موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || حسابات معارك "داعش" و"البشمركة" غرب الموصل
اسم الخبر : حسابات معارك "داعش" و"البشمركة" غرب الموصل



تصاعد الموقف غرب الموصل، في اليومين الماضيين، ليشي بتحول خطير على المجالين الجيوبوليتيكي والجيوستراتيجي، وميزان القوى العسكري على الأرض. وسيلقي هذا التطور بظلاله وآثاره على ما سيستتبعه من أحداث وتطورات، ستشهدها المجابهة القائمة حالياً، بين تنظيم "الدولة الاسلامية" (داعش)، وقوات ثوار العشائر العراقية التي اختارت، عدم التصعيد مع التنظيم، بالرغم من اختلاف الأهداف والرؤى، من جهة، وبين الجيش العراقي، الذي يصرّ رئيس الوزراء المنتهية ولايته، نوري المالكي، على الهيمنة عليه، بمعونة مليشيات مساندة، اندفعت لتسد الفراغ الذي خلفه تراجع الجيش وتفككه في الموصل، من جهة أخرى. وأضيف إلى المجابهة، عنصر ثالث، هو قوات "البشمركة"، التي حصلت على فوائد جمة مما جرى، لا تقتصر على السيطرة على كركوك فقط، على ما يبدو.

فقد تمدد إقليم كردستان كثيراً، في المساحة الجغرافية خارج المناطق المعترف بها، محلياً وإقليمياً ودولياً لهذا الإقليم، وهي المحافظات الكردية الثلاث، أربيل والسليمانية ودهوك. وتشي بتوسع آثارها إلى ما يمكن أن يشكل تحالفات جديدة، يكون هدفها إعادة صياغة الوضع الجيوبوليتيكي في شمال العراق، بما له من انعكاسات جيوستراتيجية خطيرة. ولم تكن الاشتباكات بين "البشمركة" و"داعش"، سوى نموذج لما يُمكن أن يحصل.

وتُشكّل المنطقة محل النزاع، الأراضي الواقعة غرب نهر دجلة عند فيشخابور، في أعلى نقطة للعراق في حدوده مع تركيا، وتُشكّل أيضاً مثلث الحدود التركي العراقي السوري. ومن هنا، تكمن أهميتها الجيوبوليتيكية.


ويمتد هذا القطاع على طول نهر دجلة، وإلى الغرب باتجاه الحدود العراقية السورية، ويُشكّل أراضيَ متموجة صالحة للزراعة الديمية (البعلية)، التي تمارسها القبائل العربية الساكنة هناك، وهي من أهم مناطق إنتاج القمح في العراق بل تكاد تكون سلة العراق الغذائية.

واستوطنت، في المنطقة، القبائل العربية الكبرى المعروفة مثل شمر، التي تشكل مدينة ربيعة، معقلها الأساسي، وطيء، والنعيم، والبو متيوت، والعقيدات، وغيرهم كثير. وإلى جانب القبائل العربية، تعيش قبيلتان كرديتان، الحسنان والجرجرية، التي تشرّبت العادات العربية.

وتسكن المنطقة أيضاً، أقلية تركمانية تتمركز في قضاء تلعفر وقراه، ويُعتبر جبل سنجار، منطقتها الاستراتيجية البارزة، التي تمتد إلى داخل محافظة الحسكة السورية المجاورة. ولا تكمن السمة البارزة لهذا الجبل في أهميته الاستراتيجية فحسب، بل في سكانه الذين تتشكّل غالبيتهم من الطائفة اليزيدية، التي تعايشت مع العرب لقرون. حتى أن الحالات الوحيدة التي استخدمت القوة ضد يزيديي الجبل، كانت أثناء امتناعهم عن الالتحاق بالخدمة الوطنية الإلزامية، تحت ذريعة تعارضها مع معتقداتهم الدينية.

يتكلم اليزيديون لهجة خاصة بهم، وهي خليط من الكردية التي تشكل أساسها والعربية والسريانية، ويمثل هذا التنوع الفعلي لهؤلاء اليزيديين نتيجة انحدارهم من الأرومات العربية والسريانية، ومن لاجئين يزيديين لجأوا إلى الجبل المنعزل، نتيجة معارك سابقة جرت في مناطق سكناهم الأصلية، في قضاء الشيخان، شرق نهر دجلة مع جيرانهم الأكراد زمن أمير راوندوز، محمد باشا الراوندوزي.

يُثبت كل ما جاء آنفاً أن منطقة غرب دجلة في محافظة نينوى ليست كردية تحت أي معيار، لكن سعي الإقليم للاستحواذ عليها مرده دافع جيوبوليتيكي، هو أن السيطرة عليها ستربط الإقليم بمناطق تواجد الأكراد في الحسكة.

قد يتساءل المرء عن سبب قيام مسلحي "داعش" بالاشتباك مع "البشمركة"، في هذا الوقت بالذات، وهل من الحكمة تكثير الأعداء، بل واستعداء طرف آثر أن يبقى على الحياد، خصوصاً إذا كان هذا مدرباً بشكل جيّد ويملك الأسلحة النوعية؟


للإجابة عن هذا التساؤل، من الضروري ملاحظة أن القياسات التقليدية، في حسابات القوة والضعف، لا تنطبق على المنطق الذي تقوم عليه حسابات "داعش"، فهؤلاء لا يريدون أن يفهموا أن لميزان الصراع إلزاماته، وأن تحييد أحد الخصوم في مجابهة مع خصوم متعددين، هو بحد ذاته، إنجاز مهم. لقد بذل الحلفاء، مثلاً، في الحرب العالمية الأولى جهداً كبيراً، في محاولة إبقاء الدولة العثمانية على الحياد، ولو نجحوا في ذلك، لوفروا على أنفسهم خسائر كثيرة في جبهات فلسطين والعراق ومعارك جناق قلعة في الدردنيل.

ولدى هؤلاء حسابات أخرى، لكن لديهم في الوقت نفسه دوافعهم الجيوبوليتيكية، فوجود معبر ربيعة، المهم الذي يربط شمال العراق بسورية، في يد "البشمركة" يقطع صلتهم الممتدة وراء الحدود، باتجاه قاعدة قوتهم في الرقة، وإلى الجنوب باتجاه دير الزور، والشمال باتجاه حلب.
كما أن ضربتهم التي باشروها غرب دجلة، ضد "البشمركة"، هي ضربة استباقية لما يمكن أن يكون، خصوصاً بعد خطاب رئيس إقليم كردستان، مسعود البرزاني، الذي أعلن فيه أن الموصل ستعود، وأن الوضع الحالي مرحلي. ما أعطى انطباعاً أن المجابهة مع "البشمركة" آتية لا ريب فيها، لذلك، فقد استبقوها باحتلال غرب دجلة، على أمل أن ينتشر هذا إلى سهل نينوى، وامتدادات الساحل الأيسر للموصل باتجاه الإقليم.

في الحسابات التقليدية، كل ما قامت به "داعش" في الموصل، واستهدافها "البشمركة"، ينمّ عن قصر نظر في فلسفة إدارة الصراع.

وما سيتبع هذا الموقف الداعشي غير المعقول هو ارتدادات على شكل التحالفات على أرض الواقع، فالخلافات بين الإقليم والمركز (بغداد)، قد تتراجع إلى الخطوط الخلفية في عهد رئيس الجمهورية، فؤاد معصوم، الذي ينتمي لحزب البرزاني، ما قد ينعكس على ملف تشكيل الحكومة. حينئذ، سيظهر للسطح تحالف جديد، يضع تحت مظلّته الأكراد وحكومة المركز، وبعض السياسيين، الذين يبذلون جهودهم للحفاظ على امتيازاتهم الباذخة.

كما سيعمل التحالف الجديد على الإمساك بالصحوات، تحت وعود براقة، قد لا يتحقق منها شيء بعد نيل المراد، وسيتقرّب التحالف من ضباط الجيش العراقي، بهدف الاستفادة من خبراتهم القيادية المتراكمة لقيادة هذه الصحوات. 

تاريخ الاضافة: 04/08/2014
طباعة