موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || إيران و أمريكا انتصار الجيوبولتيكية
اسم المقالة : إيران و أمريكا انتصار الجيوبولتيكية
كاتب المقالة : المفكرة

فجأة وبدون مقدمات مقنعة أخذت إدارة أوباما في المضي قدما في تغييرات دراماتيكية في بنية الأحلاف السياسية والإستراتيجية إقليميا ودوليا ، فبعد عهود سبعة من التحالف التقليدي بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج عامة والعربية السعودية خاصة ، هاهي إدارة أوباما تسير باتجاه تفكيك هذا الحلف التقليدي مع العالم العربي السني وتتحول بقوة ناحية العالم الفارسي الشيعي ، ومهما يقال من توتر العلاقات بين أمريكا والسعودية بسبب تطورات الأزمة السورية وتداعيات الانقلاب العسكري في مصر ، وطموحات بندر وسخط السعوديين من تلكؤ الأمريكان ، ومهما يقال أيضا من علاقات واسعة سرية بين الجانبين الأمريكي والإيراني ، فإن الإقدام على تفكيك حلف عريق بلغ السبعين عاما لصالح حلف جديد لا يعلم يقينا مستقبله وتفاعلاته مع الأحداث المتغيرة ، فإن الإقدام عليه هو نوع من المخاطرة الكبيرة التي ولاشك ستحمل في طياتها كثيرا من الآثار الإستراتيجية إقليميا ودوليا . فما هو الدافع الحقيقي وراء هذا التغير الدراماتيكي في العلاقات الدولية ؟

نستطيع أن نلخص الأمر كله في  كلمة  واحدة وهي " الجيوبولتيكية الإيرانية "

الجيوبولتيكية هي مصطلح مركب من قطعتين يقصد به " علم سياسة الأرض " وهي ثمرة الدمج بين علمي الجغرافيا والسياسة ، وقد نشأ هذا العلم الهام في الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية ، وارتقى هذا العلم لمصاف العلوم العسكرية والسياسية الرفيعة في الحرب العالمية الثانية ، ونشأت له العديد من المدارس والنظريات والرواد ، وتطور تطورا هائلا بدخول القرن الحادي والعشرين . والجيوبولتيكا تضع الجغرافيا وحقائقها في خدمة حركة ونشاط الدولة السياسي ، بمعنى آخر وضع الجغرافيا كعنصر من أهم عناصر القوة في بناء الدولة السياسي .

ومن هنا برزت قوة إيران بصورة فرضت نفسها على الساحة إقليميا ودوليا ، فجيوبولتيكية إيران تعتبر من أهم عناصر قوة الدولة ، بل إنها تعتبر عند كثير من علماء الجيوبولتيكيا الدولة الأهم في تطبيقات هذا العلم الهام ، فإيران تطل على ثلاث مسطحات مائية هي الخليج العربي والمحيط الهندي وبحر قزوين بسواحل تقدر ب2500 كيلو متر ، كما تمتاز السواحل الإيرانية بعمق مياها مقارنة بالسواحل الغربية التي تطل عليها دول الخليج ، وهذا الطول البحري الكبير جعل إيران من القوى البحرية الكبرى التي يقدر حسابها في أي معادلة أو صراع ، كما أن هذا الطول جعلها تشرف على خطوط إمداد النفط عالميا ، وبالتالي تستطيع أن تؤثر بنسب متفاوتة في الاقتصاد العالمي . أما إطلالها على بحر قزوين فقد أعطاها كلمة مسموعة في تقاسم ثروات هذا البحر الذي اعتبر مع نهاية الحرب الباردة من أهم مناطق الطاقة في العالم . أما من الناحية البرية فلإيران حدود برية مع الكثير من الدول الهامة والإستراتيجية ، فهي تجاور من الشمال كل من تركمانستان وأذربيجان ، ومن الشرق أفغانستان وباكستان ، ومن الغرب العراق وتركيا ، وكلها بؤر ملتهبة في الصراع الدولي ، ولا يخفى على أحد أهمية كل هذه الدول في العلاقات الدولية والمعادلات الإستراتيجية .

علماء الجغرافيا يرون أن إيران هي الدولة الأهم جغرافيا على مستوى العالم ، فإطلالها على الخليج العربي جعلها تتحكم في كثير من شئونه ، والجغرافيون يقولون أن الخليج العربي هو مركز الكرة الأرضية ، وأمثل نقطة مركزية لاستمرار صحة اقتصاديات العالم واستقرارها ، وإيران تسيطر على مضيق هرمز الذي يتحكم في حركة النفط عالميا ، كما أن إيران تقع جغرافيا عند حافة اليابسة وفقا لنظرية الجغرافي الشهير " سبيكمان " والتي اعتبر السيطرة عليها أورآسيا ـ قلب الأرض ـ وبالتالي يسيطر على العالم ، كما أن حافة اليابسة هي نفسها منطقة " قوس الأزمات " عند السياسي الشهير " برجنسكي " وهو أحد مؤسسي السياسة الأمريكية الحديثة ، ويقصد بها العالم العربي الإسلامي أو الشرق الأوسط الكبير .

بالطبع هذه المزايا الجغرافية الفريدة لم تكن خافية على الأمريكان ، أو أنها طرأت فجأة على جغرافية إيران ، ولكن الذي طرأ هو الوضع الإستراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط في عهد ما بعد النفط . فقد كان النفط على الدوام هو محور السياسات الإستراتيجية لأمريكا والدول الكبرى في الشرق الأوسط الغنية بمواردها النفطية ، حيث يلعب النفط العربي دورا هاما ومؤثرا في السياسة الخارجية الأمريكية ، وهنا حدث الاشتباك بين الأهمية الاقتصادية القصوى لنفط المنطقة ، وبين مشاكلها وأزماتها الكثيرة والمتكاثرة باستمرار مما يؤثر سلبا على الاتجاهات الأمريكية والعالمية ، فمن مرتكزات النظام العالمي : أنه متى تأثر الاقتصاد وازدادت مشاكله ، كلما ازدادت الأزمات السياسية وتعوقت الخطط الإستراتيجية ، وارتفعت معدلات الأخطار العالمية ، والدليل على ذلك أزمة النفط العربي سنة 1973 ، ثم ارتفاع أسعاره سنة 1974 ، ثم حروب الخليج المتتالية ، ومن ثم كانت الخطط طويلة الأجل في السياسة الأمريكية والأوروبية تبحث دائما عن تصور لمرحلة ما بعد النفط العربي ، والخروج من قبضة منظمة أوبك ، وقد وضعت أمريكا سياساتها الجديدة في أعقاب أحداث سبتمبر 2001 ، وذلك من خلال عدة خطوات منها : اللجوء إلى اكتشافات جديدة في بقاع مشاكلها أقل وتعقيداتها أيسر ، مثل بحر قزوين وغرب أفريقيا . ومنها اللجوء لبدائل جديدة مثل الغاز الصخري الذي تم اكتشاف احتياطيات ضخمة منه في أمريكا والصين ، وتم التغلب على مشكلة ارتفاع تكلفة الاستخراج وآثاره البيئية الضارة . ومنها السيطرة على نفط العراق صاحب ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم ، وهو ما فعلته أمريكا فعلا منذ احتلال العراق سنة 2003 ، وبالتالي ضمن الأمريكان استمرار تدفق النفط بعيدا عن ضغوط منظمة أوبك عموما والعربية السعودية خصوصا .

الأمريكان بدءوا فعليا منذ الفترة الثانية لإدارة أوباما في المضي قدما نحو تغيير بنية الأحلاف الإقليمية ، فأحداث مثل اشتعال ثورات الربيع العربي التي أثبت فشل الأنظمة المتحالفة مع أمريكا ، وعجزها عن توفير نظام أمني مستقر ، فازدادت المشاكل والأزمات الإقليمية ، ثم جاءت الأزمة السورية لتمثل ذروة سنام الأزمة العالمية بعد أن أصبحت مخاضا لنظام دولي وإقليمي جديد ، ترتطم على أحداثه المتصاعدة كثير من المصالح المتعارضة ، كلها أمور دفعت الأمريكان مع دخول العهد الثاني للألفية الثالثة للتفكير جديا في نظام عالمي وإقليمي جديد .

أمريكا ترى اليوم في إيران عدوا يمكن التفاهم والتحالف معه ، خير من صديق وحليف مشاكله كثيرة وطلباته متزايدة ورغباته متعارضة . فإيران تحظى بكثير من المزايا التي لا توجد في دول الحلف القديم ، فهي دولة واحدة ، وليست عدة دول ، منسجمة داخليا إلى حد كبير ، ومشاكلها العرقية والطائفية أقل من دول الجوار ، وهي تملك وسائل التأثير في دول الجوار ، بإمداداتها الطائفية في هذه الدول ، في حين لا تملك دول الجوار نفس القدرة على التأثير على إيران ، وإيران أيضا دولة تمتلك الكثير من أدوات القوة من ضخامة المساحة ،وغنى الموارد ، وكثرة السكان ، وجيوبولتيكية فريدة لا يوجد مثلها في أي بقعة في العالم كله ، لهذه الأسباب وغيرها تمضي أمريكا قدما نحو تغيير شكل المنطقة بأسرها ، ولاشك أنه سيكون فاتحة أحداث ضخمة تقع في الأيام المقبلة ربما نرى معها انهيار ممالك وإمارات وقيام أخرى ، وربما انهيار حضارات وقوى عظمى ، من يدري ؟

تاريخ الاضافة: 21/11/2013
طباعة