفت عنه بعض وثائق الويكليكس مؤخرا عن استخدام سياسي بشع للخادعة المستديرة كوسيلة لإلهاء جموع الشعب الأرجنتيني وإدخاله في دوامات مخدرة كي يتعامى ويتناسى جرائمه التي طالت قطاعات ضخمة من الشعب الأرجنتيني؛ وصارت هذه البطولة التي نظمتها الأرجنتين أسوأ مثال تاريخي في استغلال الرياضة سياسيا، وهو ما دفع بعض العقلاء حينها للدعوة لمقاطعة هذه البطولة، والدعوة للارتقاء قليلا من قاع التغييب والجهل للوقوف على حقيقة واقع مرير تعيشه الأرجنتين النازفة حينها، على الأقل احتراما للمفقودين ، ولكن تاهت وضاعت هذه الأصوات الخافتة وسط هدير معركة الكرة ، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الاستغفال السياسي للشعوب المقهورة .

وُصفت فترة حكم فيديلا بأنها فترة سوداء، لكن ظل أسود ما في هذه الفترة هو مشهد صرخات الآلاف من الأرجنتينيين داخل المدرجات وخارجها بينما كان كان العجائز من أمهات المفقودين من الشباب الأرجنتيني يبكين وهم سائرات في شوارع الأرجنتين حاملات لصور أبنائهن دون أن يلتفت إليهن أحد، حتى اضطررن للوقوف أمام قصر الطاغية فيديلا نفسه في ساحة ماي ، وتندرت عليهم صحف انقلاب فيديلا وأطلقوا عليهم " مجنونات ساحة ماي " للسخرية والاستهزاء من مطالبهم .

 

ظلت كرة القدم تلكم الرياضة المحببة للجميع كبارا وصغارا ، شرقا وغربا ، منذ نشأتها ألعوبة في يد الساسة خاصة في دول العالم الثالث المتخلف في كل شيء ، حتى نستطيع أن نقول بكل أريحية أن كرة القدم هي العبة الوحيدة التي بدأت رياضية وسرعان ما تحولت إلى أداة سياسية من أهم وأبرز أدوات السيطرة والهيمنة والإلهاء وتمرير الفشل والاخفاق . فلم تبتعد السياسة يومًا عن الساحرة المستديرة، وكما يقول الكثيرون فإنها أصبحت وجهًا آخر للسياسة، حتى تحولت الملاعب إلى ساحة مصغرة للصراعات السياسية بل والعسكرية أيضا .

كالحرب التي وقعت بين دولتي السلفادور وهندوراس والتي سميت "حرب كرة القدم"، حيث عانت العلاقات بين الدولتين توترًا واضطرابات كبيرة قبل المباراة، لأسباب اقتصادية وديمغرافية.

وفي تصفيات بطولة كأس العالم بكرة القدم لعام 1970، دخلت هندوراس والسلفادور في مواجهة حاسمة  وفازت السلفادور 3/2 في الوقت الإضافي ، فصعدت الى الدور النهائي للتصفيات.نزل الآلاف من أهالي هندوراس الى الشارع غاضبين، وراحوا يعتدون على الفقراء السلفادوريين المقيمين عندهم، وتطورت الأمور الى مهاجمة أحياء يقيم فيها السلفادوريون، ممن اضطر معظمهم للفرار إلى بلادهم تاركين ممتلكاتهم وبيوتهم، واندلعت الحرب.وبدأ القتال فجأة برًا وجوًا في 14 يوليو 1969، وانتشرت القوات البرية للجيشين على طول الحدود، وبدأ القصف المدفعي عشوائيًا من الطرفين على القرى والبلدات في البلدين، استمرت الحرب 100 ساعة وانتهت بقتل أكثر من 4000 إنسان، معظمهم مدنيون، ومعهم 10 آلاف مشوّه و120 ألف مشرد، ودمار مئات البيوت والمنشآت التي تزيد قيمتها اليوم على ثمانية مليارات دولار ، وعرفت هذه الحرب العجيبة باسم ( حرب الكرة ) .

فالاهتمام الكروى الزائد عن الحد قبل مرحلة الثورات العربية في منطقتنا الاقليمية إلى درجة التحزب والعنف إنما كان تعويضاً لاشعورياً عن التغييب السياسى، وإبعاد الناس عن العمل السياسى، واستئثار الحزب الحاكم بالسلطة، ومعرفة نتائج الانتخابات مسبقا، أغلبية مطلقة للحزب الحاكم عن طريق التزوير وإبعاد المعارضة الإسلامية والليبرالية عن المجالس النيابية .

والتحزب للنوادى المنافسة إنما هو تعويض عن المشاركة والعمل السياسي . كما أن قدرة التحزب الكروى على تجنيد الجماهير تعويض عن قدرة التحزب السياسى والمعارضة الفئوية وحشد الثورة لطاقات الجماهير، فالحضور الطاغى للكرة تعويض عن الغياب الطاغى للسياسة ما قبل الثورة.

 وكانت الدول تشجع مثل هذا التحزب الكروى بتجنيد أجهزة الإعلام التى تحت سيطرتها لهذا الغرض،  بل إن ظاهرة «الألتراس» وهو لفظ معرب عن اللفظ اللاتينى ultra بمعنى الحد الأقصى أو الذروة، هم الشباب الشديدو الولاء لأنديتهم الرياضية، كان تعبيرا عن هذا التحشيد في الميدان الذي تريده الأنظمة والحكام ، فى حين أن العمل الدينى السياسى مرفوض ، ومع هوس التشجيع الكروي يخرج الملايين الى الشوارع وفي عيونهم لمعة الانتصار، كرنفال يجوب الشوارع أو خيبة أمل وانكسار في القلوب، مشهد يتكرر في كل دول العالم بلا استثناء عقب الفوز أو الخسارة في مباراة كرة القدم.

حيث يفسر علماء الاجتماع  شعور الجماهير بهذا الانتصار عقب الفوز في مباراة كرة القدم، بأنهم يشعرون بروح الجماعة والانتماء، وبالقوة وبأنهم قادرون ومؤثرون. ورغم الظروف المادية السيئة يخرج الملايين من الكادحين والفقراء إلى الشوارع غير مبالين رافعين رايات النصر، هو ما تعوضه لهم اللعبة من افتقاد القدرة على تحقيق أحلامهم وأهدافهم، وفقدان الإمكانيات الفردية والجماعية وعجز النظام السياسي على تلبية احتياجاته، فيشعر المواطن الفقير أنه حقق كل شيء من خلال الروح الجماعية في المباراة ، والشعور الزائف بالانتصار في واقع مليئ بالاخفاقات والانكسارات ، تماما مثل الشعور الذي توفره المخدرات والمسكرات .

ومع تطورات الوضع الإقليمي والدولي تحولت الكرة لمضمار جديد في اللعبة الدولية، فتحولت من أداة للسيطرة والهيمنة والإلهاء الداخلي للشعوب المقهورة بالنظم الفاشلة والقمعية ، تحولت لآداة للابتزاز والضغط الدولي ، فزلزال من العيار الثقيل ضرب أركان الاتحاد الدولي لكرة القدم، وذلك بعد أن أفاق العالم على خبر توجيه القضاء الأمريكي تهمة التآمر والفساد إلى 9 مسؤولين منتخبين بالفيفا، بالإضافة إلى 5 مسؤولين كبار ، مع العلم أن هذه أخبار هذه الفضيحة كانت معروفة للجميع ، ولكن كان يتم تجاهلها لحسابات سياسية أيضا ، وقد تم الكشف عنها في الوقت المعين الذي احتاجت فيه أمريكا والغرب الضغط على روسيا بسبب أزمة أوكرانيا ، وعلى قطر بسبب مواقفها من الانقلاب العسكري المصري وسوريا . وبالفعل بدأت الأصوات تتعالى مطالبة بسحب تنظيم كأس العالم من روسيا وقطر ، في واحدة من أقوى أوراق الضغط الأمريكي على روسيا وقطر .

 وعلى الرغم من الاستغلال السياسي البشع لأشهر رياضة شعبية ، إلا إن لعبة الكرة تظل أشرف وأرقي وأضبط من كل الممارسات السياسية في الدول الاستبدادية القمعية في محيطنا الاقليمي . ففى كرة القدم ينبغى أن يكون اللاعب موهوبا، وذلك فى بلادنا العربية ليس شرطا تلك المهارة فى السياسى، الذى تتدخل فى اختياره عوامل أخرى مختلفة، عائلية أو مالية أو علاقات شخصية أو تكتلات مؤسسية .

 أيضا اللعبة فى كرة القدم لها قواعد وقوانين وخطط ينبغى أن يلتزم الفريق بها حتى يضمن الفوز، أما السياسة عندنا فهى بلا قواعد أصلا، وكثيرا ما يكون مزاج الحاكم هو الفيصل فى أمور كثيرة، ثم لا تنس إنه سيد قراره، بمعنى أنه من يضع القواعد والقوانين التى تناسبه. فى الكرة لا مكان لواسطة أو وراثة أو أى اعتبار آخر غير الكفاءة، فى حين أن هذه المعايير مستبعدة تماما من عالم السياسة، لذلك فإن أى موهوب يمكن أن يكون لاعبا كبيرا، لكن ذلك ليس حاصلا فى السياسة المحصورة فى شرائح بذاتها. فى الكرة والرياضة عموما يتم اللعب على المكشوف، والجمهور هو الحكم والفوز يقاس بتحقيق الأهداف، التى يراها الناس بأعينهم.

أما السياسة عندنا فهى تنتمى إلى عالم الأسرار والألغاز، وأهم قراراتها تطبخ فى الظلام، والجمهور يتلقى ولا يشاهد، ولا رأى له فيما يحدث، أما الفوز فوسائل الإعلام هى التى تعلنه وتسجله وتصر عليه، حتى إذا لم ير الناس له أثرا .

 فى كرة القدم استمرار المدرب فى موقعه مرهون بقدرته على الإنجاز، وفشله يفقده منصبه وإنهاء عقده، أما فى السياسة فالفشل لا يرتب أى مسئولية أو حساب،لأن العبرة فى السياسة ليست بالإنجاز أو القدرة، لكنها بقوة السند.في الملعب تسعد الجماهير بمواهب اللاعبين الموهوبين ولمساتهم الفنية، ويهتفون لهم مشجعين وهم يستمتعون بمهارات هؤلاء اللاعبين. وعندما تغادر الجماهير الملعب تستمر سعادتهم باللمحات الفنية والجمالية للأداء في الملعب.

أما في السياسة، تخرج الجماهير وتهتف بالروح والدم، حتى الطفل في بطن أمه يهتف بالروح والدم، وعندما يذهبون إلى بيوتهم يلعنون اليوم الذي جاء بالـ"مهتوف له"، ويلعنون أيام وليالي عهده السودا .

لذلك فالكرة رغم كل مساوئها فهي أشرف بكثير من السياسة هذا الزمان.

تاريخ الاضافة: 27/07/2015
طباعة