من لم يعرف ظروف حرب عام 1994 في اليمن بين الشطرين الشمالي والجنوبي عندما انهارت الوحدة وأعيد فرضها بالقوة، باستطاعته اليوم مراقبة التطورات والتركيز على ظروف الأحداث الجارية أخيراً بعد استقالة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وحكومة خالد بحاح وفرض انفصال غير معلن وناعم في إقليمي عدن وحضرموت. كما بالامكان مراقبة تداعيات ما يجري على الوضع برمته وخصوصاً لجهة وجود نذر حرب شمالية جنوبية بعد حدوث اشتباكات مسلحة في عدن وسيطرة اللجان الشعبية الجنوبية على المدن ومغادرة الجنوبيين صنعاء والشمال، والعودة إلى الجنوب.
أما اليوم، فإن الإصلاح ينأى بنفسه ويتصدر المشهد بدلاً منه لمواجهة الجنوبيين، الحوثيون إلى جانب حزب المؤتمر جناح صالح. ويقوم الحوثيون بدور حزب الإصلاح سابقاً لجهة التعبئة والحشد للدفاع عن الوحدة.
ويقول سياسيون وقيادات جنوبية عايشوا تلك الحرب، إن الخطابات والكلمات والطريقة التي استخدمت في 1994 هي نفسها اليوم. ويتهمون الرئيس السابق بالوقوف وراءها. فهذه هي أدواته وأساليبه، على حد تعبيرهم. ولذلك يتوقع الجنوبيون شنّ حرب جديدة عليهم، لكن هذه المرة يقولون إنها مختلفة نوعا ما.
إلى جانب الظروف السياسية الإقليمية والدولية الداعمة لهم، وعلى عكس حرب صيف 1994، التي كان فيها رغبة كبيرة مع الوحدة وانقسم حينها الجنوبيون إلا أن الوضع اليوم تغير، فقد بات هناك بيئة شعبية وسياسية مقاومة أضحت تعتبر أن الانفصال ضروري، بل بمثابة مسألة "حياة أو موت".
فقد شكلت لجان شعبية واسعة في مختلف محافظات الجنوب، وانتشر مئات المسلحين في أغلب محافظات الجنوب، بما في ذلك عدن، التي باتت في قبضة اللجان الشعبية القادمة من أبين ولحج، عقب بيان اللجنة الأمنية لإقليم عدن الذي رفض أي توجيهات أو أوامر من صنعاء في كل من عدن وأبين ولحج والضالع. وأكد أن التوجيهات العسكرية والأمنية فقط تصدر من قائد المنطقة العسكرية الرابعة لكل الجيش والأمن. ويترافق ذلك مع عودة القيادات العسكرية والأمنية من الصف الثاني من صنعاء تحديداً والشمال عموماً إلى الجنوب بعد موجة الاستقالات من قبل كبار مسوؤلي الدولة من أبناء المحافظات الجنوبية الذين لا يزالون تحت حصار مسلحي الحوثيين في منازلهم في صنعاء.
كما بادرت اللجان الشعبية الجنوبية والقبائل في المناطق الحدودية بين الشمال والجنوب، حسب ما كان عليه قبل الوحدة، في منع دخول أي سيارات تحمل لوحة محافظات شمالية وتجبرها على العودة بعد إنزال الركاب وتسمح بدخولهم مشياً على الأقدام بعد تفتيش دقيق، ولا سيما بعد استحداث نقاط تفتيش كثيرة في مختلف المدن والطرق الرئيسية التي تربط الجنوب بالشمال. وشهدت مدينة المنصورة، ليل الخميس الجمعة، انفجارات واشتباكات بعد قيام مسلحين من أبناء المدينة بمهاجمة ثكنة عسكرية من القوات الخاصة "الأمن المركزي سابقا" احتلت ساحة الشهداء خلال الأشهر الأخيرة. وتمكن الشباب من استعادتها فجر الجمعة بعد فرار الجنود في الوقت الذي رفعت فيه أعلام دولة الجنوب السابقة فوق مختلف المرافق والمؤسسات والمباني الحكومية، لأول مرة منذ قيام الوحدة عام 1990.
وحظيت قرارات جنوبيي السلطة الأخيرة بدعم وتأييد واسع، ولا سيما بعد أن وصل الجنوبيون بمن فيهم من كانوا مؤمنين بالوحدة، إلى قناعة تامة بضرورة استعادة دولة الجنوب، من خلال فك ارتباطها بالشمال، فضلاً عن قول البعض منهم، إن ما تعرض له الجنوبيون خلال السنتين الماضيتين، وصولاً إلى استهداف هادي، وكل المسؤولين الجنوبيين في الدولة، تجاوز ممارسات حرب 1994 وما تلاها، فقد بات الاستهداف اليوم، ما يشبه الاستهداف المذهبي.
ويترافق تصعيد الجنوبيين اليوم بفصل إقليمي عدن وحضرموت عن القرار في صنعاء، مع تظاهرات حاشدة تدعم الخطوات التي اتخذتها اللجنة الأمنية لإقليم عدن، والتي يرون أنها أنعشت آمالهم بعد الإحباط الذي أصابهم والجمود الذي رافق حلول القضية الجنوبية خلال الأشهر الأخيرة. وباتت الجماهير تنظر لهذه الخطوات على أنها بداية النصر وقرب انتهاء معاناتهم.
ويرجح معظم المتابعين للتطورات أن انفصال الأمر الواقع، التي اتخذته القيادات الجنوبية، وبطريقة ناعمة، بات على الأغلب قرارا لا رجعة فيه، على الرغم من تشكيك البعض في ذلك.
ويعزز هذا الاعتقاد ترافق التطورات مع دعوات لإسقاط المحافظات أطلقتها عشرات القيادات الجنوبية منذ لحظة استقالة هادي، بما فيها دعوة الرئيس السابق حيدر العطاس وقيادات أخرى، تحسب على أطراف إقليمية ودولية وفي مقدمتها السعودية ودول الخليج. ويجمع الكثير من المراقبين للشأن الجنوبي، على أن الأمر كان مرتباً له وبدعم خارجي، ولا سيما بعد تمكين قيادات ومسؤولين معارضين لتحالف الحوثي وصالح من كل مرافق الدولة في الجنوب. وهؤلاء يدينون بالولاء لهادي وبعض الأطراف المحسوبة على جناح السعودية والخليج.
وكانت معلومات قد تحدثت في وقت سابق، عن نية المجتمع الإقليمي والدولي إعطاء الفرصة للجنوبيين، في إقامة دولة في الجنوب، ولا سيما بعد سقوط صنعاء ومعظم محافظات الشمال ودخولها في صراع قد لا تكون له نهاية. لذلك حاولت الأطراف الخارجية، انتظار توحد الموقف الجنوبي، وهو ما يبدو أنه تحقق اليوم، بعد أن التقت قوى الحراك والمكونات والأحزاب السياسية في الجنوب على مبدأ رفض الوحدة.
ويؤكد مبارك أنّ "تأثير الأحداث الأخيرة، أفرزت وبما لا يدع مجالاً للشك، حالة اصطفاف مناطقي، بما فيها الشارع الجنوبي، الذي كان ينظر إلى هادي كرئيس دولة الاحتلال"، مشيراً إلى أن التطورات الآن "أوجدت نوعاً من التنسيق والتقارب بين السلطات في محافظات الجنوب، وقوى وفصائل الحراك الجنوبي".
ووفقاً لمبارك، فإن باستطاعة الحراك الجنوبي أن يحقق مكاسب ملموسة على الأرض لصالح قضية الجنوب، المتمثلة في فك الارتباط واستعادة الدولة، وذلك من خلال فرض الأمر الواقع، والسيطرة على الأوضاع، في ظل حالة الفوضى السارية في صنعاء.